إدارة أزمة تنظيم داعش

إدارة أزمة تنظيم داعش

calb28689vion_jpg

ذات يوم، سوف ينشغل المؤرخون بمناقشة الأسباب التي أدت إلى الفوضى التي تستولي الآن على جزء كبير من الشرق الأوسط. وسوف يتساءلون إلى أي مدى كانت الفوضى نتيجة حتمية للعيوب العميقة الشائعة في العديد من مجتمعات المنطقة وأنظمتها السياسية، وإلى أي مدى كانت نابعة مما اختارت دول الخارج أن تقوم به (أو لا تقوم به)؟
ولكن نحن الذين يتعين علينا أن نتعامل مع الواقع والعواقب المترتبة على الفوضى التي تجتاح المنطقة الآن. ولكن أيا كان الطريق الذي سلكناه لكي نصل إلى ما نحن عليه في الشرق الأوسط، فنحن الآن على ما نحن فيه، وما نحن فيه مكان بالغ السوء.

فالمخاطر هائلة على الأصعدة الإنسانية والاقتصادية والإستراتيجية. فقد خسر مئات الآلاف من البشر حياتهم، وأصبح الملايين بلا مأوى. ورغم انخفاض أسعار النفط، فإنها لن تظل كذلك إذا شهدت المملكة العربية السعودية ضربات إرهابية أو دخلت في حالة من عدم الاستقرار. “المخاطر التي تهدد المنطقة كبيرة ومتنامية، وهي تتوعد الناس في كل مكان، مع عودة المقاتلين المتطرفين إلى ديارهم، هذا فضلا عن آخرين لم يغادروا قط ولكنهم يستمدون الإلهام من إخوانهم للقيام بأفعال رهيبة”

والمخاطر التي تهدد المنطقة كبيرة ومتنامية، وهي تتوعد الناس في كل مكان، مع عودة المقاتلين المتطرفين إلى ديارهم، هذا فضلا عن آخرين لم يغادروا قط ولكنهم يستمدون الإلهام من إخوانهم للقيام بأفعال رهيبة. ورغم أن الشرق الأوسط يواجه وفرة من التحديات التي تهدد استقراره، فليس هناك أعظم ولا أخطر ولا أكثر إلحاحا من التهديد الذي يفرضه تنظيم الدولة الإسلامية.

الواقع أن أولئك الذين يعترضون على إطلاق اسم الدولة على تنظيم الدولة الإسلامية محقون. ذلك أن تنظيم الدولة الإسلامية هجين: فهو حركة جزئيا، وشبكة جزئيا، ومنظمة جزئيا. ولا يقع ضمن حدود جغرافية. ولكنه يسيطر على بعض الأراضي، ويضم نحو عشرين ألف مقاتل، ويتغذى على أيديولوجية دينية، وله أجندة.

في نهاية المطاف، بطبيعة الحال، لا يشكل تحديد اسم التنظيم -“الدولة الإسلامية في العراق وسوريا”، أو “الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام”، أو “الدولة الإسلامية”- قدرا من الأهمية أكبر من أهمية اتخاذ القرار بشأن كيفية التعامل معه. وأي إستراتيجية في هذا السياق لا بد أن تكون واقعية. ذلك أن القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية من غير الممكن أن يتحقق في المستقبل المنظور، ولكن إضعافه أمر ممكن.

ولا بد أن تكون الإستراتيجية شاملة أيضا. فأولا، لا بد من تقليص تدفق الأموال إلى التنظيم. ويساعد انخفاض أسعار النفط في تحقيق هذه الغاية، وهناك عدد من البنوك التي يمكن سرقتها. ولكن الابتزاز مستمر، كما يستمر الدعم المالي من أفراد. ولا بد من إغلاق مسار هذه التدفقات بواسطة الحكومات والمؤسسات المالية.

ومن الواضح أن الحد من تدفق المجندين أمر بالغ الأهمية. وبوسع البلدان أن تبذل المزيد من الجهد لجعل مغادرة الأفراد إلى العراق أو سوريا أكثر صعوبة، وقد تساعد في تحقيق هذه الغاية قائمة مراقبة على مستوى أوروبا بالكامل على سبيل المثال. ولكن لا شيء قد يخلف تأثيرا أكبر من اتخاذ تركيا القرار بعدم السماح لنفسها بعد الآن بأن تكون ممرا للمجندين، وأنها سوف تطبق قرار مجلس الأمن رقم 2178، الذي يدعو إلى تعاون دولي أقوى في التصدي للإرهاب.

