خلفيات التوتر الأميركي – التركي
يعدّ التوتر الأخير بين البلدين حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الخلافات التي تفاقمت منذ عام 2013. ويمكن حصر أهم نقاطها في ما يلي:
• الخلاف حول سورية؛ إذ أيدت تركيا إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، بعد فشل محاولاتها، عام 2011، لإعادة تأهيله، في حين انحازت إدارة الرئيس باراك أوباما إلى مقاربة غامضة ومتردّدة، أعلنت فيها عدم قبولها ببقاء الأسد رئيسًا. وفي الوقت نفسه، رفضت محاولات إسقاطه. وقد ترتب على ذلك صعود تيارات متطرّفة، مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة، وتعزيز إيران نفوذها في سورية، بذريعة محاربة الإرهاب، ثم تدخلت روسيا في خريف عام 2015، وتغيرت كل المعادلات على الأرض لمصلحة النظام وحلفائه.
• اتخاذ إدارة أوباما المقاتلين الأكراد حليفًا لها في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، وقد أثار غضبَ تركيا دعم “وحدات حماية الشعب” التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري الذي تعدّه أنقرة امتدادًا لحزب العمال الكردستاني التركي. وتخشى تركيا من أن وحدات حماية الشعب تسعى إلى إقامة كيان كردي مستقل شمال سورية، مستغلةً الفراغ المترتب على تراجع “داعش”.
• شعور تركيا بخذلان الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) لها في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، وذلك بعد إسقاط مقاتلتين تركيتين طائرة روسية، اخترقت مجالها الجوي؛ إذ لم يكن الموقف الأميركي وموقف “الناتو” صلبًا، كما يفترض ميثاق الحلف، في دعم تركيا.
• الموقف الأميركي الغامض من محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا صيف عام 2016؛ إذ عوض أن يسارع وزير الخارجية الأميركي، حينئذ، جون كيري، إلى إدانة المحاولة، عبّر عن أمله بالهدوء والسلام، ووجود سلطة تدير شؤون البلد. أما السفارة الأميركية في أنقرة فقد أصدرت بيانًا ليلة الانقلاب، رأت فيه أنّ ما يجري في تركيا “انتفاضة”، من دون أن تشير إلى وجود انقلاب عسكري على الحكومة الشرعية. ولم تدن الإدارة الأميركية، سواء البيت الأبيض أم الخارجية، عملية الانقلاب، إلّا بعد اتضاح أنّ المحاولة الانقلابية تندحر. ولم تقف إدارة أوباما عند ذلك الحد، إذ إنها سارعت إلى تحذير تركيا، على لسان كيري “من عواقب التمادي” في استهداف الانقلابيين، في إشارة إلى مساعي الحكومة التركية لتطهير الجيش، وما عدّته واشنطن محاولات أردوغان التضييق على حرية التعبير والحريات الإعلامية والأكاديمية والمجتمع المدني. بل وصل الأمر بكيري إلى التلويح بإعادة النظر في علاقات تركيا بحلف الناتو، على أساس أنّ الحلف “لديه متطلبات في ما يتعلق بالديمقراطية”. وقد أدى ذلك الموقف إلى صدور اتهامات تركية رسمية لواشنطن بالتورّط في المحاولة الانقلابية، خصوصا في ضوء رفضها تسليم الداعية فتح الله غولن الذي تتهمه تركيا بالوقوف وراءها.
