إعادة تقييم: النظام “الإقليمي العربي” في مرحلة ما بعد الثورات العربية

إعادة تقييم: النظام “الإقليمي العربي” في مرحلة ما بعد الثورات العربية

dimocracie

خلقت الثورات العربية التي شهدتها المنطقة العربية منذ نهاية العام 2010 في تونس ثم مصر، ثم انتقلت إلى دول عربية أخرى، تحولات إستراتيجية تؤثر من الناحية العملية على فرص التعامل مع المنطقة العربية على أنها “نظام إقليمي” قائم بذاته، ليس في الدوائر الأكاديمية العربية فقط، وإنما أيضا في الدوائر السياسية العربية والغربية، سواء فيما يتعلق بشكل الدولة، التي تعد وفق تعريف الأستاذ الدكتور عليّ الدين هلال والأستاذ جميل مطر، الوحدة الرئيسية في النظام العربي، أو فيما يتعلق بنمط التفاعلات بين الدول العربية، أو بفاعلية الجامعة العربية التي تعد المؤسسة الرئيسية المعبرة عن هذا النظام.
وهذه التحولات كانت موجودة منذ ما يزيد على عقد في المنطقة، وما فعلته هذه الثورات أنها جعلتها أكثر وضوحا، أي أنها لعبت دور القوى الكاشفة لما كان يجري في المنطقة، ولم يكن ينعكس في المناقشات الأكاديمية الخاصة بها، حيث كان هناك فجوة بين ما يجري، وبين ما تتم مناقشته من قبل الأكاديميين، وبين السياسات الفعلية التي تتبعها الدول العربية في إدارة شئونها الخارجية.
ويلاحظ أنه لفترة طويلة من الزمن، سيطر على المناقشات الخاصة بمستقبل النظام الإقليمي العربي، بما في ذلك تلك التي تلت الثورات العربية، تضخيم أهمية العامل الخارجي في تحديد هذا المستقبل، ممثلا في القوى الدولية التي لها مصالح إستراتيجية في الإقليم، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك على حساب الديناميكيات الداخلية والإقليمية، التي تعد قوى دافعة لاستمرار البنية الهيكلية للنظام العربي، أو قوى معوّقة لذلك.
وتتألف البنية الهيكلية للنظام الإقليمي العربي من ثلاثة مقومات رئيسية. يتمثل الأول في حدود النظام، سواء الحدود الوطنية لدوله، أو حدوده كنظام كما تعبر عنها جامعة الدول العربية، ويتعلق المقوم الثاني بالقيم التي تمخضت عن التفاعلات العربية-العربية منذ النشأة الرسمية للنظام في 1945، والتي حكمت تلك التفاعلات وحددت هوية النظام العربي. في حين ينصرف المقوم الثالث إلى أمن النظام العربي، وهو يتعلق بوجود تصورات مشتركة بين الدول العربية حول مصادر تهديد أمنها الوطني وأمنها الجماعي، ووجود سياسات مشتركة تستطيع معالجة مصادر التهديد تلك.
وتجادل هذه الورقة، بأن الثورات العربية، تلفت الانتباه إلى أهمية الديناميكيات الداخلية والإقليمية في تحديد مستقبل النظام العربي، حيث أصبح من الواضح أن السنوات الأربع التي تلت اندلاع هذه الثورات، تؤثر بصورة كبيرة على إمكانية استمرار الهيكل البنيوي لهذا النظام، خلال الفترة المقبلة، دون أن يعني ذلك تجاهل أهمية العامل الخارجي، ولكن أصبح من الواضح أنه ليس العامل الوحيد القادر على تحديد مستقبل هذه المنطقة من العالم.
كما تجادل هذه الورقة، بأن الوضع الحالي للنظام العربي، يمتاز باستمرار الهياكل البنيوية له، والتي ترسخت منذ نشأته في عام 1945، دون أن تمثل قيدا على سياسات الدول المكونة له، وهو ما أدى إلى غياب سلوك جماعي من خلال جامعة الدول العربية، التي تعد المؤسسة الرئيسية المعبرة عن النظام في مواجهة قضايا رئيسية تمس وجوده كفكرة، وكذلك تغير أولويات الدول العربية فيما يتعلق بالقضايا الرئيسية التي تمس وجود النظام، والتي ارتبطت نشأته بها مثل قضية الصراع مع إسرائيل، وهو ما يعد تغير في السلوك في حال استمراره قد يترتب عليه تأثر الهياكل البنيوية الخاصة به.
