مع تزايد النمو الاقتصادي والعسكري والسكاني للصين خلال السنوات الأخيرة, ثمة تنبؤات وتقديرات لدى العديد من الخبراء ومراكز الفكر تشير إلى أن السياسة العالمية تتجه نحو عصرِ ستكون فيه الصين – وليس الولايات المتحدة – هي اللاعب المهيمن على العالم، حيث تعتمد مثل هذه التوقعات على أن واشنطن في تراجع مستمر كقوة عالمية، على عكس بكين.
ورغم المؤشرات الدالة على الصعود الصيني, بيد أن “جوزيف ناي” Joseph Nye, عالم السياسة البارز وأستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد, يرى عكس تلك التوقعات، في كتابه الجديد: (هل انتهى القرن الأمريكي؟)، مشدداً على أن “القرن الأمريكي” مايزال صامداً.
متى بدأ القرن الأمريكي؟
قبل الشروع في إثارة تساؤل: هل انتهى “القرن الأمريكي”؟، يوضح “ناي” بداية ذلك القرن، فقد يكون نهاية القرن التاسع عشر هو بداية تأريخ القرن الأمريكي, عندما أصبحت الولايات المتحدة القوة الصناعية الأكبر عالمياً. وعندما بدأ القرن العشرين, استأثرت واشنطن بربع الاقتصاد العالمي وحدها، واستمر ذلك عشية الحرب العالمية الثانية، إذ دمرت تلك الحرب كل الاقتصاديات الرئيسية في العالم. وفي الوقت نفسه, تعزز الاقتصاد الأمريكي، بحيث أصبح يمثل وحده نصف اقتصاديات العالم في الفترة التي تلت الحرب.
وظهر مصطلح “القرن الأمريكي” في عام 1941، ويعود إلى الناشر الأمريكي Henry Luce، وكان الهدف من صكه رغبته الشديدة في أن تلعب الولايات المتحدة دوراً أساسياً في الحرب العالمية الثانية. وفي الوقت ذاته, كان هناك شعور قوى بانعزالية الولايات المتحدة، إذ قاوم أفراد المجتمع الأمريكي فكرة مشاركة بلادهم في الأحداث الدولية آنذاك. ومنذ الاستخدام الأول لهذا المصطلح, لاتزال الولايات المتحدة هي اللاعب المهيمن في توازن القوى العالمي.
وظهرت العديد من الكتابات خلال الآونة الأخيرة تؤكد على الصعود الصيني، ومنها على سبيل المثال المؤرخ البريطانى البارز Neil Ferguson، الذي رأى أن القرن الحادى والعشرين هو القرن الصيني، أو كتاب الباحثة البريطانية Martin Jock، المعنون: “عندما تحكم الصين العالم.. نهاية العالم الغربي وولادة نظام عالمي جديد” والصادر في عام 2012. كما نشر Joseph Stiglitz – الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل عام 2001، مقالة يؤكد فيها أن الاقتصاد الصيني تجاوز نظيره الأمريكي.
ومن هنا، يذهب “جوزيف ناي” إلى صياغة حجة داحضة لتلك الرؤى السابقة، مؤكداً على أن القرن الأمريكى لم ينته بعد، بل ويتوقع أن تظل الولايات المتحدة القوة المهيمنة عالمياً حتى مع حلول عام 2041.
بين التراجع الأمريكي والصعود الصيني
يرى “ناي” أن مفهوم “التراجع” هو مفهوم مربك ومضلل, لأنه يدمج شيئين مختلفين معاً، وهما: “التراجع التام” و”التراجع النسبي”. فالتراجع التام هو الذي يؤدي إلى تفوق الدول الأخرى على دولة كانت تتمتع بهيمنة عليها، ولكنها تراجعت نتيجة إعاقة داخلية. أما التراجع النسبي، فهو يحدث عندما تتراجع هيمنة دولة ما نتيجة تحقيق الدول الأخرى نمو أفضل منها, وليس نتيجة انهيار الأولى.
ومثال ذلك, توقع كل من “هنرى كيسنجر” و”ريتشارد نيكسون” في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، أن الولايات المتحدة في طريقها إلى الانحدار, وأن العالم يتجه نحو التعددية القطبية؛ إذ يرى “ناي” أن ذلك الرأي صحيح من ناحية واحدة, لأنه في عام 1945 استأثرت واشنطن بحوالي نصف اقتصاديات العالم, وكان ذلك نتيجة تدمير أغلب الاقتصاديات الكبرى في الحرب العالمية الثانية، ولكن عند قياس نصيب الولايات المتحدة من الناتج العالمي خلال الفترة بين 1945 – 1970, فإن هناك انخفاضاً باستمرار خلال هذه الفترة مما يقرب من 50% إلى حوالى 25% عام 1970. ومن ثم، قد يكون “نيكسون” و”كيسنجر” أدركا ذلك الانخفاض على أنه تدهور في القوة الأمريكية, ولكن ما أساءوا فهمه هو استمرارية هذا الانهيار، وهو ما لم يحدث واقعياً، ولذا فبدلاً من توقعهما بأن العالم سيكون متعدد الأقطاب، أصبح بنهاية القرن العشرين أُحادي القطبية بزعامة أمريكية.