استمرار التصعيد مع ترامب
علّقت حكومة أنقرة آمالًا بتحسن علاقتها بواشنطن مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، خصوصًا أنّ مستشاره للأمن القومي في ذلك الحين، مايكل فلين، كان يعمل على تمثيل مصالح تركيا في واشنطن، قبل تعيينه مستشارًا للأمن القومي الأميركي، غير أنّ فلين لم يلبث أن أقيل من منصبه بعد ثلاثة أسابيع على شَغله، وكان عمله مع تركيا، إضافةً إلى علاقاته بروسيا، من النقاط التي وُظفت في الحملة ضده. لكن العلاقات التركية – الأميركية لم تتحسّن تحت إدارة ترامب؛ إذ فشل أردوغان في إقناع الرئيس الجديد مع وصوله إلى السلطة بأنّ حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري إنما هو امتداد لحزب العمال الكردستاني الانفصالي التركي الذي تصنفه أنقرة وواشنطن حزبًا إرهابيًا. ومع وصول أردوغان إلى واشنطن في أيار/ مايو الماضي لمقابلة ترامب، كانت الإدارة الأميركية قد ضاعفت الدعم لـ “وحدات حماية الشعب” الكردية. وخلال الزيارة أيضًا، وقعت اشتباكات بين حرس أردوغان ومحتجين أمام السفارة التركية في واشنطن، وجهت على إثرها السلطات الأميركية تهما غيابية ضد 15 شخصًا من أعوان حراسة أردوغان، بذريعة ضرب متظاهرين، في حين اتهمت أنقرة السلطات الأميركية بعدم تأمين الحماية اللازمة للرئيس التركي ومقر البعثة الدبلوماسية التركية. وفي أيلول/سبتمبر الماضي، احتجت تركيا على اتهام الولايات المتحدة وزير اقتصاد تركياً سابقاً بالتآمر مع رجل أعمال تركي معتقل في واشنطن، بذريعة انتهاك العقوبات الأميركية على إيران. ومع مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول الجاري، أغضبت أنقرة واشنطن باستضافتها الرئيسين، الإيراني حسن روحاني، والفنزويلي نيكولاس مادورو، على الرغم من محاولات إدارة ترامب عزل نظامَي البلدين.
مواءمات تركية جديدة
تَشَكُّكُ تركيا في موثوقية الحليف الأميركي، وفي الرهان على حلف الناتو، ما دفعها إلى محاولة تنويع تحالفاتها إقليميًا ودوليًا؛ إذ لا تنحصر معضلة تركيا في المساعي الأميركية لاجتراح مقاربة جديدة للعلاقة بينهما، بل يأتي ذلك ضمن ما يبدو أنه مقاربة غربية أوسع، لتغيير أسس العلاقة بها، سواء لناحية تصعيد بعض الدول الغربية التوتر معها، كما فعلت ألمانيا، أو لناحية التلويح بتعليق عضويتها في “الناتو”، أو التهديد باستبعاد طلبها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، كما فعلت مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، وذلك ردًا على المحاولات التركية إعادة عقوبة الإعدام لمعاقبة المتهمين بالضلوع في محاولة الانقلاب.
من هنا، انخرطت تركيا مع روسيا وإيران، في دعم مسار مفاوضات أستانة، منذ مطلع العام الجاري، بين وفدَي النظام والمعارضة السوريَين. وقد نجحت تلك المفاوضات في الاتفاق على إنشاء أربع مناطق لـ “خفض التوتر” في سورية، من ضمنها إدلب التي بدأت فصائل من المعارضة السورية بدعم تركي، قبل أيام، عملية عسكرية فيها لاستعادتها من سيطرة “جبهة النصرة”. والدافع الرئيس لتركيا في العمل مع روسيا وإيران في سورية هو القلق من نجاح الأكراد في السيطرة على شمال سورية، والتأسيس لنواة دولة هناك، وهو ما ينذر بتشجيع أكراد تركيا على محاولة الانفصال، خصوصًا بعد استفتاء كردستان – العراق أواخر الشهر الماضي على الاستقلال. وقد أثار توقيع تركيا منتصف أيلول/ سبتمبر الماضي، لاتفاق مع روسيا لشراء منظومة الدفاع الصاروخي “إس 400” استياء “الناتو” بذريعة أنّ هذه المنظومة لا تتلاءم مع منظومة الدفاع المشتركة بين أعضاء الحلف، على الرغم من أنّ الحلف لم يبادر إلى طمأنة تركيا بما فيه الكفاية خلال أزمتها مع روسيا.
آفاق التحالف الأميركي – التركي
يصعب القول إننا نشهد نهاية التحالف التركي – الأميركي، في ضوء عدم وجود بديل أمام الطرفين في المرحلة الراهنة؛ فمن ناحية ما زال الاقتصاد التركي يعتمد على المستثمرين الأجانب، وكثير منهم أميركيون. وما زالت تركيا التي قامت عقيدتها الدفاعية، منذ أوائل الخمسينيات، على عضويتها في حلف الناتو، غير قادرة على تركه في محيط مشتعل. ثمّ إن روسيا لا تستطيع التعويض عن الولايات المتحدة، ولا يمكن الاعتماد عليها حليفًا موثوقًا به، خصوصا أنّ ثمة تفاوتًا في الرؤى التركية – الروسية حيال ملفاتٍ كثيرة. في المقابل، فإنّ الولايات المتحدة في حاجة إلى تركيا في منطقة الشرق الأوسط؛ فهي دولة مسلمة كبيرة، ترتبط مع واشنطن في عضوية حلف الناتو، وتملك ثاني أكبر جيوشه، وللولايات المتحدة وحلف الناتو عدد من المنشآت العسكرية على أراضي تركيا، بما في ذلك قاعدة إنجرليك وإزمير الجويتان. وتستخدم قوات التحالف الدولي قاعدة إنجرليك، في شن هجمات جوية على “داعش” في سورية، كما أنّ فيها قاعدة تابعة للمخابرات الأميركية ومنظومة إنذار مبكر تخص منظومة الدفاع الصاروخي الأوروبية التابعة للحلف. وفي قاعدة إنجرليك نحو 2700 جندي وموظف أميركي، وتضم عشرات من الأسلحة النووية التكتيكية. أما إزمير فإنها تحتضن مقر قيادة القوات البرية لحلف الناتو. وبناءً عليه، من شأن شرخ في العلاقات بتركيا أن يؤثّر في توازناتٍ في منطقة الشرق الأوسط، فضلًا عن تداعياته المحتملة على أمن أوروبا نفسها، بما في ذلك تدفّق اللاجئين السوريين نحو حدودها؛ إذ تمثل تركيا نقطة الوصل بين آسيا وأوروبا. وبسبب حجم تركيا، وموقعها الاستراتيجي وقربها كذلك من سورية والعراق، فإنّ الولايات المتحدة تحتاج إليها في حربها على “داعش”، وفي موازنة التمددين، الإيراني والروسي، في المنطقة.
وعلى الرغم من أن مصادر تركية سبق أن ألمحت إلى إمكانية إغلاق قاعدة إنجرليك في وجه الولايات المتحدة وحلف الناتو، فضلًا عن التلميح بإعاقة تقدم القوات الكردية المدعومة أميركيًا نحو الرقة، فإنّ تركيا لم تنفذ أيًا من تلك التهديدات التي يبدو أنها تندرج في سياق الضغط لا أكثر. بل إنّ وزارة الدفاع الأميركية أكدت، خلال التوتر الدبلوماسي الحالي، أنّ العمليات
العسكرية المنطلقة من تركيا لم تتأثر.
خلاصة
على الرغم من التوتر الراهن في العلاقات الأميركية – التركية، فإنّ حاجة كل طرفٍ إلى الآخر لا تزال كبيرة. ويمكن القول إننا نعيش إرهاصات علاقة جديدة آخذة في التشكل، تكون فيها تركيا أبعد عن الغرب، من دون قطيعة معه، وأقرب إلى روسيا من دون تحالفٍ معها؛ فتركيا تعيش في محيط جيوستراتيجي معقد، وتحالفاتها الغربية بصيغتها السابقة لا تضمن لها المظلة الحمائية التي ترتجيها، ومن ثمّ فإنها تجد نفسها مضطرةً إلى مجاراة تبدل التحالفات والخصومات في المنطقة. أما الولايات المتحدة، فلا يمكنها أن تتخلى عن تركيا، على الأقل في المدى المنظور، لأنّ البديل هو ترك فراغٍ يملؤه الحلف الروسي – الإيراني في المنطقة.