ملخص
برزت فكرة التدخل الدولي في ليبيا مع دعوة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للتدخل في الأزمة بعد إعدام تنظيم الدولة 21 قبطيًّا مصريًّا في فبراير/شباط الماضي، لكن هذه الدعوة لم تلق صدى لدى الدول العربية والدولية التي فضَّلت الحل السلمي عن التدخل العسكري. ويبدو أن هذا الموقف استند لاعتبارات أو إشكاليات قانونية وسياسية ترتبط بهذا التدخل لعل أبرزها إشكاليات الداخل المتعلقة بعدم وجود نظام سياسي واحد في البلاد، فضلًا عن تباين مواقف الطرفين المتنازعين بشأن التدخل. وربما عزز من هذه الإشكالية وجود حالة من الفتور العربي بصفة عامة، والدولي بصفة خاصة إزاء التدخل الدولي خشية تعرض مصالح الدول المتدخلة للضرر، أو استخدام بعض الدول –كروسيا- حق الفيتو في مجلس الأمن لإيقاف أي قرار يجيز هذا التدخل، خاصة أن موسكو كانت لديها تحفظات على فكرة تدخل الناتو عبر فرض مناطق حظر طيران على نظام القذافي إبان ثورة فبراير/شباط 2017. ويبقى دور الوساطة ودعم جهود المبعوث الأممي برناردينو ليون “التدخل عبر التسوية السلمية” الاتجاه الأقرب للتحقيق بعدما ظهر عدم القدرة على حسم الصراع عسكريًّا بين الفرقاء. كما يبقى سيناريو إرسال قوات حفظ سلام دولية واردًا من ناحية، بالإضافة إلى دعم تكوين جيش وطني يأخذ على عاتقه مواجهة تنظيم الدولة من ناحية ثانية.
أثارت الدعوة التي أطلقها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في مقابلة بثتها إذاعة أوروبا الفرنسية في 17 فبراير/شباط 2015، بطلب صدور قرار من مجلس الأمن بالتدخل الدولي في ليبيا، ومنح تفويض لتشكيل تحالف دولي في هذا الصدد، ثم الطلب الذي تقدم به الأردن، العضو الحالي في المجلس، بالتنسيق مع مصر بشأن رفع حظر السلاح عن حكومة طبرق تساؤلات عدة بشأن الإشكاليات القانونية والسياسية المتعلقة بهذا التدخل على مختلف الأصعدة الداخلية والخارجية بشقيها الإقليمي العربي والدولي، فضلًا عن حدود هذا التدخل والتفويض المحتمل لهذه القوات. لكن قبل التطرق لهذه النقاط ينبغي التأكيد على بعض المفاهيم الخاصة بعملية التدخل في الصراعات الداخلية وما يرتبط بها من أنماط التسوية، التي قد تفيد في فهم مغزى هذه الدعوة من ناحية، وإمكانياتها السياسية والقانونية من ناحية أخرى.
إشكالية التوافق الداخلي على التدخل الدولي
من الشروط القانونية التقليدية للتدخل الخارجي في الصراعات الداخلية هو موافقة نظام الحكم على فكرة التدخل وفق مبدأ السيادة الوطنية؛ وهو ما تستند إليه روسيا في تبرير رفضها التدخل الدولي في الأزمة الروسية لعدم موافقة بشار الأسد على ذلك. وقد طرأت تعديلات على هذا المبدأ منذ تسعينات القرن الماضي؛ حيث بات الحديث عن إمكانية التدخل الدولي في الصراعات الداخلية دون موافقة تلك النظم عندما ترتكب هذه النظم جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو إبادة جماعية فيما يُعرف بالتدخل الدولي الإنساني، كما حدث في التدخل الدولي لإنقاذ المسلمين في جمهوريات يوغوسلافيا السابقة.