وتحكم مناقشة هذه الورقة لمستقبل النظام الإقليمي العربي بعد أربع سنوات من الثورات العربية، عدد من المحددات. ينصرف المحدد الأول، إلى أن هذا المستقبل، لا يرتبط بالتوجهات الأيديولوجية التي يعبر عنها التيار القومي العربي الذي كان فاعلا في فترة زمنية محددة، والذي لا يزال متمسكا بضرورة الحفاظ على فكرة “النظام العربي” أو “الوطن العربي”، وإنما يتأثر بالممارسات العملية policies وبالواقع الجديد الذي أصبح موجودا في المنطقة العربية، التي تعد مرتكزا أو قاعدة لهذا النظام، وهذا الواقع قد يكشف عن مسارات وتحولات تعمل عكس فكرة النظام العربي ذاتها.

إن الوضع الحالي للنظام العربي، يمتاز باستمرار الهياكل البنيوية له، دون أن تمثل قيدا على سياسات الدول المكونة له، وهو ما أدى إلى غياب سلوك جماعي من خلال جامعة الدول العربية
وينصرف المحدد الثاني إلى أن المنطقة العربية هي منطقة غير مستقرة، ولا يمكن التنبؤ بمستقبلها unpredictable، أو بمسار تطورها، أو نمط تفاعلاتها. كما أنها مليئة بالمفاجآت التي تستعصي على التوقع، فعلى سبيل المثال، أصبح من الصعب الحديث عن لحظة انتهاء “الربيع العربي”، وما بذل من جهود في التنبؤ بمسار الثورات العربية بعد انطلاق الثورة في تونس، لم يتمكن من معرفة أن مصر هي التي ستلي تونس، أو أنه ستقع في مصر ثورتان في 25 يناير 2011 و 30 يونيو 2013، وترجع أسباب الفشل بالتنبؤ إما لنزوع الأكاديميين وصناع القرار إلى تبسيط الصورة ، أو استبعاد ما لا يمكن التفكير فيه Black Swan، أو نتيجة عدم توافر معلومات دقيقة لديهم حول ما يجري في داخل دول المنطقة. ولعل هذا يفسر أن ما بذل من جهود في هذا المجال، لم يتوصل إلى نتائج كانت مفيدة في فهم واقع المنطقة، عندما تحول المستقبل إلى واقع، خاصة بعد الثورات العربية.
ويتعلق المحدد الثالث، بأن الحديث عن مستقبل المنطقة العربية حاليا، في ظل حالة عدم اليقين، التي تسيطر على الإقليم، بفعل ديناميكيات الثورات العربية، يجعل المهمة شديدة الصعوبة، سواء من قبل الخبراء، أو الدبلوماسيين، أو السياسيين. وما تسعى هذه الورقة لإنجازه هو رسم ملامح عامة guidelines قد تميز المنطقة خلال السنوات المقبلة، بناء على معطيات محددة من الواقع “الجديد” في المنطقة بعد أربع سنوات على الثورات العربية.

أولا- تجدد جدل “العروبة” أم الشرق أوسطية
يلاحظ أنه عادة ما تعلي المناقشات الخاصة بمستقبل النظام العربي بين الأكاديميين، من أهمية السياسات الأمريكية في التأثير على مستقبل النظام، ورغم أهمية العامل الخارجي في تحديد مستقبل النظم الإقليمية بصفة عامة، فإن الاهتمام به في الحالة العربية كان على حساب تحليل تأثير الديناميكيات الداخلية والإقليمية في النظام، والتي قد توفر قوى داعمة أو معوقة للعامل الخارجي ليمارس تأثيره.