ولا بد أن تضم أي إستراتيجية مكونا آخر يتمثل في مواجهة جاذبية تنظيم الدولة الإسلامية ودعايته. وهذا يعني الكشف علنا عن البؤس الذي يشهده أولئك الذين يعيشون تحت حكمه. كما يعني إقناع قادة وعلماء الدين المسلمين بعرض الحجج التي تؤكد أن سلوك تنظيم الدولة الإسلامية غير شرعي من وجهة نظر الإسلام.

وبطبيعة الحال، لا بد أن تتحدى أي إستراتيجية تنظيم الدولة الإسلامية بشكل مباشر في العراق وسوريا. وفي العراق، هناك بعض الأدلة التي تشير إلى أن زخم التنظيم قد توقف، ولكن الدور المتنامي لإيران والمليشيات الشيعية التي تدعمها يضمن أن العديد من السُنّة العراقيين سوف يتعاطفون مع تنظيم الدولة الإسلامية أو حتى يدعمونه، أيا كانت شكوكهم وريبهم. ولهذا السبب، يتعين على القوى الخارجية أن تؤكد بشكل أكبر على تقديم الدعم العسكري والسياسي للقوات الكردية والقبائل السُنّية.

“هناك بعض الأدلة التي تشير إلى أن زخم التنظيم في العراق قد توقف، ولكن الدور المتنامي لإيران والمليشيات الشيعية التي تدعمها يضمن أن العديد من السُنّة العراقيين سوف يتعاطفون مع تنظيم الدولة الإسلامية أو حتى يدعمونه، أيا كانت شكوكهم وريبهم”

وسوريا حالة أشد صعوبة، نظرا للحرب الأهلية الدائرة هناك والمنافسة بين القوى الخارجية على بسط النفوذ. ويشكل شن الهجمات من الجو على قوات تنظيم الدولة الإسلامية ضرورة ولكنه غير كاف. ولأن تنظيم الدولة الإسلامية كيان قائم على أساس إقليمي، فلا بد من وجود بُعد بري إذا كان لهذه الجهود أن تتقدم، ففي نهاية المطاف لن يتسنى إلا للقوات البرية الاستيلاء على الأرض والحفاظ عليها.

ويتلخص أفضل نهج في إنشاء قوة متعددة الجنسيات تتألف من جنود من البلدان المجاورة، وخاصة من الأردن. ومن الممكن أن تقدم الولايات المتحدة وغيرها من بلدان حلف شمال الأطلسي المساعدة، ولكن قوات سُنّية أخرى لا بد أن تتولى القسم الأعظم من القتال. إن ما تشهده المنطقة الآن صراع داخل نفس الحضارة، وتمكين تنظيم الدولة الإسلامية من تصوير الأمر وكأنه صراع بين الحضارات -وتصوير نفسه كمدافع حقيقي عن الإسلام- خطأ إستراتيجي فادح.

ومن الممكن أن تشكل قوات المعارضة السورية والقوات الكردية المحلية جزءا من هذه القوة السُنّية المتعددة الجنسيات، ولكنها ليست في وضع يسمح لها بأن تكون بديلا لهذه القوة. وإذا لم يكن في الإمكان تشكيل مثل هذه القوة، فمن الممكن تكثيف الهجمات الجوية، وبالتالي إبطاء تنظيم الدولة الإسلامية وكسب الوقت لوضع إستراتيجيات بديلة على الأقل. وفي ظل هذا السيناريو، لن يكون تنظيم الدولة الإسلامية مشكلة يتوجب حلها بقدر ما يشكل حالة لا بد من إدارتها والتعامل معها.

لن يتسنى للدبلوماسية أن تلعب دورا كبيرا في هذه المرحلة. ومن غير الممكن فرض أي حل، نظرا للخلافات بين القوى الخارجية ذات المصلحة في سوريا وقوة كل من تنظيم الدولة الإسلامية والحكومة السورية. وما قد يكون بوسع الدبلوماسية أن تحققه الآن هو الحد من -إن لم يكن إنهاء- القتال بين الحكومة السورية وشعبها، تماما كما تحاول الولايات المتحدة أن تفعل في حلب.

إن الخطر الأعظم في عام 2015 ربما يكون امتداد الأزمة الإقليمية إلى المملكة العربية السعودية والأردن. وسوف يكون الدعم الاستخباراتي والعسكري للدولتين بالغ الأهمية، فضلا عن تعزيز الجهود لمساعدة الأردن في تحمل عبء اللاجئين الهائل. وفي هذا الوقت من الاضطرابات غير المسبوقة في الشرق الأوسط، لا تزال واحدة من القواعد الأساسية في المنطقة قابلة للتطبيق: فمهما بلغ الوضع من السوء، فمن الممكن دائما أن يصبح أسوأ.

ريتشارد ن. هاس: رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي

نقلا عن الجزيرة نت