الصورة الأكبر خلف هستريا واشنطن الرسمية بخصوص روسيا، وسورية، وكورية الشمالية، هي صورة هيمنة أميركية آفلة –وإنما خطيرة، والتي تقاوم بداية نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
* * *
المواجهة مع كوريا الشمالية حدث مركزي يمكن أن ينتهي بإحدى طريقتين: نشوب اشتباك نووي؛ أو إعادة ترتيب للنظام الدولي.
بينما لا يكون الرضا عن الذات مضمونا دائما، يبدو الخيار الأول غير مرجح بازدياد. وكما قال استراتيجي عالمي لا يقل عن ستيفن بانون حول احتمال توجيه ضربة أميركية استباقية: “لا يوجد حل عسكري هنا. انسوا هذا الأمر. ما لم يحل أحد ما طرف المعادلة التي يريني أن عشرة ملايين شخص في سيئول لا يموتون في أول ثلاثين دقيقة بسبب الأسلحة التقليدية، فإنني لا أعرف عما تتحدثون. ما من حل عسكري هنا. لقد أمسكوا بنا”.
لكن هذا لا يعني أن دونالد ترامب، رئيس بانون السابق، لا يستطع فعل شيء بتسرع. وبعد كل شيء، لدينا رجل يفتخر بكونه لا يمكن التنبؤ بتصرفاته في مفاوضات الأعمال التجارية، كما يشيرالمؤرخ وليام آر بوك الذي عمل في إدارة الرئيس جون كنيدي إبان أزمة الصواريخ الكوبية في مطلع الستينيات من القرن الماضي. وبذلك، ربما يعتقد ترامب أنها ستكون فكرة جيدة أن يُمارس بعض الجنون تجاه جمهورية كوريا الشمالية الشعبية الديمقراطية.
لكن هذا يظل واحدا من الأشياء الجيدة في وجود دولة عميقة، الوجود الذي تبين كونه وراء أي شك، نظرا لأن مجموعة المخابرات أعلنت الحرب على ترامب في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. وبينما يمنع ترامب من التوصل إلى تسوية مؤقتة مع روسيا، فإنه يعني أن الرئيس محاط باستمرار بجنرالات وأشباح ومحترفين آخرين، والذين يعرفون الفرق بين العقارات وبين الحرب النووية.
وبقدر ما قد يكونون محاطين بالضباب أيديولوجياً، يُفترض أن بالوسع التعويل عليهم للتأكد من أن لا يغرق ترامب العالم في أرماجيدون (سميت كذلك نسبة إلى مدينة في العصر البرونزي تقع على بعد 20 ميلا إلى الجنوب الشرقي من حيفا).
يترك ذلك المجال أمام الخيار رقم اثنين: إعادة تشكيل النظام العالمي. والشخصان اللذان يعرفان أفضل ما يكون عن الموضوع هما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصيني تشي جين بينغ. وما يزال الاثنان يعملان منذ أعوام وفق نظام عالمي جديد، حيث تتولى دولة واحدة عمل القاضي والمحلفين والجلاد. وهذه بطبيعة الحال هي الولايات المتحدة.
إذا كانت الولايات المتحدة تقول إن نشاطات موسكو في شرق أوكرانيا غير شرعية، فإنها ستعمل عندئذٍ، باعتبارها “القوة العظمى” الوحيدة الباقية في العالم، على أن تعاني روسيا تبعاً لذلك. وإذا طالبت الصين بأن يكون لها المزيد من النفوذ والرأي في آسيا الوسطى أو غرب الباسفيكي، فعندها سيهز أصحاب الفكر اليميني في عموم العالم رؤوسهم حزناً ويتهمونها بتقويض الديمقراطية الدولية، وهو ما يترادف دائماً مع السياسة الخارجية الأميركية.
لا توجد أي جهة واحدة –ولا مؤسسة واحدة- تستطيع روسيا أو الصين الاستئناف لديها في هذه الظروف، لأن الولايات المتحدة مسؤولة عن محكمة الاستئناف. إنها “الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها”، وفق الكلمات الخالدة لوزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت في إدارة الرئيس بيل كلينتون، “لأننا نقف بقاماتنا الطويلة ونرى أبعد من الدول الأخرى في المستقبل”. وبالنظر إلى مثل هذا الذكاء المدهش، كيف يكون بإمكان أي دولة أخرى أن تعترض؟
تحدي صانع الأحكام
لكن هناك الآن ثمة دولة صغيرة ومحاصرة في شبه الجزيرة الكورية، والتي تتغلب على الولايات المتحدة في المناورة، وتجبرها على التراجع. لم تعد الولايات المتحدة تبدو وأنها بعيدة النظر بعد الآن. ولو أن كوريا الشمالية هزمت الولايات المتحدة، كما يقول بانون، فعندئذ سوف تريد دول أخرى فعل الشيء نفسه. وسوف يتكشف المهيمن الأميركي كرجل مفرط الوزن بعمر 71 عاماً، عاريا إلا من تسريحة شعره المنتفخة.
