لا توجد أوهام لدى المعارضة السورية، والشريحة الاجتماعية الواسعة وراءها، بأنّ هنالك من لا يزال متمسّكاً برحيل الأسد عن السلطة في سورية، عملياً، ولا حتى أكثر الدول شراسةً ضده في السابق، مثل فرنسا وبريطانيا وأميركا وبعض الدول العربية.
لسنا، هنا، بصدد مناقشة ما إذا كانت هذه الدول الغربية في الأصل كانت جادّة بإطاحة نظام الأسد (والجواب برأيي؛ لا، بل على النقيض كانت تخشى من انهياره المفاجئ واستلام الإسلاميين الحكم، وتلخّصت تلك الهواجس بسؤال اليوم التالي لسقوط الأسد)، لكنّها اليوم لا تصرّ دبلوماسياً، ولا في مفاوضاتها مع الروس، على رحيل الأسد من شروط العملية السياسية المقترحة، بقدر ما إنّ موقفها (هذه الدول) يمكن أن يوصف بـأنه “غامض” وفضفاض.
على أرض الواقع، تغيرت الموازين فعلياً. ويمكن القول إنّ تحالف الروس والإيرانيين والنظام ربح الجولة العسكرية الأخيرة، وقلب المعادلة، حتى إنّ النظام بات يسيطر على ما يقارب من 80% من مساحة سورية، بعدما كان لا يسيطر على أكثر من ربع المساحة قبل عامين تقريباً!
ليست هنا المشكلة الحقيقية، بل المعضلة أنّ من يسيطر على باقي الأراضي عملياً هي قوى مصنّفة دولياً إرهابية، ولا تنتمي للثورة السورية، إن لم تكن معادية لها، فما يزال جزء من الرّقة ودير الزور وريفها بيد “داعش”، وإدلب بيد فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً= القاعدة= مقاتلين محليين وأجانب)، أمّا الجيش الحرّ والفصائل الإسلامية الوطنية فتسيطر على مناطق في درعا ومناطق في أرياف الشمال محدودة التأثير والنفوذ.
يطرح هذا وذاك السؤال الجوهري في ما إذا كان يعني عودة سورية إلى ما كانت عليه قبل شهر مارس/ آذار 2011، أي عندما انطلقت الشرارة الأولى للثورة السورية؟ الجواب: لا، وهو أمر ليس فقط مستبعداً، بل يكاد يكون خيالياً، على أكثر من صعيد. يتمثل الأول في الأوضاع الداخلية وموازين القوى في أوساط النظام وعلاقته بالروس والإيرانيين، والنفوذ الإيراني الواسع المتنامي في سورية، ما يعني إعادة هيكلة المعادلة الداخلية، مع تقلّص الجيش السوري إلى أقل من النصف بكثير، واستنزاف موارده، ونضوب الخزّان البشري الداعم له، وكذلك الحال بالنسبة لعلاقته بالقواعد الاجتماعية المتعددة. ويتمثل الصعيد الثاني في الاستراتيجيات الدولية والإقليمية، فعلى الرغم من عدم طرح شرط رحيل الأسد اليوم مفتاحا رئيسيا للعملية السياسية، فإنّ من الواضح، في المقابل، أنّ القبول ببقاء الأسد، وعودة الأمور إلى ما كانت عليه، غير مقبول، ولا مطروح أوربياً وأميركياً، وهو سيناريو يعني الاستسلام والتسليم الكامل بانتصار الروس والإيرانيين، وهزيمة ليس المعارضة السورية فقط، بل الغرب والعرب أيضاً، وهو أمر سابق لأوانه.
ما نراه اليوم أنّنا أمام حلم كردي متنامٍ في المنطقة، وعلى عتبة استفتاء تاريخي لإقليم كردستان العراقي (إن لم يُحبط في اللحظة الأخيرة)، وهو وإن لم يتمخض عملياً عن استقلال كردي معترف فيه، فإنّ القضية الكردية أصبحت اليوم في عصر جديد ولحظة مختلفة، وفي سورية على الأقل سيكون هنالك شبه استقلال، أقرب إلى الحكم الذاتي.
يفكر الأميركيون جديّاً بتطوير قواعدهم العسكرية في المناطق الكردية، وباعتماد الأكراد حليفا استراتيجيا، وما يزالون يفكّرون بأدوات استراتيجية لتحجيم النفوذ الإيراني، وعرقلة طريق طهران إلى المتوسط بريّاً، ويحتفظون بمناطق في البادية.
وعلى الرغم من نجاح مسار أستانة العسكري (برعاية الروس) في تحقيق مناطق منخفضة التصعيد وإيجاد تنسيق روسي- إيراني- تركي، فإنّ مسار جنيف السياسي ما يزال متعثراً، ما يعني عدم وجود توافق استراتيجي دولي وإقليمي حول مستقبل سورية.
وكان وزير الخارجية الأميركية الأسبق، هنري كسينجر، قد ذكر، في مقالٍ له، إنّ الخيارات الأميركية والدولية مع صدام حسين بعد حرب الخليج في 1991 ثلاثة، إسقاطه، إعادة تأهيله، احتواؤه وإبقاؤه في القمقم، فتم اختيار الثالث. وهو السيناريو الذي سيسير على الأغلب مع الأسد، في المرحلة المقبلة، أي سيناريو صدام المحاصر بعد 1991، مع الفارق والاختلاف في المواقف الإقليمية والدولية، لكن جوهر المشكلة بين الحالتين أنّ إعادة التأهيل مستبعدة، والعودة إلى سورية في الجغرافيا السياسية كما كانت عليه مستبعدة، بينما هناك حالة ضعيفة داخلياً، مقتطعة جغرافياً، وهشّة عسكرياً وسياسياً، مع هويات داخلية فرعية متضاربة!
محمد أبو رمان
صحيفة العربي الجديد