وبتطبيق الشرط التقليدي الخاص بمبدأ السيادة، وضرورة موافقة النظام الحاكم في ليبيا على التدخل، نجد أن هناك نزاعًا في السيادة بين برلمان طبرق والمؤتمر الوطني العام، وفي الوقت الذي يعترف فيه المجتمع الدولي ببرلمان وحكومة طبرق، فإن حُكم المحكمة الدستورية العليا الليبية بحل هذا البرلمان أعطى سندًا دستوريًّا داخليًّا للمؤتمر الوطني العام وحكومة الحاسي. ويرتبط بتلك الإشكالية القانونية إشكالية أخرى تتعلق بالوضع الميداني والتداخل بين مناطق نفوذ كل من طرفي النزاع من ناحية، فضلًا عن عدم التمييز بدقة بين القوى الإسلامية الموصوفة بالتشدد وغيرها، لاسيما أن القوى الإسلامية بشقيها المعتدل والمتطرف منتشرة في جميع أنحاء البلاد؛ ففي الشرق توجد جماعة أنصار الشريعة المرتبطة بتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي في مدينة بنغازي، وقد صنَّفتها الولايات المتحدة منظمة إرهابية. أما درنة شرقًا التي تعرضت للقصف المصري فهي المدينة الأولى في إفريقيا التي أعلنت الولاء لـتنظيم الدولة الإسلامية في أكتوبر/تشرين الأول 2014.
ولا يختلف الوضع كثيرًا في الجنوب؛ فقد ارتبطـــت قوات فجر ليبيا بالطوارق في صراعهم ضد قبــــائل التبو للسيطرة على واحة عرابي وحقل الشرارة النفطي، كما تشكِّل فزان «قاعدة خلفــية اقتصادية للقاعدة وجماعة “المرابطين” (الجماعة السلفية الجهادية النشطة في شمال مالي والنيجر)(1)، بالإضافة للغرب الذي يخضع بصورة شبه كاملة لسيطرة فجر ليبيا.
وهنا يُطرح التساؤل حول الطرف المستهدَف من التدخل حال صدور قرار بشأنه: هل هو القاعدة وأنصار الشريعة وتنظيم الدولة، وبالتالي يمكن أن يكون التركيز في الشرق والجنوب مع صعوبة ذلك بسبب المساحة الجغرافية الشاسعة والتي تتطلب أعدادًا كبيرة من القوات المتدخلة، فضلًا عن ارتفاع تكلفة العملية؟ أم أن التدخل المنشود سيشمل أيضًا قوات فجر ليبيا، وبالتالي يصبح لدينا ثلاث جبهات للتدخل “حفتر و فجر ليبيا وتنظيم الدولة”، وهو أمر يجعل هناك استحالة عملية لإرسال هذه القوات.
أما بالنسبة للمبدأ الجديد الخاص بالتدخل الدولي في الصراعات الداخلية دون موافقة النظام الحاكم، فهو مرهون بحالات ثلاث: “الإبادة الجماعية، جرائم حرب، جرائم ضد الإنسانية”. وحتى هذه اللحظة لم يُصنِّف المجتمع الدولي الوضع في ليبيا بأي من الحالات الثلاث، لاسيما أن أعمال العنف تُرتَكب من كلا الطرفين ضد الآخر، وإن شئنا الدقة، فإنها تنطبق على قوات حفتر التي تقصف في شرق البلاد.
إشكالية وجود حاضنة عربية مؤيدة للتدخل
رغم أن فكرة التدخل الدولي منوطة تحديدًا بمجلس الأمن الدولي باعتباره الجهة الوحيدة المنوط بها حفظ السلم والأمن بموجب ميثاق الأمم المتحدة، فضلًا عن أن المنظمات الإقليمية حال رغبتها في التدخل في أحد الصراعات الواقعة في نطاقها لابد أن تأخذ موافقة المجلس بموجب الفصل الثامن من الميثاق، إلا أنه أحيانًا تحتاج الدول الكبرى مبررًا للتدخل من قِبل المنظمات الإقليمية نظرًا لعدم وجود رغبة حقيقية في التدخل، أو بسبب الخشية من وجود اعتراضات لدى الرأي العام على هذا التدخل. وهو ما حدث في تدخل حلف الأطلسي إبَّان الثورة الليبية؛ حيث كان هناك موقف إيجابي للجامعة العربية داعم لفكرة التدخل متمثل في القرار رقم 7298 بتاريخ 2 مارس/آذار 2011 الذي اتخذته الجامعة بشأن الموافقة على فرض حظر جوي على ليبيا من أجل حماية المدنيين، وليس التدخل البري نظرًا لوجود خلاف على ذلك، وهو ما أكده في حينها وزير خارجية سلطنة عمان “يوسف بن علوي” الذي ترأَّس اجتماع وزراء الخارجية؛ حيث أشار في مؤتمر صحفي مشترك مع الأمين العام للجامعة عمرو موسى إلى أن الدول العربية توافقت على قرار فرض الحظر الجوي على ليبيا، ورفضت في الوقت نفسه أي شكل من أشكال التدخل العسكري البري؛ حيث أكد ابن علوي أن هذا الحظر ينتهي بانتهاء الأزمة الليبية.