لا يعني هذا أن الولايات المتحدة لم تعانِ من التراجعات في السابق. بل على العكس من ذلك؛ فقد اضطرت إلى القبول بنظام كاسترو في أعقاب أزمة الصواريخ الكوبية، ومنيت بهزيمة منكرة في فيتنام في العام 1975. لكن هذا الوقت يبدو مختلفا. فحيث كان يتوقع من الشرق والغرب تفادي الهجوم خلال الحرب الباردة، وبذل أقصى ما تستطيعه في سبيل ذلك، يجب على الولايات المتحدة، باعتبارها المهيمن العالمي، أن تبذل كل ما بوسعها للحفاظ على هالتها كقوة لا تقهر.
منذ العام 1989، عنى ذلك ضرب مجموعة من “الأولاد الأشرار” الذين جلبهم حظهم السيء إلى الوقوف في طريق الولايات المتحدة. وكان أول من أطيح به مانويل نورييغا، بعد ستة أسابيع من سقوط جدار برلين، في غزو كلف أرواح نحو 500 جندي بنمي، وربما آلاف المدنيين أيضاً.
وكان الملا عمر في أفغانستان هو الثاني الذي ذهب في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2001، تبعه سلوبودان ميلاسوفيتش الذي مثل أمام محكمة دولية في العام 2002؛ ثم صدام حسين الذي أُعدم في العام 2006؛ فمعمر القذافي الذي قتله الرعاع في العام 2011. ولبرهة، بدا العالم فعلا مثل “مسدس يتصاعد من فوهته الدخان” وبدت الولايات المتحدة فعلا مثل الشريف مات ديلون.
ولكن، جاءت عندئذ بعض المطبات في الطريق. فقد ابتهجت إدارة أوباما بالانقلاب الذي وقع في كييف كان رأس حربته النازيون في وقت مبكر من العام 2014، فقط لتقف وتراقب بلا حول ولا قوة قيام بوتين، تحت ضغط شعبي كثيف، بالرد على الانقلاب من خلال فصل شبه جزيرة القرم التي كانت تاريخيا جزءا من روسيا، وكانت موطنا للقاعدة البحرية الروسية الإستراتيجية في سيفاستوبول، وإعادة ضمها ثانية إلى روسيا.
وكانت الولايات المتحدة قد فعلت شيئا مشابها قبل ستة أعوام عندما شجعت كوسوفو على الانفصال عن صربيا. ولكن، فيما بتعلق بأوكرانيا، استحضر المحافظون الجدد خيانة ميونيخ في العام 1938، وقارنوا بين حالة القرم وبين استيلاء هتلر على سوديتنلاند.
بالإضافة إلى ذلك، وبدعم من روسيا، صفع الرئيس السوري بشار الأسد واشنطن عبر طرده القوات الموالية لتنظيم القاعدة والمدعومة أميركيا من شرق حلب في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2016. وعلى نحو متوقع، قارنت صحيفة هفنغتون بوست الهجوم السوري المضاد على شرق حلب بالقصف الفاشي لغورنيكا (في اقليم الباسك الاسباني الانفصالي في العام 1937).
النار والغضب
أخيرا، وبدءا من آذار (مارس)، دخل الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون لعبة مزايدة مع الرئيس الأميركي ترامب، وقام بإطلاق صواريخ بالستية على بحر اليابان، وأجرى تجارب على صواريخ بالستية عابرة للقارات، والتي يمكن أن تطال في مداها ولاية كاليفورنيا، ثم قام بتفجير رأس حربي هيدروجيني بقوة تصل إلى ثمانية أضعاف القنبلة الذرية التي كانت قد أسقطت على مدينة هيروشيما اليابانية في العام 1945. وعندما تعهد ترامب بالرد “بالنار والغضب والقوة الصريحة لم يشهد العالم لها مثيلا من قبل”، رفع كيم الرهان عبر إطلاق صاروخ فوق جزيرة هوكايدو اليابانية.
