كانت أمام الرئيسين الراحلين العراقي صدام حسينوالسوري حافظ الأسد فرصة تاريخية لوضع الأمة العربية على طريق الوحدة والنهوض والتحرير والتحرر، لكنهما فشلا في انتهازها، وفضلا التنافس الإحباطي فيما بينهما على البناء النهضوي.
كانا قائديْن بعثييْن يشتركان في البعد الأيديولوجي ويمسك كل منهما بدولة ذات مؤسسات وقدرات عالية. كان بإمكانهما لو توحدت جهودهما أن يقودا الأمة العربية، وأن يجنباها الكثير من المصائب والأهوال.
كان من الممكن ألا تحصل الحرب العراقية الإيرانية، وكان ممكناً صد العدوان الصهيوني على لبنان، وتجنب الحرب الأهلية فيالسودان، وإقامة نظام سياسي يمتص عوامل إفراز التنظيمات المتطرفة، وكان من الممكن الاندفاع نحو ضم مزيد من البلدان العربية نحو الوحدة، وتقليص نفوذ دول الخليج -وبالأخص السعودية– في الوطن العربي.
لقد كُتب الكثير حول هذا الموضوع، والعديد من الكتاب والمثقفين توجهوا نحو إسداء النصيحة، لكن النصيحة لم تكن تشفع لصاحبها، وانتهت بنا الأمور إلى ما فيه الأمة العربية الآن. والخلل دائما ليس عند الذي يخرب، وإنما عند الذي يملك القدرة على منع التخريب ثم لا يفعل.
الآن وبعد أن أذاقت “داعش” العراق وسوريا مُرّ العذاب والخراب؛ فإنه لا مفر أمام سوريا والعراق إلا التفكير في مستقبل الأيام، عساه يخبئ للأمة العربية ما يعيد لها بعض كرامتها وعزتها ويضعها على سكة التقدم والبناء.
من المتوقع -بل من المؤكد- أن قادة البلدين باتوا يدركون أخطاء الذين سبقوهم، وأن الأحداث علمتهم الكثير من التفكير العلمي والمنطقي. الأيام الثقيلة تضغط على الإنسان ليكوّن صورا جدلية متكاملة حول كيفية التعامل مع مختلف الظروف، وكيفية صناعة الظروف التي تجعل الأهداف في المتناول.
أنظمة لن ترجع
الدم الذي نزف لن ينتهي ببقاء الأنظمة السياسية على ما كانت عليه سابقا. ربما يبقى بعض الرؤساء مثل بشار الأسد على كراسيهم، لكنهم لن يعودوا إلى ممارسة الحكم بالطريقة ذاتها التي مارسوها سابقا قبل الأحداث.
“الآن وبعد أن أذاق تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) العراق وسوريا مُرّ العذاب والخراب؛ فإنه لا مفر أمام سوريا والعراق إلا التفكير في مستقبل الأيام، عساه يخبئ للأمة العربية ما يعيد لها بعض كرامتها وعزتها ويضعها على سكة التقدم والبناء. من المتوقع -بل من المؤكد- أن قادة البلدين باتوا يدركون أخطاء الذين سبقوهم، وأن الأحداث علمتهم الكثير من التفكير العلمي والمنطقي”
في العراق، الأمور أخذت مجراها نحو الاعتراف بالإنسان وحريته في الاختيار، وظهرت بعض الملامح الديمقراطية، وفي سوريا لن تكون الأمور مختلفة. لكن الأمل ألا تستنسخ الدولتان مزايا وسمات النظام الديمقراطي لما فيه من استبداد حادّ تمارسه وسائل الإعلام ورؤوس الأموال الضخمة.
نحن في الوطن العربي بحاجة إلى نظام حريات لا يسمح بظهور الاستبداد والطغيان. وطبعا الفارق شاسع بين نظام الحريات والنظام الديمقراطي، رغم أن الديمقراطية تعطي هامشا من الحرية.
وتقديري أنه لن يتم البحث في إقامة نظام حريات بسبب عدم المعرفة به، وشرحه يتطلب قدرة فلسفية عالية لاستيعابه، ولا أظن أن حاكما عربيا منتخَبا أو غير منتخب يملك هذه القدرة.
إن بنية النظام في العراق اختلفت عما كانت عليه سابقا، وأصبحت هناك انتخابات ومنافسات انتخابية وتداول للسلطة، وهناك أحزاب ومؤسسات مجتمع مدني، ومشاركة شعبية أوسع في أعمال الحكم وإدارة دفة البلاد. لقد تطور النظام السياسي العراقي لكن دون أن يختمر التطور، وهو بحاجة إلى وقت حتى يصبح تقليدا عراقيا.
لكن الخشية تتركز على التركيبة الاجتماعية الطائفية وانعكاسها على النظام السياسي. ولهذا يجب التركيز بداية على محاربة الطائفية لتتحول إلى مجرد قناعة ذاتية بدون انعكاسات تمييزية أو عنصرية تصبغ المجتمع العراقي.
الطائفية والمذهبية والقبلية والعرقية دروب من العنصرية تفسد العلاقات الاجتماعية وتؤثر سلبا على بنية النظام السياسي. وسيعاني العراق كثيرا إن لم توضع برامج ورؤى لمحاصرة الأبعاد الطائفية التي تغذيها قوى عدة داخلية وخارجية.
وفي الغالب سيتم رفع شعار الإسلام فقط دون شعارات السنة والشيعة، ودون أن يكون هذا الإسلام عدائيا تجاه فئات دينية أخرى. ما زال العراق يعاني من فكرة المحاصصة في المؤسسات الرسمية خاصة في البرلمان العراقي، وهذا يتطلب البطش بالتفكير الطائفي والقسوة في مواجهة النزعات المذهبية والدينية الممزقة للمجتمع.
سيتعرض النظام السوري لتحولات جوهرية بحيث لن يبقى من النظام السياسي القديم سوى ذكريات. من المحتمل جدا أن يبقى الرئيس الأسد في مكانه، لكنه سيخوض انتخابات تنافسية لا تقوم على مبدأ “نعم أو لا”. سيكون هناك تحول ديمقراطي، وستُسنّ قوانين للانتخابات والترشح، ولتأسيس أحزاب ومنظمات مجتمع مدني تعمل بحرية ضمن دستور جديد سيتم التوافق عليه.
وهذا التحول سيحصل حتى لو فاز الرئيس الأسد بالانتخابات التي سيتم تحديدها، وفق جدول زمني متفق عليه بين كل أطراف الحوار السوري. لكن مسألة تلافي عيوب النظام الديمقراطي ستبقى قائمة، ولن تتمكن البنية السياسية السورية الجديدة من حلها.
ستواجه سوريا بعض المشاكل المذهبية التي تنخر الجسد السوري، لكن ستوضع -مثل العراق- برامج ثقافية وتعليمية وتوعوية وإعلامية متعددة لمواجهة الظاهرة، والتخفيف من وطأتها على النظام السياسي. لقد أثّرت سنوات الاقتتال السابقة على عقلية المواطنين المذهبية ورسخت الكراهية والبغضاء، وعملية تصحيح الوضع تتطلب وقتا.
الإرهاب الرسمي العربي
لن يعود النظامان العراقي والسوري إلى توظيف أجهزة الأمن لحماية النظام في مواجهة المواطنين، وستجري تغييرات جوهرية على وظائف الأجهزة الأمنية بحيث تتولد فلسفة أمنية جديدة على الساحة، تكون مهمتها المحافظة على أمن المواطنين وأمن الدولة.
تلك الأجهزة الأمنية -التي غالت في إرهاب المواطنين وملاحقتهم، وحرمتهم من حرياتهم وأرهقتهم وزجّت بهم في السجون- لن تكون موجودة، وإن وُجدت فإن “داعش” ستولد مجددا لأن البيئة ستكون مواتية لتولدها.
“فلسفة الأمن في سوريا والعراق ستكون مختلفة عن الفلسفة العربية التقليدية، وستصبح الأجهزة الأمنية صديقة المواطن بدل أن كانت عدوه. لقد ساهمت أجهزة الأمن العربية التقليدية في تعريض أمن المواطن للخطر، وبالتالي أمن النظام للخطر وأمن الدولة. ظن النظام أن ملاحقة المواطن ستضمن له الاستمرار في الحكم، لكن الفلسفة السياسية تقول إن الضغط على الناس يدفع ثمنه المسؤول دوما”
فلسفة الأمن في سوريا والعراق ستكون مختلفة عن الفلسفة العربية التقليدية، وستصبح الأجهزة الأمنية صديقة المواطن بدل أن كانت عدوه. لقد ساهمت أجهزة الأمن العربية التقليدية في تعريض أمن المواطن للخطر، وبالتالي أمن النظام للخطر وأمن الدولة.
ظن النظام أن ملاحقة المواطن ستضمن له الاستمرار في الحكم، لكن الفلسفة السياسية تقول إن الضغط على الناس يدفع ثمنه المسؤول دوما. قد يتأخر رد فعل الناس، لكنه لا بد قادم.
لقد تعلم النظامان دروسا قاسية، وبات لزاما عليهما عدم الاعتماد على “أبو العريف” في إدارة الحكم، وأن عليهما توسيع المشاركة السياسية الجماهيرية إلى أقصى درجة ممكنة. والأهم أنهما يدركان الآن -أو بعد تبلورهما مجددا- أن الاعتماد على الخبراء وأصحاب المعرفة أفضل بكثير من الارتجال والاعتماد على جهل الحاكم.
أجهزة الأمن العربية في مختلف الدول العربية مخترقَة من أجهزة مخابرات معادية، وخاصة من أجهزة الكيان الصهيونيوالولايات المتحدة وبريطانيا. وهي مخترقة إلى درجة أن الكيان الصهيوني يعلم أدق تفاصيل الأوضاع العامة في العديد من الدول العربية.
ولنا في حرب عام 1967 عبرة عندما قام الكيان الصهيوني بالعدوان على دول عربية كانت أوضاعها العسكرية والأمنية مكشوفة تماما، وتمكن من إلحاق هزيمة نكراء بالجيوش العربية.
ولا يكاد يشك أحد في أن أجهزة الأمن العربية جميعها موجودة للدفاع عن الأنظمة الحاكمة وشخص الحاكم، ومتابعة الأعداء وعملائهم وجواسيسهم ليست على سلّم أولويات هذه الأجهزة.
في سوريا والعراق، تمكنت التنظيمات المسلحة من إدخال آلاف المقاتلين والدبابات وراجمات الصواريخ والسيارات المصفحة، وتمكنت من حفر الأنفاق قبل أن تحصل الأحداث، وذلك بدون علم مخابرات الدولتين.
هذه المآسي الأمنية ستتم متابعتها في كل من الدولتين، وستحدث إصلاحات أمنية جوهرية تركز على أمن الوطن والمواطن، وستتم محاربة وسد الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها الآخرون إلى داخل الدولتين. ذلك التسيب الأمني وخضوع الحارس للرشوة والابتزاز ستتم محاربته، والحرب عليه ستأخذ وقتا طويلا.
ليس من السهل إعادة تربية المواطن بطريقة يحرص من خلالها على الصالح العام وأمن المواطنين، وهو بحاجة إلى إعادة تأهيل. ولهذا فإن الأولوية في الدولتين يجب أن تكون لبناء المواطن وبناء الدولة. وحتى يحصل ذلك، لا بد من وجود الحاكم الرشيد الصالح.
وهناك شك في أن ينتخب المواطن العربي الموجود حاليا وفق معايير عقلية مَنْ يكونون قدوة للآخرين ومثلا يحتذى به. أي أن هذا الأمر يتطلب الكثير من الجهد والمال والوقت.
النهضة الفكرية والثقافية
سيحصل استرخاء في الحكم في كل من العراق وسوريا، وستظهر فسحة لا بأس بها أمام محاولات التطوير الاجتماعي والرقي الفكري والثقافي. وبما أن وطأة أجهزة الأمن ستخف؛ فإن الحرية المنبثقة ستفتح المجال أمام الكتاب والمثقفين والمفكرين لمخاطبة الناس بعقلية علمية ومنطقية.
“ليس من السهل أن يتم تجاوز فكرة ربط المستقبل العربي بالوحدة العربية؛ فالوحدة تشكل ركنا أساسيا من أركان القوة لدى أي مجتمع وعند كل الدول، ولا يشذ العرب عن هذه القاعدة. غياب التفكير المنطقي والعلمي هو الذي يمكن أن ينحّي فكرة الوحدة جانبا، ولا أرى أن النظامين اللذين سيتبلوران في كل من العراق وسوريا سيرفضان الفكرة في مهدها”
سيبقى الكاتب المنافق، والإعلامي الكاذب الدجال؛ لكن أعداد هؤلاء ستقلّ وسيجد العديد من الكتاب والإعلاميين أنهم ليسوا بحاجة للاستمرار في التزلف والاستجداء. المجال سيكون مفتوحا أمامهم للتعبير عن أنفسهم والوصول إلى أكبر عدد من الناس بوسائل مختلفة.
ستشهد بغداد ودمشق حركة ثقافية وفكرية وأدبية واسعة تُثري الساحة العربية عموما، وستنافس العاصمتان بيروت على مكانتها الثقافية. ستبقى بيروت بزخمها العربي المتطور، لكن جزءا من النشاطات التي انفردت بها ستتحول إلى العاصمتين.
ليس من السهل أن يتم تجاوز فكرة ربط المستقبل العربي بالوحدة العربية؛ فالوحدة تشكل ركنا أساسيا من أركان القوة لدى أي مجتمع وعند كل الدول، ولا يشذ العرب عن هذه القاعدة. غياب التفكير المنطقي والعلمي هو الذي يمكن أن ينحّي فكرة الوحدة جانبا، ولا أرى أن النظامين اللذين سيتبلوران في كل من العراق وسوريا سيرفضان الفكرة في مهدها.
والتراث العربي يزخر بالحِكَم والأحاديث المتعلقة بأهمية التماسك والعمل معا لمواجهة التحديات. وكذلك يخاطبنا الدين الإسلامي الذي أمرنا بأن نعتصم بحبل الله جميعا. سيضغط مثقفون ومفكرون وأصحاب رأي عرب باتجاه وحدة العراق وسوريا، لما في ذلك من صونٍ لحياض الأمة العربية وكرامتها.
ومن المبكر أن نحكم بشأن ما إن كان النظامان سيستجيبان، لكنهما لن يقفا ضد الفكرة. إن البعد الطائفي -إن تكرس- يمكن أن يؤثر على الرغبة في الوحدة. وفيما عدا ذلك؛ فإن الوحدة تشكل مكسبا لجميع العرب، وليس للدولتين فقط.
لكن الوحدة التي يمكن أن تسير الدولتان نحوها تختلف عن الوحدة التي أقامت “الجمهورية العربية المتحدة” (بين مصر وسوريا)؛ إذ ستكون هذه الأخيرة وحدة مدروسة تماما، وتقوم على أساس احترام المواطن والعمل لصالحه باستمرار.
عبدالستار قاسم
الجزيرة