وأكد ذلك عمرو موسى الذي أشار إلى أن قرار مجلس الجامعة بفرض حظر جوي على الأجواء الليبية لا يعني التدخل العسكري بأية حال من الأحوال، مؤكدًا على أن الحظر الجوي لا يعدو أن يكون عملية وقائية وليست عسكرية غرضها حماية المدنيين الليبيين. وقد مهَّد هذا القرار الطريق لإصدار قرار مجلس الأمن رقم 1973 في 17 مارس/آذار 2011 القاضي بتدخل قوات الناتو، وتخويلهم صلاحية فرض الحظر الجوي ومراقبة نجاعته بمشاركة دول عربية، هي: قطر، والإمارات، والكويت. ومما سهَّل موقف الجامعة بهذا الخصوص، علاقات القذافي السيئة في حينها مع عدد من الدول العربية لاسيما دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية وقطر(2).
لكن في الأزمة الليبية الأخيرة، لم تتحرك الجامعة في هذا الاتجاه نظرًا لوجود انقسام عربي لاسيما من قبل دول جوار ليبيا بشأن أي نوع من التدخل، بما في ذلك فرض حظر جوي. فالدول الأعضاء في الاتحاد المغاربي، المغرب، وتونس، والجزائر “رفضت فكرة التدخل لأسباب مختلفة؛ فالجزائر تعارض أي تدخل خشية تدفق الجهاديين نحو حدودها، أما تونس والتي يوجد بها أكثر من مليون لاجئ ليبي فتخشى أن يؤدي التدخل إلى أن يتحول هؤلاء إلى بؤر إرهابية، أو من انتقام أنصار جماعة أنصار الشريعة التونسية، كما أن عقيدة الجيش التونسي قائمة على رفض فكرة التدخل خارج حدود البلاد إلا للضرورة القصوى، وهي غير مطروحة على الأقل في الوقت الراهن. ولعل الموقف المغربي منذ بداية اندلاع الأزمة في مايو/أيار 2014 جاء في إطار رفض فكرة التدخل والتأكيد على التسوية السياسية للأزمة، وهو ما أكده الديوان الملكي في رده على طلب رئيس المؤتمر الوطني العام بشأن التدخل لدعم المؤتمر في مواجهة حفتر(3).
إشكالية الموقف الدولي من فكرة التدخل
هناك مجموعة من العقبات التي قد تحول دون حدوث هذا التدخل أيًّا ما كان مستواه عبر صدور قرار من مجلس الأمن بهذا الصدد، لعل أبرزها عدم تحمس القوى الكبرى “صاحبة حق الفيتو” له لاعتبارات تتعلق بمصالحها من جهة، وللخشية من تكلفة هذا التدخل من ناحية ثانية. فبالنسبة لروسيا فهي لم تكتفِ بتحفظها هذه المرة على التدخل، وإنما سبق لها أن تحفظت على فكرة التدخل في ليبيا 2011 عبر الامتناع عن التصويت في مجلس الأمن لعلاقاتها القوية بنظام القذافي، وهي تكرر نفس الموقف الآن بالنسبة للتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة؛ حيث ترى أن قرار مجلس الأمن في هذا الصدد قاصر على المادة 41، والأمر يتطلب ضرورة موافقة نظام الأسد على التدخل. ولعل هذا يفسر أسباب عدم وجود تدخل دولي بري لمواجهة التنظيم في سوريا رغم أن هناك مناطق خاضعة له بصورة كبيرة، ناهيك عن كونه أكثر خطورة من الحالة الليبية.