وهناك مجموعة من الدراسات التي عملت على تحليل تأثير السياسات الأمريكية على مستقبل النظام العربي، وموقف الدول العربية من تلك السياسات، فعلى سبيل المثال، انتهت إحدى الدراسات إلى أنه منذ نشأة النظام الإقليمي العربي رسميًا في 1945 وحتى السنوات الخمس التالية على حرب احتلال العراق في 2003، فقد النظام تدريجيا القدرة على إتباع سياسات جماعية تجاه قضايا مرتبطة بوجوده، في حين استمر الهيكل البنيوي للنظم دون أن يمثل قيدًا على السياسات الفردية لدوله.
وفي هذا الإطار، كان يتم التعامل مع مشاريع الشرق أوسطية التي كانت تطرحها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، على أنها “بديل” للنظام الإقليمي العربي، وأن انسياق أي من الدول العربية لها، يعني عمليا تهديد النظام العربي، فعلى سبيل المثال، بعد حرب تحرير الكويت، طرحت الولايات المتحدة مشروع الشرق أوسطية، وقد دفع ذلك الكثير من الدارسين للحديث عن الشرق أوسطية كواقع، أو كمستقبل محتوم وعن تفكك النظام الإقليمي العربي وانهياره، بل إن هناك من رفض وجود النظام العربي باعتبار أن النظام الشرق أوسطي موجود منذ زمن بعيد، مستندين في ذلك إلى وجود الصراعات بين الدول العربية فضلًا عن وجود تفاعلات بينها وإسرائيل وإيران. وقد ظلت الدول العربية متمسكة بالنظام العربي كإطار لتفاعلاتها بعد خبرة التسعينيات، ولا أدل على ذلك من حركة الإصلاح التي قادها الفكر العربي والقيادات السياسية خلال تلك الفترة.
وفي الفترة التالية على احتلال العراق، وحتى اندلاع الثورات العرابية، عاد الحديث مرة أخرى عن “مؤامرة” أمريكية لتفكيك الدول العربية التي تعد المكون الرئيسي للنظام العربي، وطرح مشروع الشرق الأوسط الكبير، وأداة التنفيذ هذه المرة، ليست المؤتمرات الاقتصادية كما كان الوضع في الفترة التالية على حرب الخليج الثانية، وإنما من خلال دعم فكرة الثورة على النظم العربية، وتمكين جماعة الإخوان المسلمين من الوصول للسلطة في هذه الدول.
حيث انتشر خطاب في العديد من الدوائر العربية، يفيد بأن تسمية “الربيع العربي” هي تسمية مغلوطة، وأنه خريف أو صيف عربي، حتى إن العديد من المراكز البحثية العربية كانت تتجنب استخدام هذا المصطلح وتفضل استخدام عبارة الثورات العربية. كما انتشر تصور بين الأكاديميين والمحللين العرب بأن هذه الثورات لم تكن ثورات نقية، وأنها جزء من مخطط كبير خاص بعودة العثمانيين بثوب جديد، خاصة وأن تركيا هي من روّج لفكرة “الإسلام الليبرالي”، وعملت على إقناع واشنطن بدعم وصول الإخوان للسلطة في الدول العربية، والذين سيسيرون على النموذج التركي الذي عبر عنه حزب العدالة والتنمية منذ وصوله للسلطة في 2002، والذي يقوم على الجمع بين الدولة العلمانية، والإسلام السياسي ونموذج الاقتصاد الحر، وهو ما فسره عدد من الأكاديميين الأتراك بأنه السبب الرئيس في عدم اعتراض إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما على الإخوان كبديل سياسي لنظم الحكم القديمة في تونس ومصر، ووفق هذه الرواية، لعبت قطر دور الداعم والممكن، والضامن لنظم الحكم الجديدة في تونس ومصر.
