أثار التدخل التركي في إدلب عبر فصائل محسوبة على الجيش الحر، وتحت مسوغ مواجهة هيئة تحرير الشام (النصرة سابقا)، تساؤلات حول خفايا المجازفة باجتياح شمال سوريا لو لم تكن تركيا قد تلقت ضوءا أخضر من روسيا وإيران، وسط تسريبات عن أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نجح في زيارته الأخيرة لإيران في الاتفاق مع المسؤولين الإيرانيين على خارطة طريق سرية لإدارة الصراع في سوريا والعراق، وخاصة ما تعلق بتحجيم الدور الكردي.
واعتبر متابعون للشأن التركي أن أنقرة، التي تقول إن الهجوم يأتي تنفيذا لاتفاق أستانة بشأن إقامة منطقة خفض توتر في إدلب، تسعى لاستئناف ما فشلت في تحقيقه خلال الهجوم الذي شنته منذ أشهر لإقامة منطقة آمنة على حدودها مع سوريا، وخاصة لمنع سيطرة الأكراد السوريين على أراض حدودية.
وكانت تركيا فشلت في تحقيق نتائج ذات قيمة في ذاك التدخل بسبب وقوف الولايات المتحدة إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تشكلت بدعم أميركي لطرد داعش من الرقة، وخاصة لتكون ورقة ميدانية قوية تفاوض بها واشنطن لتحديد شكل الحل السياسي المستقبلي في سوريا قبل أن تتغير المعادلة على الأرض لفائدة روسيا ومن ورائها إيران وقوات الرئيس السوري بشار الأسد.
وقال المتابعون إن الوضع الآن تغير بشكل كامل، فتركيا، التي اختلفت مع الحليف الأميركي رغم كونها وضعت بيضها في سلة واشنطن، ليست معزولة تماما، وعلاقتها صارت قوية مع روسيا وإيران بعد أن قبلت أن يكون تحركها في سوريا تحت المظلة الروسية التي مهدت لتلطيف الأجواء بينها وبين طهران وبين دمشق رغم ما يبديه الإعلام الموالي للأسد من هجوم على الدور التخريبي لتركيا شمال البلاد.
وأكد الجيش التركي الاثنين أنه بدأ أنشطة الاستطلاع في محافظة إدلب بسوريا قبل عملية عسكرية متوقعة في المنطقة المتنازع عليها في شمال غرب سوريا.
وأضاف “أن الخطوة شملت إقامة نقاط مراقبة وأنه يقوم بمهامه بما يتماشى مع قواعد الاشتباك المتفق عليها في عملية أستانة”، في إشارة إلى اتفاق جرى التوصل إليه الشهر الماضي في عاصمة كازاخستان.
وتقول تركيا إنها تقدم مساعدة لمقاتلي المعارضة السورية الذين تساندهم منذ فترة طويلة بهدف تنفيذ اتفاق عدم التصعيد الذي يهدف إلى تقليص العمليات القتالية مع القوات الموالية للحكومة في المنطقة التي تعد أكثر المناطق سكانا الخاضعة لسيطرة مقاتلي المعارضة.
لكن خبراء عسكريين ومعارضين سوريين قالوا إن تركيا تلعب على مختلف الواجهات لتحقيق استراتيجيتها في خلق حزام حدودي موال لها ويكون أداة لخدمة أجندتها سواء ما تعلق بالضغط على الأسد، والمشاركة في تحديد مستقبل سوريا، أو ما تعلق بقطع الطريق على الحلم الكردي في سوريا قبل أن يمتد لأكرادها.
وأشار هؤلاء الخبراء والمعارضون إلى أن تركيا نسقت لأجل تمرير استراتيجيتها مع جهات متناقضة المصالح مثل الجماعات الإسلامية المتشددة المصنفة إرهابية، ومع فصائل وقيادات من الجيش الحر أغلبها انشقت عن النظام وتحمل أفكارا ليبرالية، فضلا عن تنسيق أنقرة مع طهران، والذي تدعم خلال زيارة أردوغان لإيران الأربعاء الماضي، والتي تم فيها وضع خارطة طريق للعمل الإيراني التركي المشترك في سوريا والعراق، وأن بغداد ودمشق مجرد متفرجين في لعبة الأمم الجارية الآن.
وكشف معارض سوري عن أن التدخل شمال سوريا هدفه حماية الأمن القومي لتركيا، وأن الحرب على الإرهاب مجرد يافطة للتغطية على الغاية الحقيقية للتدخل، مشددا على أن تركيا لو كانت تحارب الإرهاب لمنعت الآلاف من الإرهابيين من استعمال مطاراتها للانتقال إلى سوريا.
ويرى محمد صبرا، كبير المفاوضين في المعارضة السورية، أن الغياب الأميركي عن المشهد السوري مهد لجميع القوى الإقليمية الطريق لملء الفراغ من خلال تدخلها المباشر على الأرض.
وأربكت استراتيجية الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في سوريا إدارة خلفه دونالد ترامب التي لم تجد من حل سوى مجاراة الأدوار التي اكتسبتها روسيا وإيران وتركيا، والرهان على ورقة الأكراد للاستفادة منها في مواجهة داعش وفي التشريع لموقع قدم أميركي للتأثير ولو بشكل محدود في الملف السوري.
وقال صبرا في تصريح لـ “العرب”، “نحن في لحظة اشتباك إقليمي هائل وكبير جدا وبالنسبة للنظام فإنه ومنذ عام 2012 تحول إلى مجرد أداة من أدوات (المرشد الإيراني) علي خامنئي في السيطرة على المنطقة”، ملاحظا أن تركيا يبدو أنها “تريد تقليد النموذج الإيراني مع بشار الأسد فعمدت إلى تطويع بعض فصائل المعارضة لتكون أداة بيدها تنفذ من خلالها سياستها”.
وأوضح أن هذه المنطقة عاشت تاريخيا عبر توازنات القوة والضعف لثلاثة عناصر حضارية هي العرب والفرس والأتراك واستقرار المنطقة مرتبط بالتوازن بين هذه العناصر، “لكن ما نشهده منذ عام 2003 هو تمدد إيران خارج إقليمها مع ما يحمله هذا التمدد من مشروع امبراطوري بالهيمنة والسيطرة وتفتيت نسيج المنطقة وتدمير مفهوم الدولة الوطنية لصالح ميليشيات كما هو في العراق ولبنان وسوريا”.
وعبر صبرا عن اعتقاده بأن “تركيا الآن أيضا خرجت خارج إقليمها، وهذا خطير جدا وهو تأكيد لغياب المشروع العربي، وهذا قد يفضي إلى حروب إقليمية كبرى إن لم تدرك الدولتان أنهما لن تستطيعا السيطرة على المنطقة”.
لكن مراقبين للمشهد السوري حذروا من أن تنقل المواقف التركية بين الرهان على واشنطن وموسكو يجعل من الصعب عليها اكتساب حليف استراتيجي يمكن أن يساعدها على إيجاد حزام حدودي موال لها شمال سوريا، فضلا عن أن الفصائل المحلية الحليفة لها قد تغير موقعها بحثا عن تحالف جديد يضمن لها دورا في مستقبل سوريا بعيدا عن الحسابات التركية المعقدة والمتناقضة أحيانا.
ويتوقع القيادي في تيار الغد السوري منذر آقبيق أنه خلال الأشهر القادمة سوف تتضح خطوط جغرافية لتقاسم النفوذ في سوريا بين روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا.
ويقول آقبيق في تصريح لـ”العرب” إن “كلا من هذه الدول تملك جيشا في سوريا. ولديها أيضا ميليشيات محلية مسلحة تعمل لحسابها”، لافتا إلى أنه “وحسب التفاهمات الروسية التركية الإيرانية فإن إدلب ستكون من حصة تركيا مع شرط تفكيك جبهة النصرة، ورغم أن تركيا كانت الداعم الرئيسي للفصائل الإسلامية السلفية ومنها جبهة النصرة منذ سنوات، إلا أنها الآن لن تتردد في إنهاء هذه الجبهة من أجل مصالحها”.
ويؤكد آقبيق أن “النظام السوري من جهته في وضع ليس بأفضل من معارضيه، فهو رهينة بيد الروس والإيرانيين ولا يملك من أمره شيئا، حتى اتفاقيات خفض التصعيد والمناطق الآمنة تتم من قبل روسيا دون مشاركة النظام، أو بمشاركة رمزية، وأن عليه أن ينفذ ما تتفق عليه تلك الدول بين بعضها البعض”.
ويرى آقبيق أن سيطرة إخوان سوريا على مجالس المعارضة العسكرية والسياسية قد أسهمت إلى حد بعيد في تساهل تلك القوى مع تنظيمات إرهابية عابرة للحدود مثل جبهة النصرة فرع القاعدة في سوريا، وذلك بسبب الأيديولوجيا المتقاربة بينهم
صحيفة العرب اللندنية