ويثبت “جوزيف ناي” صحة حجته حول “صمود القرن الأمريكي”، بعدد من الدلائل، وهي:
1 ـ فيما يتعلق بالتركيبة السكانية: تعتبر الولايات المتحدة هي ثالث أكبر دولة بالعالم بعد الصين والهند. ويتوقع خبراء الديموغرافيا في الأمم المتحدة أن ذلك الترتيب سيظل كذلك حتى عام 2050، حيث ستبقى واشنطن الدولة الوحيدة التي ستحافظ على تصنيفها العالمي, ويعود ذلك إلى تزايد معدلات الهجرة إلى الولايات المتحدة.
2 ـ فيما يتعلق بالطاقة: من المرجح أن تظل الولايات المتحدة مكتفية ذاتياً حتى العقد الثاني من القرن الحادى والعشرين بسبب ثورة “الصخر الزيتي”، علاوة على كونها رائدة في مجال الأبحاث والتطوير, بما في ذلك المجال التكنولوجي الذي سيكون أكثر أهمية خلال ذلك القرن.
ويُعزز ذلك دور الجامعات الأمريكية التي ستظل متقدمة بفارق كبير في المنافسة العالمية، بالإضافة إلى ازدهار ثقافة العمل الحر في الولايات المتحدة, والتي يزداد الناتج الاقتصادي فيها أسرع من أي مكان آخر في العالم.
وبالتطرق إلى مفهوم التراجع النسبي, ووفقاً لتوقعات صندوق النقد الدولى, فإن حصة الولايات المتحدة في الإنتاج العالمي ستنخفض إلى حوالى 18% خلال العام القادم. ولا يعني ذلك الانخفاض تراجع واشنطن ذاتها, ولكنه يعكس “صعود باقي الدول” The Rise of the Rest, حيث إن الدول الأخرى ستحقق نمواً جزئياً نتيجة السياسة الأمريكية التي شجعتهم من قبل على الولوج في منظمة التجارة العالمية.
ثلاثة أبعاد للقوة الأمريكية
في إطار محاولاته الإجابة عن السؤال المركزي للكتاب عن مدى انتهاء القرن الأمريكي أو بالمعنى المقابل الصعود الصيني العالمي، يُعرف “جوزيف ناي” القوة بأنها “القدرة على التأثير في الآخرين للحصول على أفضل النتائج”. ويمكن تحقيق ذلك من خلال ثلاثة أنواع من القوة ينبغي التمييز بينها وهى: الإكراه Coercion, والعقوبات المالية Payment, وقوة الجذب Attraction. ويُطلق على أول نوعين “القوة الصلبة”, بينما الأخيرة هي “القوة الناعمة”.
ويوضح الكاتب كل واحدة منها، كالتالي:
1 ـ القوة الاقتصادية: يركز معظم المحللين على قياس القوة الاقتصادية من خلال الحجم الكلي أو الإجمالي لاقتصاد دولة ما؛ إذ يُقاس حجم الاقتصاد الصيني بما يُسمى “قيمة القوة الشرائية” Purchasing power parity, والذي تجاوز الاقتصاد الأمريكي خلال السنوات الأخيرة. ومع ذلك, لا تعكس قيمة القوة الشرائية القوة الحقيقية للاقتصاد.
وبالتالي, ثمة وسيلة أخرى لقياس مقدار القوة الاقتصادية، وهو “نصيب دخل الفرد”. ويمثل مقدار دخل الفرد في الولايات المتحدة أربعة أضعاف الدخل في الصين. ومن ثم, لن يتجاوز الاقتصاد الصيني نظيره الأمريكي حتى مع معدلات النمو الصينية الحالية.
وعلى الرغم من تصنيف الصين كأكبر دولة تجارية في العالم, إلا أن معظم صادراتها تتكون من منتجات رديئة الجودة، وبالتالي إذا لم تخرج بكين من نموذج النمو الذي تقوده في تصدير المنتجات منخفضة القيمة، فمن المرجح أن يجنح الاقتصاد الصيني نحو الهبوط الحاد.
2 ـ القوة العسكرية: لاتزال الميزانية العسكرية الأمريكية تعادل أربعة أضعاف نظيرتها الصينية، ولكن لا يمكن إغفال زيادة قدرات الصين جزئياً على المستوى الإقليمي، وسعي بكين لبناء ضعفي ترسانة صواريخها الباليستية وصورايخ كروز, والتي يمكن أن تُعرض السفن الأمريكية للخطر.