أما بالنسبة للولايات المتحدة فهناك عدة أسباب لعدم ترحيبها بالتدخل وترحيبها بالحل السلمي عبر التسوية السياسية، من أهمها رغبة واشنطن في استمرار تدفق النفط الليبي إليها، خاصة أن ما تحصل عليه تصل نسبته إلى 5% فقط، وبالتالي فهي حريصة على عدم ذهاب مواقع النفط الرئيسية إلى جهات تعمل خارج إطار المصالح الأميركية ربما تكون الآسيوية أو الأوروبية، خاصة أن تلك المصافي تقع في المناطق الوسطى والجنوبية التي تسمى بالمثلث النفطي (الزاوية، السرير، سرت، طبرق، راس لانوف) والتي تسيطر عليها الآن قوات فجر ليبيا(4)، وثانيها: خشية الأميركيين من تكرار ما حدث لسفيرهم الذي تم اغتياله في بنغازي سبتمبر/أيلول 2012، وكذلك تجارب التدخل الأميركي الفاشلة في الصومال عام 1993، ثم في أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003. أما فرنسا فهي ترحب بالحوار والوساطة السياسية أولًا، وإن كانت الخيارات العسكرية تبقى قائمة لاسيما في ظل وجود قوات لها في دول الجوار الليبي في تشاد والنيجر ومالي. وما زال هناك تردد فرنسي في قضية التدخل في ليبيا، وهو ما برز في تصريحات وزير الدفاع إيف لودريان خلال زيارته للنيجر أوائل هذا العام حيث أشار إلى أنه يتعين على القوى الكبرى معالجة الاستقرار في ليبيا، لكنه لم يشر صراحة إلى التدخل الدولي الذي طالبت به دول الجوار الإفريقي (5).
ويُلاحَظ أن القوى الكبرى -بصفة عامة- لا تتحمس للتدخل لتعقد المشهد السياسي والأمني في ليبيا، وما قد يترتب على تدخلها من آثار سلبية على مصالحها لاسيما من قبل القوى الرافضة لتدويل الأزمة.
إشكالية الأمم المتحدة والتدخل في ليبيا
يلاحَظ أن الفقرة الرابعة من قرار مجلس الأمن 1973 الذي صدر في مارس/آذار 2011 “أي أثناء الثورة”، والذي استند إليه الناتو في فرض حظر جوي لحماية المدنيين من ممارسات القذافي تنص على رفض فكرة وجود قوات أجنبية على الأرض رغم انتهاكات القذافي للمدنيين خاصة في بنغازي، حيث جاء في الفقرة 4 ما نصُّه “يؤذن للدول الأعضاء التي أخطرت الأمين العام، وهي تتصرف على الصعيد الوطني أو عن طريق منظمات أو ترتيبات إقليمية، وبالتعاون مع الأمين العام، باتخاذ جميع التدابير اللازمة، رغم أحكام الفقرة 9 من القرار 1970 (2011)، لحماية المدنيين والمناطق الآهلة بالسكان المدنيين المعرضين لخطر الهجمات في الجماهيرية العربية الليبية بما فيها بنغازي، مع استبعاد أي قوة احتلال أجنبية أيًّا كان شكلها وعلى أي جزء من الأراضي الليبية”(6) كما نصَّ على حظر توريد الأسلحة إلى ليبيا بموجب الفقرة 9 من قرار 1970 في 26 فبراير/شباط 2011 وربما ورد بعض الاستثناءات الخاصة بتلك الأسلحة الخفيفة وما يرتبط بها من أغطية وسترات واقية للرصاص للمنظمات العاملة في المجالات الإنسانية وكذلك الصحفيين الموجودين في حينها. وفي القرار 2174 وفي الفقرة 8 أعاد التأكيد على أن عملية توريد الأسلحة هذه تتم من خلال موافقة اللجنة التي تتشكل من أعضاء مجلس الأمن”. وهذا يعني أن هناك إشكالية تتعلق برفع حظر السلاح لصالح قوات حفتر بناء على الطلب المصري/الأردني، تتمثل في ضرورة موافقة اللجنة التي تضم أعضاء مجلس الأمن، والتي لا تزال ترى أن دعم حفتر لن يمكِّنه من تحقيق انتصارات على الطرف الآخر، بل سيسهم في تعقيد المشهد بأكمله.
وبفرض -“جدلي”- أن مجلس الأمن سيوافق على التدخل الدولي، فإن السؤال يبقى: ضد من سيكون هذا التدخل؟ وهل سيكون ضد تنظيم الدولة أم ضد الفصائل المعارضة لحكومة طبرق باعتبار هذه الحكومة هي المعترف بها دوليًّا؟
لا شك أن الجزء الأول “التدخل ضد تنظيم الدولة” قد يكون هو الأكثر تبريرًا، لأنه قد يكون من المهم التمييز بين الجماعات التي تشكِّل عملية “فجر ليبيا” وبين الجماعات الرافضة لكل من فجر ليبيا وحفتر مثل أنصار الشريعة. بل لابد من التأكيد على أن أفضل تدخل سيكون بعد التوصل لاتفاق سياسي بين الكرامة وفجر ليبيا، وبناء عليه سيكون للأخيرة دور مهم في مواجهة تنظيم الدولة، وهو ما أعلنت عنه بعد عملية إعدام الأقباط المصريين.
وتُعتبر مناطق انتشار قوات التدخل معضلة أيضًا؛ حيث إن فكرة إرسال قوات دولية ليست جديدة، وإنما سبق أن طرحها برلمان طبرق في أغسطس/آب الماضي عندما كان النزاع على أشده؛ حيث طالب في حينها بنشر قوات دولية لحماية المؤسسات المنتخبة، والمواقع الاستراتيجية كمطار طرابلس الذي كان محور الاشتباكات وانتهي الأمر لصالح سيطرة فجر ليبيا عليه. حيث اكتنف تحقيق هذا الطلب عدة صعوبات عملية رغم أن مناطق الانتشار ستكون محددة ببنغازي وطرابلس فقط. لتعدد مناطق القتال في كل أنحاء البلاد من ناحية، علاوةً على أنه وفق التجارب السابقة للتدخل في المناطق الأكثر إشكالية، بما فيها تلك التي تواجه حروبًا أهلية، فإنه كي تكون هذه القوة فعَّالة لابد أن يكون عددها بمعدل عشرة جنود مقابل كل ألف مدني لتعمل بصورة فعّالة، وبما أن عدد سكان مدينتي طرابلس وبنغازي يزيد عن 3 ملايين نسمة، فإن المطلوب أكثر من 30 ألف جندي. وهو أمر تكتنفه صعوبات نظرًا لكبر الحجم من ناحية، فضلًا عن عدم ترحيب فصائل تابعة لفجر ليبيا تحديدًا بوجود قوات مصرية وأردنية باعتبارها غير محايدة، فضلًا عن التكلفة المالية(7).
حدود التدخل “التفويض”
إن عمليات حفظ السلام بمعناها التقليدي تشير إلى وجود اتفاق سياسي بين الفرقاء المتحاربين لوقف إطلاق النار، ووجود خطوط لفض الاشتباك. وبالتالي يكون دور هذه القوات مراقبة مدى التزام هذه الأطراف بتلك العمليات، فهي قوات تقوم بمهام الوساطة؛ لذا يتطلب الأمر أولًا وجود اتفاق سياسي، كما أن القوات المتدخلة لن تكون لها مهام قتالية إلا في حالة الدفاع عن النفس فقط، حتى وإن كان تدخلها مرتبطًا بالفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وبالتالي فإن الطلب المصري أو غيره بإصدار مجلس الأمن قرارًا بالتدخل، من خلال قوات فرض سلام للمشاركة في القتال في مواجهة تنظيم الدولة وجماعة فجر ليبيا، أمر غير مقبول نظرًا للتكلفة العالية من ناحية، وللتجهيزات والمعدات التسليحية اللازمة لها من ناحية ثانية(8).
كما أن هناك صعوبات حقيقية في إرسال قوات تابعة للاتحاد الإفريقي بسبب ضآلة فاعلية هذه القوات في حالات أخرى، مثل: دارفور، والصومال، ناهيك عن حجم التكلفة وعقبات التمويل من ناحية ثانية. فضلًا عن أن طلب تسليح فصيل ضد آخر، مثل التعديل الذي تم على الطلب المصري بتخفيض الطلب من التدخل إلى رفع حظر السلاح عن قوات حفتر باعتبارها تابعة للحكومة المعترف بها، يعني زيادة الصراع وعدم قبول الطرف الآخر “فجر ليبيا” بأية وساطة دولية، باعتبار أن المجتمع الدولي منحاز لفئة على حساب فئة أخرى.
خاتمة
يُلاحظ أن قرارات مجلس الأمن المتعلقة بليبيا خاصة منذ بروز الصراع الأخير بين عمليتي الكرامة وحفتر تؤكد على الحل السلمي من ناحية وحظر التمويل والسلاح للجماعات المسلحة “القاعدة تحديدًا” من ناحية أخرى، كما جاء في ديباجة قرار 2174 في أغسطس/آب 2014 التي تشير إلى إبداء المجلس قلقه إزاء تزايد وجود المسلحين من جماعات وأفراد مرتبطين بتنظيم القاعدة، ولم يُشِر في حينها إلى تنظيم الدولة.
وبالتالي، قد يكون الحل البديل لفكرة التدخل العسكري، أو حتى رفع حظر السلاح بناء على الاقتراح المصري، هو الإسراع بتشكيل حكومة وطنية من كل الأطراف، تمهد لبناء جيش موحد يكون هدفه حفظ السلم والأمن في الداخل، ومواجهة كل القوى المسلحة الأخرى سواء تلك الموصوفة بالمتشددة أو المتطرفة على حد سواء.
هناك مشكلة حقيقية الآن تتمثل في عدم وجود جيش وطني بالمعنى المؤسسي بسبب الانقسامات السياسية من ناحية ووجود الجماعات المسلحة من ناحية ثانية، لاسيما تلك التي تقف في المعسكر المناهض لحفتر والمنضوية تحت عملية فجر ليبيا “غرفة عمليات الثوار، قوات درع ليبيا، شهداء 17 فبراير وغيرها”؛ حيث تخشى من أن يؤدي تسليم سلاحها إلى نكوص الطرف الآخر. وبالتالي، فإنه لن يتم بناء الجيش والشرطة على أسس سليمة ما لم يتم التوصل لتسوية سياسية للأزمة. وهو ما أكده مسؤول كبير في وزارة الخارجية في شهادته الأخيرة أمام الكونغرس الأميركي؛ حيث أعاد التأكيد على التزام الولايات المتحدة بتدريب الجيش الليبي، ولكن نظرًا إلى الانقسام الحالي بين قوات فجر ليبيا وعملية الكرامة، فإن المضي قدمًا في الخطة ينطوي على مخاطر كبيرة(9)؛ ومن ثم تصبح هناك صعوبة في التدخل الدولي، لأنه يتطلب تنسيقًا أمنيًّا، وتبقى هناك مشكلة وهي عدم سيطرة الجيش على كل البلاد، بما في ذلك الشرق ومناطق تواجد حفتر.
ويبقى دور الوساطة ودعم جهود المبعوث الأممي برناردينو ليون و”التدخل عبر التسوية السلمية” الاتجاه الأقرب للتحقيق بعدما ظهر عدم القدرة على حسم الصراع عسكريًّا بين الفرقاء. كما يبقى سيناريو إرسال قوات حفظ سلام دولية واردًا من ناحية، بالإضافة إلى دعم تكوين جيش وطني يأخذ على عاتقه مواجهة تنظيم الدولة من ناحية ثانية.
__________________________________
المصادر
1- آلان بارلويه، هل نستطيع التدخل عسكريًّا في ليبيا؟ جريدة الحياة “لندن”، 4 فبراير/شباط 2015
http://alhayat.com/Opinion/Writers/7181526/%D9%87%D9%84-%D9%86%D8%B3%D8%AA%D8%B7%D9%8A%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AF%D8%AE%D9%84-%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D9%8B-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%A7%E2%80%89%D8%9F
2- نور أوعلــــي، “الأزمة الليبية وتداعياتها على الصعيد الدولي”
http://www.startimes.com/f.aspx?t=33733818
3- حول الموقف المغربي منذ اندلاع الخلافات الأخيرة بين الكرامة وليبيا، انظر: حسن الأشرف، هل يدعم المغرب ليبيا عسكريًّا لمحاربة الجماعات المسلحة؟ موقع هسبريس، 13 يونيو/حزيران 2014، على الرابط التالي: http://www.hespress.com/politique/231421.html
4- د. خلود خميس، التغيير في شمال إفريقيا في ضوء التدخل الدولي: ليبيا نموذجًا
http://alghadalarabi.net/ar/?Action=Details&ID=16552
5- حول هذا التصريح، انظر: تردد فرنسي حيال التدخل العسكري في ليبيا، موقع العربية نت نقلًا عن رويترز، 3 يناير/كانون الثاني 2015
http://www.alarabiya.net/ar/north-africa/libya/2015/01/03/%D8%AA%D8%B1%D8%AF%D8%AF-%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D9%8A-%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AF%D8%AE%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%A7.html
6- قرار مجلس الأمن S/RES/1973 (2011)، March 201117
7- فريدريك ويري، “إنهاء الحرب الأهلية في ليبيا: التوفيق بين السياسة وإعادة بناء الأمن”، معهد كارنيجي لأبحاث السلام، 24 سبتمبر/أيلول 2014
http://carnegie-mec.org/publications/?fa=56943#http://carnegie-mec.org/publications/?fa=56943#
8- حول مفاهيم حفظ السلام وفرض السلام والفروق بينهما، انظر: د. بدر حسن شافعي، دور منظمة الإيكواس في حلِّ الصراعات في غرب إفريقيا (القاهرة: دار النشر للجامعات، 2009)، ص31-34.
9- فريدريك ويري، مرجع سابق.
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات