نحن بإزاء حالة فريدة في التاريخ العربي المعاصر، اختلطت فيها الأوراق واختلت الأولويات بحيث صرنا بإزاء فتنة تجعل الحليم حيرانا. وفى قراءة ما حدث ومحاولة تحليله فإنني أرجو أولا أن نتفق على بعض النقاط الأساسية التي أزعم أنها ينبغي أن تظل حاضرة في الخلفية، كي تساعدنا على تصويب الرؤية ووضع الأمور في إطارها الصحيح قبل الدخول في أية تفاصيل، هذه النقاط هي:
– إن الدم العربي خط أحمر ينبغي ألا يسيل بسلاح عربي تحت أي ظرف. ووظيفة الجيوش العربية أن تدافع عن الأمة العربية ضد أعدائها، وليس الدفاع عن الأنظمة العربية ضد أبنائها.
– إن العدو الإستراتيجي الأول للأمة العربية والتهديد الحقيقي لأمنها له مصدر واحد هو إسرائيل ومن يوالونها. وما دون ذلك يظل خلافات وليس عداوات.
– إن أمن الشرق الأوسط واستقراره مرهون بالتوافق بين ثلاث دول إقليمية كبرى تمثل أكبر ثقل سكاني في المنطقة، وهذه الدول هي مصر وتركيا وإيران. وفى أي نظر إستراتيجي سليم فإن الجسور بين هذه الدول الثلاث ينبغي أن تظل مفتوحة وقوية قدر الإمكان.
– إن الاختلاف مع السياسة الإيرانية أو حتى الاشتباك معها لا ينبغي له أن ينسحب على العلاقة مع اتباع المذهب الشيعي، ومن ثم يتعين الفصل بين حسابات العلاقات والمصالح السياسية للدول وبين أواصر العلاقات المذهبية بين مكوناتها.
– إن وصف الاستنفار الحاصل في العالم العربي الآن بأنه تفعيل لمعاهدة الدفاع العربي المشترك فيه من التغليط الكثير. حتى أزعم أن الاحتشاد الراهن مقطوع الصلة بالمعاهدة التي أبرمت من ١٣ مادة في عام ١٩٥٠ (في أعقاب حرب فلسطين عام ١٩٤٨)، ذلك أنها نصت على تشكيل لجنة عسكرية دائمة من ممثلي هيئة أركان حرب الجيوش العربية لتنظيم خطط الدفاع المشترك (المادة الخامسة) كما نصت في مادتها السادسة على تشكيل مجلس للدفاع المشترك من وزراء الخارجية والدفاع في الدول الموقعة. وذلك كله لا وجود له الآن.
على أرض الواقع أسهمت عوامل عدة في إيصال اليمن إلى ما وصل إليه. وقد حاولت رصد تلك العوامل خلال مناقشات وحوارات أجريتها خلال الأيام الماضية مع من أعرف من الرموز اليمنية، هم السادة: محسن العيني وعبد الكريم الإرياني من رؤساء الحكومات اليمنية السابقين واللواء حمود بيدر من مناضلي ثورة ٢٦ سبتمبر وعضو مجلس الشورى والسفير المخضرم علي محسن الحميد والدكتور مطهر السعيدي الأستاذ الجامعي وعضو مجلس الشورى، خلال المناقشات برزت أربعة عوامل صنعت الأزمة الكارثية، هي:
– لم يكن هناك خلاف على أن أخطر الأدوار قام بها الرئيس السابق على عبد الله صالح. ذلك أنه خلال ٣٣ عاما قضاها في السلطة فإنه عمد إلى تأييدها لصالحه وأهم ما قام به في هذا الصدد أنه أخضع الجيش بكافة أفرعه لأفراد عائلته -أشقائه وأبنائهم- كما اشترى ولاء أكبر عدد من الضباط والجنود حين جعلهم من أبناء قبيلته (سنحان).
وفى النهاية فإنه لم يعد جيش الجمهورية اليمنية بقدر ما أصبح في حقيقة الأمر جيش على عبد الله صالح وعائلته. وبذلك ضمن إلى جانبه أكبر قوة مسلحة في البلد. وتلك كانت واحدة من أكبر مشكلات الرئيس عبد ربه منصور هادى الذى كان نائبه وتولى السلطة من بعده، حيث فوجئ بأن لا سلطان له على الجيش.
الإصرار على تمسكه بالسلطة كان واضحا طول الوقت. إذ طرق لأجل ذلك كل باب. حتى إن صحيفة “ديلي تلغراف” البريطانية نشرت تقريرا مثيرا أمس الأول (٢٩/٣) عن أزمة اليمن ذكرت فيه أنه في الوقت الذى فتح فيه صالح أبواب بلاده وفضاءها للطائرات الأميركية لاصطياد عناصر تنظيم القاعدة، فإنه عقد اجتماعا في مكتبه بصنعاء مع أمير تنظيم القاعدة سامى ديان عام ٢٠١١ (حين كانت الثورة ضده في أوجها). ووعده بسحب قوات الجيش من محافظة أبين لتسهيل دخول “القاعدة” إلى عدن وتوسيع نطاقها في الجنوب.. وقد تمت الصفقة بالفعل. وذكرت التلغراف أن هذه المعلومة وردت في تقرير إلى مجلس الأمن أعدته مجموعة من الخبراء المختصين.
اللافت للنظر أن الرجل حين تفاقمت الأوضاع في اليمن وفرضت عليه المبادرة الخليجية تسليم السلطة إلى نائبه، فإنه فاز بضمانتين مكنتاه من الاستمرار في مخططه، إذ ضمنت له المبادرة البقاء في صنعاء وسط أعوانه وعشيرته وقبيلته. وأهم من كل ذلك أنه بقي إلى جانب جيشه الذي أعده وأبقاه تحت نفوذه. الضمانة الثانية أنه تم تحصينه ضد المساءلة. الأمر الذي ضمن له الاحتفاظ بكل ما نهبه من أموال، إلى جانب احتفاظه بنفوذه. وبهاتين الضمانتين ظل الرجل مصدر قوة تزايدت في صنعاء بمضي الوقت.
من المفارقات أن علي عبد الله صالح الذي حارب الحوثيين بالسلاح طوال ست سنوات (من ٢٠٠٤ إلى ٢٠١٠)، لم يتردد في التحالف معهم وتشجيعهم على الزحف على صنعاء والخروج من صعدة. ولدى المسؤولين اليمنيين أدلة وقرائن عدة على أنه سهل لهم الاستيلاء على عمران قبل صنعاء وأن رجاله هم من سلموا أهم معسكرات ومواقع العاصمة لإحكام سيطرتهم عليها في ٢١ سبتمبر/أيلول عام ٢٠١٣.
في رأى المسؤولين الذين ناقشتهم أن الحوثيين تحالفوا مع علي صالح لدخول صنعاء وأنه هو من شجعهم على الاتجاه إلى الجنوب ومحاولة الاستيلاء على عدن. وكانت “قواته” في طليعة الوحدات التي أسهمت في تلك الحملة.
الشاهد أن الرجل قاتل الحوثيين ثم تحالف معهم. وفى حين أن المملكة السعودية احتضنته طول الوقت وقامت برعايته وعلاجه بعد محاولة اغتياله، إلا أنه اصطف إلى جانب الحوثيين المعادين للسعودية، حين تصور أن ذلك يفتح الطريق أمامه للعودة إلى السلطة. إلا أنه حين أدرك أن المملكة بصدد توجيه ضربة عسكرية للحوثيين فإنه أوفد ابنه إلى الرياض حاملا رسالة طلب فيها بعض الضمانات لشخصه وعرض تجهيز مائة ألف شخص لضرب الحوثيين، وهى الصفقة التي رفضتها المملكة وفضحتها حين عرضت قناة العربية تفاصيلها مدعومة بالصور في تقرير بثته يوم ٢٨ مارس/آذار الحالي.
الحوثيون هم العنصر الثاني في الأزمة. وقد عرفهم الدكتور عبد الكريم الإرياني بأنهم “حركة سياسية غير مدنية لها وسائلها العسكرية التي سعوا من خلالها إلى تحقيق أهداف غير معلومة وغير محدودة”. وفي تشخيص وضعهم فإنهم بدؤوا مظلومين وانتهوا ظالمين. إذ عانوا طويلا من التهميش والإقصاء والاضطهاد، خصوصا في عهد الرئيس السابق على عبد الله صالح، لكنهم حين انتفضوا وقرروا الخروج من صعدة والاستيلاء على صنعاء أسفروا عن وجه طموح لم يكن في الحسبان.
فرغم أنهم نجحوا في إثبات حضورهم واكتساب شرعيتهم السياسية وصاروا شركاء في السلطة، فإنهم لم يقتنعوا بذلك، ولم يكتفوا بالشراكة لأن شهيتهم انفتحت للسيطرة على السلطة، ولم يقاوموا غواية السيطرة على عدن في الجنوب، وفى رحلتهم فإنهم نقضوا ما تعهدوا به، ورفضوا الحوار السياسي. ومن ثم فإنهم أغلقوا أبواب التفاهم وآثروا أن يخضعوا الجنوب بمليشياتهم وقوات حليفهم الرئيس السابق. وتحدثوا عن مسيرتهم “القرآنية” التي لم يعرف لها هدف، وإن صرحوا أحيانا بأن تحرير القدس وفلسطين هدف لهم، يمر “بتحرير” عدة عواصم ومعاقل عربية مكة والمدينة على رأسها.
– إيران تتحمل المسؤولية في المقام الثالث، ذلك أنها كانت حاضرة في كل مراحل التفاوض مع الحوثيين. وللدكتور عبد الكريم الإرياني الذي كان أحد أهم مفاوضيهم خلال الأشهر الماضية عديد من القصص والقرائن التي تؤيد المدى الذي ذهب إليه الدور الإيراني في ترتيب الوضع المستجد، وما عاد سرا أن مبعوثا عمانيا ظل يقوم بتلك المهمة طول الوقت، حيث كان يتحرك باسم سلطان عمان واتصاله مباشرة مع الرئيس عبد ربه منصور هادي.
صحيح أن إيران كانت تبدي رأيها وتفصح وتدعو إلى الحلول السياسية ثم تترك القرار للحوثيين، لكنها أيضا كانت تستقبل الوفود وتمول وتدرب عناصرها سواء من خلال انخراطهم في الحرس الثوري أو من خلال إلحاقهم بمعسكرات حزب الله في لبنان.
ورغم أن السفير والقائم بالأعمال الإيرانى كانا دائمي التردد على صعدة وعدن، فإنهما لم ينجحا في نقل صورة صحيحة للواقع اليمني بتعقيداته المختلفة، وكانت النتيجة أن طهران أخطأت في تقدير الوضع في اليمن، وتصورته مماثلا لإيران أو لبنان. وبسبب سوء تقديرها اندفع الحوثيون نحو بسط سلطانهم على الجنوب والشمال، وهددوا السعودية بإقامة مناورات عسكرية قرب حدودها. وحسب ذلك في النهاية على تشجيع إيران أو سكوتها.
– العامل الرابع تمثل في ضعف أداء الرئيس عبد ربه منصور. ذلك أنه بعد انتخابه رئيسا كان يعلم أن علي صالح سيطر على القوات المسلحة برجاله، وكان بوسعه أن يستفيد من الزخم الشعبي ويصدر قراراته بتغيير هذا الوضع، لكنه لم يتخذ تلك الخطوة في حينها، وحين حاول معالجة الموقف بعد ذلك فإن إعادة الهيكلة التي أقدم عليها كانت رمزية ولم تغير شيئا من الواقع، وبلغ من ضعفه أنه حين أصدر تعليماته إلى وزير الدفاع لإرسال قواته إلى عمران للدفاع عنها وصد هجوم الحوثيين، فإن الرجل رفض تنفيذ أمره مما أدى إلى سقوط المحافظة.
ثم إن هناك لغطا كثيرا حول شيوع الفساد في مؤسسة الرئاسة وكان لذلك أثره السلبى خصوصا حين تردد اسم ابن الرئيس (جلال) في هذا السياق، وهو الذى كان يداوم في مقر الرئيس دون أن يكون له وظيفة أو مسؤولية.
(٤)
بعد استعراض تلك الخلفيات سألت: هل أصبحت “عاصفة الحزم” ضرورة لا بديل عنها؟ حينئذ جاء الرد أن ذلك صحيح للأسف. ذلك أن الحوثيين أغلقوا باب الحوار رغم المكاسب السياسية التي حققوها وأيدهم في ذلك الرئيس السابق، فضلا عن أن الحوار بدا مشكوكا في جديته وجدواه بعدما نقضوا ما سبق أن اتفقوا عليه، كما استخدم الاتفاق حيلة للتمكين والهيمنة.
آية ذلك مثلا أنهم بعد مفاوضات شاقة قبلوا في ٢٠ سبتمبر/أيلول الماضي برفع الحصار عن اثنين من المعسكرات المهمة في صنعاء، لكى يقوموا في اليوم التالي مباشرة (٢١ سبتمبر) بالاستيلاء على المدينة كلها، ليس ذلك فحسب وإنما وجهوا بممارساتهم أكثر من رسالة تهديد لأمن السعودية، وكانت المناورات التي أجروها قرب حدودهم واحدة منها.
بسبب من ذلك فإنهم حين ذهبوا إلى أبعد وسعوا لاجتياح الجنوب واحتلال عدن والاقتراب من باب المندب فإن العدوان صار سافرا، ولم يكن هناك خيار آخر، فصارت المواجهة العسكرية أمرا لا بديل عنه. وبعد فوات الأوان، حين بدأت تلك المواجهة فإنهم عادوا يتحدثون عن الحوار والحل السياسي، الأمر الذى لا بد أن يحدث في نهاية المطاف ولكن في ظل ظروف وضمانات أخرى.
فهمي هويدي
الجزيرة