بنفس الغرابة التي يمكن أن يكون عليها سلوك كيم في بعض الأحيان، فإن هناك نهجاً لجنونه. وكما شرح الرئيس السوري فلاديمير بوتين في قمة “بريكس” مع البرازيل والهند والصين وجنوب إفريقيا، فقد شاهد “القائد الأعلى” لجمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية، كيف دمرت أميركا كلاً من ليبيا والعراق، وتبعاً لذلك استنتج أن الضمان الوحيد ضد التعرض لغزو أميركي يكمن في وجود نظام إيصال نووي لديه.
وقال: “إننا نتذكر جميعا ما حدث مع العراق وصدام حسين… لقد قتل أولاده وأعتقد أن حفيده قتل أيضا، ودمر البلد عن بكرة أبيه وتم شنق صدام حسين… وكلنا يعرف كيف حدث هذا ويتذكر الشعب في كوريا الشمالية جيدا ما حدث في العراق… إنهم يفضلون أن يأكلوا العشب على أن يوقفوا برنامجهم النووي طالما أنهم لا يشعرون بالأمان”.
بما أن أعمال كيم تظل دفاعية في طبيعتها في نهاية المطاف، فإن الحل المنطقي بالنسبة للولايات المتحدة يكمن في التراجع والدخول في مفاوضات. لكن ترامب المتلهف لإنقاذ ماء وجهه سارع إلى استبعاد هذا الحل. وغرد على تويتر قائلا: “التحدث ليس هو الجواب”. لكن النتيجة لهذا التبجح هي جعل أميركا تبدو أكثر عجزا من أي وقت مضى.
على الرغم من أن صحيفة “نيويورك تايمز” ذكرت أن الضغط الأميركي من أجل قطع إمدادات كوريا الشمالية من النفط قد وضع الصين “في زاوية ضيقة”، فإن هذا الكلام ليس أكثر من صفير بجوار المقبرة. وما من سبب للاعتقاد بأن تشي يشعر بأقل شذرة من عدم الارتياح. بل إنه، على العكس، يستمتع بلا شك وهو يشاهد أميركا تضع نفسها في زاوية ضيقة أخرى.
الزاوية الأميركية
إذا تراجع ترامب عند هذه المرحلة، سوف يضعف الموقف الأميركي في المنطقة، بينما سيتعزز موقف الصين تبعا لذلك. ومن جهة أخرى، إذا أقدم ترامب على فعل متهور، فسوف يكون ذلك فرصة ذهبية لبكين أو موسكو -أو لكليهما- للتدخل كصانعي سلام. ولن يكون هناك خيار أمام اليابان وكوريا الجنوبية سوى الاعتراف بأنه يوجد في الوقت الحالي ثلاثة محكمين في المنطقة بدلاً من محكم واحد، بينما ستحذو الدول الأخرى –مثل الفلبين وإندونيسيا، وربما حتى استراليا ونيوزيلندا- حذوهما.
سوف تذهب وحدانية القطبية إلى الهوامش، بينما ستحتل تعددية الأطراف موقع المركز. وعلى ضوء تراجع الحصة الأميركية من إجمالي الناتج المحلي العالمي بواقع أكثر من 20 في المائة منذ العام 1989، فإن التراجع سيكون حتميا. وقد حاولت الولايات المتحدة التعويض من خلال الاستخدام إلى الحد الأقصى لمزاياها العسكرية والسياسية. لكن ذلك سوف يكون اقتراحا خاسرا -حتى لو كانت لديها أذكى قيادة في العالم. لكنها لا تتوافر على مثل هذه القيادة في واقع الأمر. وبدلاً من ذلك، لديها رئيس أضحوكة، ولديها كونغرس غير عامل ومؤسسة سياسة خارجية ضائعة في متاهة عالم أحلام المحافظين الجدد. وتبعاً لذلك، سوف يتحول التراجع إلى مسار فوضوي.
على افتراض أن لا تتكون سحابة فطر فوق لوس أنجيلوس، فإن العالم سيكون مكانا مختلفا جدا يخرج من الأزمة الكورية قياساً مع دخوله فيها. وبطبيعة الحال، إذا تكونت سحابة الفطر فعلاً، فإنه سيكون كذلك بطريقة أكثر تأكيدا.
دايال لازار
صحيفة الغد