لا شك أن في قرار الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان مجازفة كبيرة من كرد الإقليم وقيادته السياسية. فجميع الأفراد والقوى السياسية والدول، المعنيين بالموضوع وغير المعنيين على السواء، قد تركوا جانباً كل ما يغوصون فيه من مشكلات معقدة وركزوا على الاستفتاء الذي اقترب موعده بوصفه «يوم القيامة». يستثنى من ذلك فقط إسرائيل التي أعلنت ترحيبها بقيام دولة كردية مستقلة، لأسباب تخصها.
نعم، إنه يوم القيامة حقاً بالنظر إلى أن كل شيء سيتغير في الإقليم الذي تنتمي إليه الدولة الكردية إذا تسنى لها أن تولد بعد مخاض عسير. العلاقات بين الدول، والتحالفات، والمزاج العام في مجتمعات هذه الدول، والأفكار المسبقة الثابتة منذ قرن إلى اليوم، وآفاق تطور هذه الدول والمجتمعات.. أي، باختصار، كل شيء.
لهذا السبب نرى مقاومة كبيرة جداً للاستفتاء الذي من شأنه أن يسند حق تقرير المصير إلى أرضية صلبة من الشرعية الشعبية. وتنقسم الاعتراضات، النظرية إلى الآن، إلى رزمتين: أساسية وفرعية. أما الاعتراض الأساسي فهو ينطلق من مزيج من الإيديولوجيا والمصالح القومية، ليرفض فكرة استقلال الإقليم (أو حق الكرد في تقرير مصيرهم) رفضاً مبدئياً قاطعاً. هذا هو موقف حكومات الدول الإقليمية الأربع، إيران والعراق وتركيا والنظام الكيماوي في سوريا، يدعمه رأي عام مجتمعي متفاوت التشدد والشمول.
أما الاعتراضات القائمة على ما سيثيره استقلال الإقليم من مشكلات فرعية، فهي اعتراضات محقة تتعلق بحياة قطاعات كبيرة من السكان، ولا بد من معالجتها بطريقة عقلانية تشاركية، إلا حين يتم استخدامها لتمويه رفض أيديولوجي غير معلن لفكرة حق الكرد في تقرير مصيرهم. أي أن واقعية وأحقية مشكلات تتعلق بترسيم الحدود وعودة المهجرين وحقوق المكونات الاجتماعية غير الكردية.. شيء، واستخدامها كذرائع لرفض فكرة كردستان المستقلة جملة وتفصيلاً شيء آخر تماماً.
لنركز الآن على حظوظ قيام كردستان مستقلة، في أعقاب تسلح قيادة الإقليم المتوقع بنتائج الاستفتاء التي تبدو محسومة لمصلحة الاستقلال، في محيط معاد من الدول التي أعلنت حكوماتها مواقف رافضة، مرفقة بجرعات متفاوتة من التهديد والوعيد. يمكن القول، على ضوء التصريحات المتطايرة لساسة هذه الدول، إن إيران هي الأكثر تشدداً في عدائها لقيام دولة كردية مستقلة على حدودها الغربية، وخاصة ضد القيادة بارزانية التي تربطها علاقات تاريخية مع كرد إيران، وقد قاتل المولا مصطفى بارزاني شخصياً مع كرد إيران ضد قوات طهران الشاهنشاهية في أربعينات القرن الماضي. وتبدو طهران الإسلامية اليوم جادة في وعيدها بإغلاق الحدود لخنق الكيان الوليد، إذا قيض له أن يولد.
أما تركيا الأردوغانية فموقفها أكثر التباساً من إيران، بالنظر إلى العلاقات المميزة التي ربطت بين أنقرة وأربيل في السنوات الماضية. في التصريحات العلنية تبدو القيادة التركية متشددة ضد استقلال الإقليم، مثلها مثل الإيرانيين. وقد توعد أردوغان، في آخر تصريحاته بشأن الاستفتاء، بعقد اجتماع لمجلس الأمن القومي، وآخر للحكومة، لإعلان الموقف الرسمي النهائي من الاستفتاء وما يمكن اتخاذه من إجراءات عملية. هذا الوعيد يوحي بقرارات متشددة، يشتط خيال بعض غلاة القوميين الأتراك بشأنها وصولاً إلى احتمال إعلان الحرب. وهو ما قام رئيس الوزراء بنعلي يلدرم باستبعاده حين قال إن الحروب تقوم بين دولتين، في حين أن إقليم كردستان هو جزء من دولة العراق. ويمكن أن نفهم من التصريح أيضاً أن الحرب مستبعدة ما دام الأمر يتعلق باستفتاء، لكنها قد تكون احتمالاً واقعياً إذا تحول الإقليم إلى دولة مستقلة.
بعيداً عن هذه التصريحات التي تطلق عادةً لحسابات سياسية داخلية، فإن مدى الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الإقليم وتركيا هو مما لا يمكن تجاهله حين يتعلق الأمر بوضع استراتيجيات طويلة الأمد. ومن شأن التشدد الإيراني ضد الإقليم، واستتباعاً موقف الحكومة المركزية في بغداد، أن يجعل من تركيا الصديق الوحيد للإقليم بعد أن ينال استقلاله، ومنفذه البري الوحيد إلى العالم. وهذا مما يمنح تركيا، بالمقابل، وضعاً ممتازاً في تنافسها الإقليمي مع إيران، وحتى في علاقاتها مع بقية العالم، بالنظر إلى العزلة السياسية الشديدة التي ترزح أنقرة تحت وطأتها منذ بضع سنوات، بما في ذلك، خاصةً، علاقاتها المتدهورة مع الأمريكيين والأوروبيين. وليس لتركيا أصدقاء في محيطها الجغرافي باستثناء إقليم كردستان، بعدما انتهت سياسة داوود أوغلو الشهيرة «صفر مشاكل مع دول الجوار» إلى الفشل التام، وباتت تركيا ملحقة بالقطب الروسي في إطار مسار آستانة الخاص بالمسألة السورية. وتعرف تركيا، بخبرة تاريخية تمتد لقرون، أن علاقة الصداقة مع روسيا هي كصداقة الشاة مع الذئب، لا يمكن أن تأمن جانبها على المدى الطويل. في حين أن العلاقة مع إيران هي علاقة تنافس ندية، قد تتخللها مصالح مشتركة، لكنها لا يمكن أن ترتقي إلى تحالف دائم متين.
من المحتمل أن التحالف السياسي بين أردوغان وزعيم التيار القومي المتشدد دولت بهتشلي، الذي أثمر تحويل النظام البرلماني إلى نظام رئاسي، سيستمر وصولاً إلى انتخابات العام 2019 الرئاسية والبرلمانية التي يعتمد أردوغان عليها لإدامة حكمه المديد. هذا التحالف القلق يتطلب من أردوغان إظهار موقف متشدد من احتمال استقلال الإقليم، مع استمرار حربه الداخلية ضد حزب العمال الكردستاني. لكن هذه الحرب تبدو بلا أفق سياسي، أي لا يمكن ترجمة الانتصار المستحيل فيها إلى نتائج سياسية، ما لم تتم العودة إلى مسار الحل السلمي. وهو ما يحتاج أروغان لتحقيقه إلى مساعدة سياسية من مسعود بارزاني.
يمكن القول، على ضوء هذه اللوحة المعقدة، إن تركيا ستسعى جهدها لإقناع بارزاني بتأجيل الاستفتاء إلى زمن غير محدد، وهو ما يمنحها فسحة زمنية لترتيب بيتها السياسي الداخلي من منظور ديمومة حكم العدالة والتنمية ورئاسة أردوغان. في حين أن إصرار بارزاني على إجراء الاستفتاء سيضع أردوغان في الزاوية الصعبة ويربك كل حساباته السياسية. ولكن إذا تم الاستفتاء في موعده، برغم كل شيء، فالمرجح أن تتغلب حسابات المصلحة القومية لتركيا فتتعامل مع نتائج الاستفتاء كأمر واقع، وتتطور العلاقة الكردستانية ـ التركية إلى صداقة مديدة قائمة على المصالح المشتركة، وهو ما من شأنه أن ينعكس إيجاباً على علاقة الدولة التركية مع كردها في الداخل أيضاً.
لا يتسع المجال هنا للنظر في مواقف الدول العظمى من الاستفتاء والاستقلال، ولا شك أن مواقف الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا ستلعب دوراً حاسماً في حظوظ الإقليم في نيل استقلاله.
بكر صدقي
صحيفة القدس العربي