إن المنطقة العربية هي منطقة غير مستقرة، ولا يمكن التنبؤ بمستقبلها، أو بمسار تطورها، أو نمط تفاعلاتها. كما أنها مليئة بالمفاجآت التي تستعصي على التوقع
ويستند هذا التفسير في جزء آخر منه، إلى أن من حرك القوى التي أطلقت الثورة هي قوى خارجية، مستندين في ذلك إلى ما سربته وثائق ويكيليكس عن تلقي بعض أعضاء حركة 6 أبريل في مصر، والتي لعبت دورًا مهمًا في ثورة يناير، تدريب في صربيا على عملية إسقاط النظام، وغيرها من القوى، وهي دورات تدريبية تكرر الحديث عنها وعن أنها كانت تنظمها أكاديمية التغيير القطرية، بالتعاون مع الولايات المتحدة وتركيا.
وهذا النمط من فكر المؤامرة، لم تقف حدوده عند المستوى الخطابي، بل كانت له تأثيرات سياسية، اتضحت في حالة دول الخليج، التي تبنت العديد من السياسات من أجل “منع وصول” الربيع العربي إليها، سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو الأمني، والتي استهدفت بدورها وبدرجات متفاوتة جماعات الإخوان المسلمين فيها، باعتبارها القوى الرئيسية التي سيستند إليها مخطط الربيع العربي، حتى إن بعض النشطاء على تويتر والفيسبوك أطلقوا حملات بعنوان “المؤامرة السعودية على الثورات العربية”. كما انعكس هذا النمط من التفكير في السياسات الخارجية لبعض دول الخليج، والتي انتهجت الحذر وبدرجات متفاوتة في تعاملها مع الدول التي وصل فيها الأخوان للسلطة، سواء في مصر أو تونس أو ليبيا.
ونتج عن ذلك، تجدد المناقشات الخاصة بالعلاقة بين النظام العربي، والنظام الشرق أوسطي، وكيف ستؤثر الحرب على داعش التي أعلنتها الولايات المتحدة في أغسطس 2014 على مستقبل هذا النظام، مع وجود اتجاهات أكاديمية تفضل استخدام مفهوم “المنطقة العربية”، بدلا من النظام العربي، واتجاه آخر يفضل التعامل مع الإقليم على أنه إقليم شرق أوسطي، وفي داخله إقليم عربي، في حين كانت هناك محاولات تناقش ما إذا كانت الثورات العربية ستكون نظام عربي جديد مختلف عن ذلك الذي نشأ في 1945، نتيجة وصول قوى الإسلام السياسي في سابقة من نوعها في تاريخ دول الثورات إلى السلطة، بحيث تكون “صراعات العرب وتوافقاتهم دينية الطابع والحل، بعدما كانت سياسية”.

ثانيا- واقع “جديد” خلقته الثورات العربية
رغم أهمية الاتجاهات السابقة، فإن الثورات العربية، أعلت من أهمية عدد من المتغيرات التي لم تولي تلك الاتجاهات أهمية لها، والتي من المتوقع أن تحدد مستقبل الهيكل البنيوي للنظام العربي، والخاص بالوحدات التي تمثل أساسا له، ممثلة في الدول التي لا تزال تعد الوحدات الرئيسية فيه، لتكون منطقة عربية ممتدة جغرافيا ومؤسسة تعبر عنه ممثلة في الجامعة العربية، ولكنها تؤثر على نمط السلوك الجماعي الخاص بهذا النظام كما تعبر عنه الجامعة العربية، فكما كشفت حالة الصراع في ليبيا، ثم في سوريا، فإن الجامعة العربية ليس لديها القدرة على اتباع سياسات مستقلة عن سياسات الأعضاء فيها، كما أنها لا تملك القدرة على إدارة العديد من الصراعات التي تشهدها المنطقة، مما دفعها لاستدعاء تدخل ما من المجتمع الدولي.
كما أن هذه المتغيرات تؤثر على نمط السلوك الفردي للدول العربية، ومدى اتساقه مع قيم النظام التي ترسخت منذ نشأته، وكذلك نمط تحالفاتها، وكيف تؤثر على حالة الأمن في النظام. ويمكن تحديد ثلاثة متغيرات تشكل اتجاهات رئيسية ستظل تؤثر على السلوك أو السياسات المتبعة في التعامل مع القضايا الرئيسية في المنطقة العربية، وهي أقرب ما تكون إلى سيناريوهات جزئية لشكل المنطقة العربية خلال السنوات العشر القادمة.
1- الدولة ليست الفاعل الوحيد المؤثر
ساد التصور في الدوائر الأكاديمية والسياسية لفترة طويلة، بأن هناك نوعين من الفاعلين في العالم، الدولة، والفاعل من غير الدولة، وكان التعامل مع الدولة يقتضي التعامل معها، نتيجة تأثيرات المدرسة الواقعية، على أنها الفاعل الرئيسي الذي يدور حوله كل شيء، وهذا الوضع تأثرت به المناقشات الخاصة بمستقبل النظام العربي، بما في ذلك تلك التي تلت الثورات العربية رغم محدوديتها، وقد نتج عن ذلك من الناحية العملية إغفال حقيقة تزايد تأثر الفاعلين المسلحين من غير الدول في أمن واستقرار المنطقة العربية، وكذلك تشكل نوع جديد من الفاعلين هو الفاعل المهجن Hybrid Actor، والذي لا يعد دولة بنسبة 100%، أو فاعلا من غير الدولة بصورة كاملة، فهو في منطقة “رمادية” بين النوعين من الفاعلين.
فمن ناحية، يشير معهد هيديلبيرج الدولي لتحليل الصراعات، في تقريره السنوي، إلى أن الفاعلين من غير الدول بأنواعهم المختلفة يلعبون دورًا مهمًّا في استمرار حالة الصراع في الإقليم، على نحو أدى لتزايد عدد الصراعات الداخلية التي يتم رصدها سنويا، مقارنة بعدد الصراعات بين الدول، مع مشاركة حالات معينة من الفاعلين من غير الدول في صراعات بين الدول، مثل حزب الله وحركة حماس، وبالتالي أصبحوا عاملًا مهمًّا في التأثير على مستوى الأمن والاستقرار في الإقليم.
يشير معهد هيديلبيرج الدولي لتحليل الصراعات، إلى أن الفاعلين من غير الدول بأنواعهم المختلفة يلعبون دورًا مهمًّا في استمرار حالة الصراع في الإقليم
ومن ناحية ثانية، أصبح النمط المميز لعلاقة الفاعلين المسلحين من غير الدول مع الدولة، هو العمل من داخل الدولة، من أجل الحفاظ على استقلال كيانهم، ومواردهم، ومناطق نفوذهم، والعمل على تغيير توجهات سياسات الدولة الخارجية بما يتسق مع مصالحهم.
بعبارة أخرى، لم تعد علاقة هذا النوع من الفاعلين بالدولة من واقع الخبرة العملية في المنطقة، تخضع لتصنيفات جامدة، من قبيل الصدام مع الدولة، أو الانعزال عنها، أو التحول إلى “فاعل دولة”، وإنما تقع هي الأخرى في مناطق رمادية grey areas ، فالفاعل المهجن، يعمل من داخل الدولة، وغدا تمثيله في مؤسسات الدولة السياسية والأمنية، لا يعني تخليه عن استقلال هيكله التنظيمي وموارده وسياساته كفاعل من غير الدولة، بل وإنه في أحيان كثيرة يسعى لتغيير سياسات الدولة على نحو يتفق ومصالحه، سواء عبر عن ذلك فكرة “حزبنة” الدولة كما في حالة حزب اللـه في علاقته بالدولة اللبنانية، أو “أخونة الدولة” كما في حالة الإخوان المسلمين خلال فترة حكمهم لمصر يونيو 2012- يونيو 2013، أو “حوثنة” الدولة كما في حالة الحوثيين في اليمن، الذين اتجهوا للمطالبة أخيرا بدور رئيسي في كتابة الدستور اليمني.
وهذا الوضع أحدث تحولا في طبيعة الفاعل، باتجاه التحول من فاعل من غير الدولة إلى فاعل مهجن، وفي طبيعة الدولة أيضا. وفي حالات معينة، أصبح الحفاظ على هذا النمط، من العلاقات يمثل مصلحة رئيسية للفاعل، وفي بعض الحالات الخيار الأقل تكلفة بالنسبة للدولة.