وإذا سعت الصين لزيادة اعتمادها على نفط الشرق الأوسط, بينما تقلل الولايات المتحدة من تركيزها عليه, فإن بكين ستبحث عن ممرات بحرية من خلالها سيتدفق البترول إلى الصين. ومع زيادة قدراتها البحرية، فإنها ستشكل خطراً على التواجد الأمريكي في هذه المنطقة الهامة.
3 ـ القوة الناعمة: وهي البعد الثالث من أبعاد القوة, إذ تسعى بكين إلى زيادة قوتها الناعمة على محمل الجد. وتعد استراتيجية دمج القوة الناعمة مع القوة الصلبة من الاستراتيجيات الذكية التي تتبعها الحكومة الصينية, ولكن بكين أمامها معوقين أساسيين كي تزيد من قوتها الناعمة: الأول, عدم رغبة الحزب الشيوعى الصيني في إطلاق العنان أمام منظمات المجتمع المدنى هناك.
وفي هذا الصدد، يرى “ناي” أن الحكومات لا يمكنها الاعتماد على ذاتها فحسب من أجل تعزيز قوتها الناعمة دولياً، وهو ما يعني ضرورة الاعتماد كذلك على قدرات المجتمع المدني والجامعات والتبادل الطلابي وصناعة السينما مثل هوليود. ومن ثم، يخلص الكاتب إلى أن سيطرة الحكومة الصينية على المجتمع المدني المحلي وتقليص دوره في تقويه قوتها الناعمة دولياً، سيؤدى حتماً إلى تراجع نفوذها العالمي.
أما ثاني المعوقات أمام تعزيز بكين قوتها الناعمة، فيتعلق بالقومية الصينية وتصاعد وتعدد النزاعات الإقليمية للصين مع دول الجوار مثل اليابان والفلبين وفيتنام والهند.
ختاماً, يؤكد “جوزيف ناي” أن الصين رغم النمو الاقتصادي الذي حققته, لن تقف على قدم المساواة في القوة الاقتصادية والعسكرية, وأيضاً “القوة الناعمة” مع الولايات المتحدة، إذ إن بكين يمكنها الاعتماد على قدرات 1.3 مليار نسمة, لكن واشنطن يمكنها الاعتماد على مواهب وقدرات 7 مليار نسمة, طالما أنها تحافظ على قبول المهاجرين من جميع أنحاء العالم وتستفيد من تنوعهم.
وهكذا، يخلص “ناي” في كتابه الجديد إلى عدد من النتائج، يمكن إبراز أهماها في التالي:
1 ـ لا يمثل سلوك الصين تهديداً وجودياً للولايات المتحدة، لأن ما تريده بكين هو بعض التعديلات في النظام الإقليمي, ولكن ليس بالضرورة على المستوى العالمي.
2 ـ وفقاً لتوازن القوى الإقليمي في آسيا, لا تريد دول مثل استراليا واليابان والصين والهند وفيتنام، أن يسود النفوذ الصيني. وبدلاً من ذلك, تسعى تلك الدول لإقامة تحالف مع الولايات المتحدة. وطبقاً لذلك, فإن المشكلة بالنسبة للولايات المتحدة ليست في محاولة احتواء الصين, لكن كل ما تريده هو دمج الصين في النظام الدولي، أو كما صرح روبرت زوليك، نائب وزير الخارجية الأمريكي السابق، بقوله: “نحن نريد تشجيع الصين كي تصبح شريكاً مسؤولاً”. أي أنه مع التواجد الأمريكي النشط في منطقة شرق آسيا, يمكن لواشنطن أن تساعد بكين في تشكيل البيئة التي تشجع تشكيل سلوك صيني مسؤول.
ويعني ذلك ما يطلق عليه “ناي”: “إعادة التوزان نحو آسيا”, من أجل تأسيس مناطق للتعاون مع الصين مثل الاستقرار النقدي، والتعاون في قضية التغير المناخي, والتعامل مع الأوبئة.
أخيرا، ينظر “جوزيف ناي” نظرة يشوبها التفاؤل حول مستقبل القوة الأمريكية خلال القرن الحادي والعشرين, معتبراً أن القرن الأمريكي لم ينته بعد, وأن الصين لن تتفوق على الولايات المتحدة, بل ستتجه العلاقة بينهما نحو مزيد من التعاون.
* عرض مُوجز لكتاب (هل انتهى القرن الأمريكي؟) من تأليف عالم السياسة ومنظر العلاقات الدولية “جوزيف ناي”, والصادر في يناير 2015.
المصدر
Joseph S. Nye, Is The American Century Over?) USA, Polity Press, January 201(5 pp 152.
جوزيف س. ناي
نقلا عن مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة