ليس في إيران ما يكفي من السنونو لصنع ربيع مع المملكة العربية السعودية، فلقد مضت بعيداً في سياسات التدخل والتخريب، التي لا تتسع حتى للتفكير في علاقات طبيعية. تحاول طهران في هذه الأيام أن تتحدث عنها أو توحي بها؛ لأسباب من الواضح جداً أنها تتصل بحساباتها الداهمة عند مفترقات وتطورات إقليمية متسارعة وضاغطة!
وزير الخارجية السعودي عادل الجبير لم يتأخر في الرد على كل هذا بطريقة واضحة وحاسمة، عندما أعلن من لندن يوم الثلاثاء الماضي، أن تصريحات وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف عن التقارب مع المملكة تثير السخرية، داعياً طهران إلى وقف الإرهاب والتدخلات إذا أرادت تحسين علاقاتها مع السعودية، وكاشفاً عن أن قياديين من «القاعدة» تؤويهم إيران أُعطوا أوامر بتنفيذ هجمات في السعودية. ورأى الجبير أن الرياض لا ترى أي جدية من إيران في الحوار والتعاون الدبلوماسي، وخصوصاً أنها ماضية في زعزعة استقرار المنطقة من خلال «حزب الله» والهجمات الإرهابية.
في السياق، كان من الواضح أن طهران حاولت في الأيام الماضية أن توظّف الاتصالات الدبلوماسية بخصوص ترتيبات الحج، للإيحاء بوجود اتجاهات إلى تطبيع العلاقات على المستوى السياسي، ولهذا تعمّد الجبير التوضيح: تصريحات ظريف عن التقارب مثيرة للسخرية ونقطة على السطر.
وكان ظريف قد تعمّد في 22 أغسطس (آب) الماضي الإيحاء بأن هناك رياحاً إيجابية جديدة بين طهران والرياض، وأن وفوداً من البلدين ستقوم بتبادل الزيارات قريباً، حتى إنه تحدث عن صدور التأشيرات، وجاء كل ذلك في سياق متسلسل ومثير للاستغراب، وخصوصاً بعدما نشرت وسائل الإعلام الإيرانية صورة لقاء الجبير مع ظريف على هامش اجتماع «منظمة العمل الإسلامي» في إسطنبول، وتعمّدت خلافاً للواقع، الإيحاء بأن هناك توقاً سعودياً للتطبيع مع إيران، عبر القول إن ظريف هو الذي بادر بالمصافحة!
قبل موسم الحج وصدور بيان علي قاضي عسكر ممثل علي خامنئي لشؤون الحج، الذي وجّه الشكر إلى المملكة على حسن تنظيمها الحج، وقوله «إن المرشد الأعلى يشدد باستمرار على تنمية العلاقات بين إيران ودول الجوار، والحكومة منخرطة في هذا الاتجاه»، كانت طهران ترصد كل تحرك أو تطور وتتعمّد توظيفه في إطار الإيحاء بأن الرياض تتهافت على التطبيع معها.
فمع وصول العبادي إلى الرياض تعمّدت طهران دسّ خبر على لسان وزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي يزعم أن المملكة طلبت من العبادي التوسط مع إيران، لكن الرياض نفت الخبر جملة وتفصيلاً، وأكد مصدر سعودي مسؤول تمسك المملكة بموقفها الثابت، الذي يرفض أي تقارب بأي شكل من الأشكال مع النظام الإيراني الذي يقوم بنشر الإرهاب والتطرف في المنطقة والعالم، ويقوم بالتدخل في شؤون الدول الأخرى.
منذ ذلك الحين بدا واضحاً أن إيران تقف عند منعطفات سياسية عميقة تتصل عملياً بالتطورات المتسارعة في المنطقة، سواء في العراق حيث يتصاعد غضب مكونات أساسية من هيمنتها المتزايدة على البلاد، وسواء في سوريا حيث بدأت ترتسم معالم صفقة روسية أميركية تبدأ بالسياسة وتنتهي بالغاز من دير الزور إلى طرطوس، حيث تتحدث تقارير عن مشاريع لمد خط أنابيب مشتركة بين واشنطن وموسكو، خلافاً لكل مظاهر النزاع السياسي الراهن، وسواء في اليمن حيث تتقدم الشرعية الدستورية نحو صنعاء في وقت تعصف الخلافات بحلفاء طهران الانقلابيين وجماعة المخلوع صالح.
واضح أن إيران تتحسس تغييراً عميقاً وجذرياً في المنطقة، سيفضي إلى قلب حساباتها ورهاناتها، وخصوصاً في ظل الملامح التي يرسمها فلاديمير بوتين لمستقبل الوضع في سوريا، عندما لم يكتفِ يوم الأربعاء الماضي، بالإشادة بعودة قوات النظام إلى منطقة دير الزور، بل أعرب عن «الأمل في أن يستكمل شركاء روسيا عمليتهم العسكرية ضد (داعش) في الرقة».
هكذا بالحرف (شركاء روسيا)، أي الأميركيون الذين يقاتلون من الرقة إلى تلعفر، وحيث يرى بوتين أن الخطوة التالية بعد هزيمة «داعش» هي تثبيت نظام وقف النار وتعزيز مناطق خفض التوتر وإطلاق العملية السياسية، وهي ليست بالضرورة عند حسابات طهران ورهاناتها؛ ولهذا تحس كأن العراق قبضة من رمل بدأت تتسرب من يدها، وكأن سوريا مسرح لفيدرالية لن تتسع لهيمنتها المطلقة التي طالما راهنت عليها!
في سياق التوجس الإيراني المتصاعد، برزت قصة قافلة «داعش» التي خرجت من الجرود اللبناني، متجهة إلى دير الزور، والتي سارع الأميركيون إلى محاصرتها بالنار لتبقى تائهة في البادية السورية، وهو ما يقدّم ضمناً درساً ميدانياً وتحذيراً عسكرياً للإيرانيين، من أن قوافل السلاح التي يراهنون على أن تجد طريقاً سهلاً أمامها من طهران إلى لبنان عبر العراق وسوريا، قد تُحاصر وتضيع هي أيضاً في البادية السورية.
بداية الأسبوع رفض علي السيستاني أن يستقبل مبعوثي المرشد خامنئي، وهما رئيس مجلس تشخيص النظام محمود الشاهرودي، وأمين عام المجلس محسن رضائي، اللذان أوفدهما في محاولة لتسوية الخلافات الشيعية وتهدئة الوضع بين حيدر العبادي الذي يريد الانفتاح على الدول العربية واستعادة دور بغداد العربي، كما أعلن عند زيارته إلى الرياض، وبين نوري المالكي رجل طهران في العراق، الذي تضع قوى سياسية وازنة فيتو سياسياً عليه، بينها مقتدى الصدر وعمار الحكيم.
عندما يقترن اعتذار السيستاني عن عدم استقبال موفدي خامنئي، بالقول إنه لا يريد عرقلة جهود العبادي في تنفيذ الإصلاحات ومكافحة الفساد وفي الانفتاح على دول الجوار العربية؛ فذلك يعني صراحة أنه يتّهم ضمناً طهران بكل هذا؛ وهو ما دفع المراقبين إلى القول إن إغلاق أبواب المرجعيات والقيادات العراقية في وجه طهران يعني بداية سحب بساط هيمنتها التي طالت!
على خلفية كل هذه التطورات والوقائع جاءت تصريحات محمد جواد ظريف، الذي يتقن دبلوماسية الإفاضة في الابتسامات، وكأنها مجرد محاولة متكررة للتهافت على افتعال حال من التطبيع ولبس ثياب التصالح والرغبة في إظهار الإيجابية الطارئة والظهور في مظهر الحمل، لكن رغم هذا من المثير فعلاً أن تتعمّد طهران تكراراً الإيحاء بأن السعودية هي التي تتقرب وتتهافت على التطبيع معها!
وهكذا عندما قرع ظريف الباب متحدثاً عن التقارب وتحسين العلاقات، جاءه جواب الجبير فوراً: لا نرى أي جدية، وهذا مثير للسخرية، وإذا أرادت إيران تحسين العلاقات عليها وقف الإرهاب والتدخلات!
راجح الخوري
كاتب لبناني
الشرق الاوسط