ومن ناحية ثالثة، أصبح نطاق تأثير الفاعلين المسلحين من غير الدول، لا يقتصر على الدولة، حيث تأكد كونهم فاعلين متعدين للحدود، يهتمون بالتأثير في القضايا الخارجية، وإتباع سياسات مستقلة عن سياسات دولهم تجاهها، وهذا ما يكشف عنه موقف التيار الصدري في العراق من الثورات العربية، وموقف حزب اللـه كذلك، وموقف جماعة الإخوان المسلمين من الحرب الإسرائيلية على لبنان 2006، وعلى غزة 2008-2009.
وبالتالي، أصبح الفاعل المسلح من غير الدولة طرفًا رئيسيًّا في السياسات الإقليمية في المنطقة، حتى إنه لم يعد من الممكن تحليل السياسات في المنطقة بالتركيز على الدول فقط، وهذا الوضع جعل تجاهل تأثيره ، لا يتفق والسياسة الواقعية realpolitik. ولذا تعد إحدى القضايا الرئيسية التي تواجه الدول العربية، هي كيف يمكن تطوير إستراتيجيات مختلفة للتعامل معهم، أو للتأثير في سلوكهم.

2- سيطرة نمط التحالفات “المرنة”
أصبحت دول المنطقة أكثر براجماتية في إدارة علاقاتها الخارجية، بما في ذلك علاقاتها مع الدول التي تمثل مصدر تهديد لها، حيث تخلت عن سياسات “إما معنا أو ضدنا”، لصالح إستراتيجيات تقوم على فكرة التوافق والتحالف المرن tactical alliance المرتبط بقضايا محددة، ومثل هذا التطور يجعل الحديث عن انقسام المنطقة إلى محاور جامدة، مثل محور الثوريين والمحافظين، أو الدول التقدمية والرجعية، أو دول المهادنة والممانعة، غير واقعي، حيث لم تعد هذه الثنائيات، تصلح لفهم التفاعلات الحالية في المنطقة، فمن الواضح أن التفاعلات شديدة التعقيد، وأن حالة الاصطفاف ليست جامدة، وترتبط بقضايا محددة، دون أن تنسحب على باقي القضايا الإقليمية.
ومن ناحية ثانية، أصبح التحالف المرن بين دول الخليج، باستثناء قطر وعمان، إلى جانب الأردن ومصر بعد ثورة 30 يونيو 2013، يحكمه وجود مصالح محددة لهذه الدول وتم خدمتها بسقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر، دون أن يعني ذلك اتفاقها حول قضايا إقليمية أخرى. حيث لا يعني اتفاق هذه الدول على أن إسقاط حكم الإخوان قد أزال خطرا محدقا بها، أن تصطف مع بعضها حول مستقبل الإقليم، حيث إن هناك خلافات جوهرية بين هذه الدول، وأحد هذه الخلافات مرتبط بالصراع في سوريا والموقف من التدخل الدولي.
ومثل هذا النمط من التحالفات، لا يعزز من فاعلية الجامعة العربية باعتبارها المؤسسة الرئيسية المعبرة عن النظام، أو أي من المؤسسات الأخرى مثل مجلس التعاون، والتي تشير الوثائق المؤسسة لها إلى أنها تهدف إلى التنسيق بين السياسات الخارجية والأمنية للدول الأعضاء فيها، حيث إن الفاعلية المتزايدة للتحالفات المرنة، فضلا عن طابعها المؤقت من حيث ارتباطها بقضايا محددة، وعدم وجود إطار مؤسسي رسمي لها، يجعلها بديلا جذابا للدول العربية الأكثر تأثيرا في المنطقة، ولا تمثل عبئا سياسيا، وذلك بدلا من تقديم تنازلات في إطار المؤسسات التقليدية في النظام، للتعامل بصورة جماعية مع قضية محددة.
تميل توازنات القوى في المنطقة، لصالح تعزيز الدور القيادي للسعودية باعتبارها مركز الثقل في الشرق الأوسط، في مواجهة الدور الإيراني الفعلي الممارس حاليا في المنطقة
3-قيادات متعددة و”مؤقتة”
منذ الثورات العربية، أصبح من الواضح أن البحث عن الدولة القائد في النظام العربي، لا يتفق والواقع الجديد الذي خلقته هذه الثورات، خاصة مع التحول في مركز الثقل السياسي Shifting Center of Gravity في المنطقة. فمن ناحية، تزايد الدور الإقليمي الذي تلعبه دول الخليج الست بدرجات متفاوتة، فبينما كانت قطر الدولة الأكثر نشاطا في المنطقة، حيث كانت الدوحة عاصمة القرار السياسي حتى ما قبل 30 يونيو 2013، اتجهت السعودية لتكثيف نشاطها في منطقة الخليج على نحو يسمح لها بتجنب تداعيات الثورات العربية، من خلال الأطر التي يوفرها مجلس التعاون الخليجي، وفي هذا الإطار طرحت فكرة توسيع المجلس ليضم الأردن والمغرب، والتدخل في البحرين على إثر احتجاجات فبراير 2011، ثم توفير المساعدات المالية للبحرين وعمان، وأخيرا نقل المجلس من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد.
ومنذ سقوط حكم الإخوان في مصر بعد ثورة 30 يونيو، اكتملت أبعاد هذا الدور لدول الخليج، على نحو أصبحت تمثل معه مركز الثقل السياسي في منطقة الشرق الأوسط، خاصة الرباعي الخليجي: تقوده السعودية والإمارات، وتدعمه البحرين والكويت، بينما تمر قطر بـ”إعادة تموضع” Re-positioning بطيئة بعد تغير أميرها، وبعد خسارتها الرهان على أخوان مصر، في حين تفضل عمان اتباع سياسة نشطة فيما يمثل مصلحة مباشرة لها، حيث أصبحت هذا الرباعي يتبنى منهج الاعتدال ودعم الاستقرار في المنطقة، ومواجهة أخونة المنطقة، لاسيما بعد الدعم الذي قدمه لمصر بعد ثورة 30 يونيو، وما تبعها من مواجهات عنيفة في الداخل مع جماعة الإخوان المسلمين.
ومن ناحية ثانية، تراجع تأثير مصر، خاصة مع انشغالها بتعقيدات المرحلة الانتقالية، حيث أصبح واضحا أن التطورات التي مرت بها مصر في الفترة التالية على ثورة 30 يونيو لم تسقط هلال الأخوان بالكامل في منطقة الشرق الأوسط، بذات الدرجة التي أسهمت في تشكله بعد ثورة يناير 2011، حيث لا يزال إخوان تونس قادرون على الحفاظ على نصيبهم من السلطة، وكذلك الوضع بالنسبة لإخوان ليبيا وإخوان اليمن، والإخوان في الكويت والبحرين.
ولا يرتبط تحول الرباعي الخليجي إلى مركز ثقل، بامتلاك دوله المال فقط، وإنما أيضا التفكير الإستراتيجي، وشبكة العلاقات والتحالفات التي تتخطى حدود منطقة الشرق الأوسط، لتؤثر على دوائر صنع القرار في واشنطن، وموسكو، فضلا عن الدول الأوروبية.
ويمكن تحديد ثلاثة أبعاد لكون هذه الدول مركز ثقل سياسي في المنطقة، يتمثل البعد الأول في أنها أصبحت المركز الذي يصنع فيه القرار السياسي فيما يتعلق بقضايا التغيير السياسي في المنطقة، حتى أصبحت المقولة الشهيرة، من يرد أن يحدث تغيير في دولته عليه أن يزور الإمارات والسعودية. وينصرف البعد الثاني، إلى أنها أصبحت مصدر تمويل لا يمكن التغافل عنه لعمليات التنمية في معظم دول الشرق الأوسط، وليس الدول العربية فقط، من خلال الصناديق السيادية.
ويتعلق البعد الثالث، بأن هذه الدول لا تزال تعد مصدرًا مهمًا للشرعية الإقليمية للسياسات الأمريكية في المنطقة، خاصة فيما يتعلق بالحرب ضد تنظيم داعش التي أعلنت عنها واشنطن في أغسطس 2014، والتي تلاها انعقاد مؤتمر جدة، بهدف تنسيق الجهود بين واشنطن والدول الإقليمية الراغبة في المشاركة في هذه الحرب.
ويظل استمرار هذا الوضع خلال السنوات المقبلة، مرتبط بقدرة هذه الدول على تحصين نفسها من التداعيات التالية على الثورات العربية، فضلا عن قدرتها على احتواء التأثيرات التي ستترتب على الاتفاق بين إيران ومجموعة 5+1، إلى جانب استمرار انكماش الدور السياسي للقوى التقليدية في المنطقة، لا سيما مصر وتركيا.
ومن ناحية ثالثة، تميل توازنات القوى في المنطقة، تميل لصالح تعزيز الدور القيادي للسعودية باعتبارها هي مركز الثقل في الشرق الأوسط، في مواجهة الدور الإيراني الفعلي الممارس حاليا في المنطقة، وفي مواجهة الدور المتوقع أن تمارسه طهران في حال توصلها لاتفاق الصفقة مع الولايات المتحدة والدول الغربية. وهذا الوضع يجعل الحديث عن أي دور مصري يكون في إطار تعزيز القيادة السعودية في المنطقة في مواجهة أي تمدد للدور الإيراني، وليس في إطار التنافس معها، فمصر لن تلعب دور شرطي المنطقة في الخليج.
تظل المناقشات الخاصة بمستقبل النظام العربي، كفكرة شغلت الدوائر السياسية والأكاديمية لفترة طويلة من الزمن، مرتبطة بمدى فاعلية المؤسسات المعبرة عن هذا النظام في التعامل مع القضايا الرئيسية في المنطقة، وهذه الفاعلية، أصبحت تتأثر بصورة كبيرة بالديناميكيات الداخلية وبالتحولات المصاحبة للثورات العربية.
وتظل التحولات المصاحبة للثورات العربية، تطرح تحديا على مستقبل النظام العربي، من حيث هيكله البنيوي، فتصاعد تأثير الفاعلين المسلحين من غير الدول، وتحول طبيعة الدولة نتيجة انتشار نمط الفاعل المهجن، يستدعيان إعادة النظر في الأساس الذي قام عليه النظام العربي باعتباره نظام للدول فقط، كما أن انتشار نمط التحالفات المرنة، يضعف من الناحية العملية أهمية الجامعة العربية كإطار للعمل والتنسيق الجماعي بين الدول العربية، خاصة وأنها لم تكن قادرة على التفاعل بصورة مؤثرة مع الثورات العربية خاصة في دول مثل ليبيا واليمن وسوريا، وربما تعامل مصر مع داعش ليبيا، بعد مقتل المصريين المختطفين هناك، يؤكد ذلك، إلى جانب ذلك، فإن انتشار نمط القيادات المتعددة أو المؤقتة، يزيد من إضعاف المؤسسة الرئيسية المعبرة عن النظام العربي، ومثل هذه التحولات من المتوقع أن يستمر تأثيرها في المنطقة لفترة حتى تمر مرحلة الثورات العربية.
كما تكشف التفاعلات في المنطقة، عن أن حقيقة مجاورة المنطقة العربية، لدول تعد مرتكزا لنظام شرق أوسطي تروج له الولايات المتحدة، لا يقلل من حقيقة وجود المنطقة العربية، من حيث امتدادها الجغرافي، ووجود سمات ثقافية مميزة لها، فاعتبارات التاريخ أو الجغرافيا لا يمكن تغييرها، كما أنه لا ينفي وجود تفاعلات بين هذه الدول العربية، وكل من تركيا وإيران وإسرائيل التي يقوم عليها النظام الشرق أوسطي، وبالتالي قد تكون المناقشات بحاجة إلى إعادة ترشيد بحيث تقبل حقيقة إمكانية استمرار الهياكل البنيوية للنظام العربي، جنبا إلى جنب مع نظام شرق أوسطي، أصبحت العديد من الدول العربية تتفاعل مع القوى الرئيسية فيه.

د.إيمان رجب : رئيس تحرير دورية “بدائل”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية

المركز العربي للبحوث والدراسات