ابرمت إيران والقوى الدولية في الثاني من أبريل/نيسان 2015 في لوزان السويسرية “اتفاق إطار” بشأن برنامج إيران النووي في خطوة اعتبرت تاريخية، للوصول إلى اتفاقية نهائية تضع حدا لمباحثات دامت 12 عاما. وفي ظل ظروف دولية وإقليمية بالغة الدقة تشهدها المنطقة العربية، تؤشر بمرحلة تغيير انتقالية يراد منها إعادة تشكيل موازين القوى بين الأقطاب الرئيسة فيها.
وتضمن الاتفاق في مجمله تعليق أكثر من ثلثي قدرات التخصيب الإيرانية الحالية، ومراقبتها لمدة عشر سنوات إذا تمكن الطرفان من التوصل إلى اتفاق شامل بحلول الثلاثين من يونيو/حزيران المقبل، ونقل مخزون إيران من اليورانيوم المخصب للخارج، وتخفيض أجهزة الطرد المركزي. كما وافقت إيران على عدم بناء أي منشآت جديدة لتخصيب اليورانيوم لمدة 15 عاما، مع تأكيدها أن العقوبات المرتبطة بالبرنامج النووي سترفع حسب التزام طهران بالاتفاق. ووفقا للمعلومات المتاحة وافقت إيران على أن تخفض بشكل كبير عدد ما لديها من أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم الجاهزة للتشغيل إلى 6104 من أصل 19 الف جهاز. وستشغل 5060 جهازا فقط لعشر سنوات بمقتضى الاتفاق المستقبلي مع القوى الست. وأضاف التقرير أن إيران ستستخدم فقط أجهرة للطرد المركزي من الجيل الأول أثناء تلك الفترة.
إيران إلى مزيد من النفوذ
تفسير التطورات التي حملت على توقيع الاتفاق، يؤشر إلى حالة المرونة والذرائعية التي تتسم بها سياسة طهران الخارجية الايرانية عند اﺳﺘﺸﻌﺎرھﺎ اﻟﺨﻄﺮ اﻟﺸﺪﯾﺪ، واﺗﻔﺎق ﺗﺴﻠﯿﻢ اﻷﺳﻠﺤﺔ اﻟﻜﯿﻤﯿﺎﺋﯿﺔ اﻟﺴﻮرﯾﺔ نوذجا. رغم امتلاكها للعديد ﻣﻦ أوراق اﻟﻘﻮة ﻓﻲ اﻟﻤﻨﻄﻘﺔ، وﻓﻲ ﺳﺎﺣﺎت ﻛﺜﯿﺮة، ﻣﻨﮭﺎ: أﻓﻐﺎﻧﺴﺘﺎن واﻟﻌﺮاق وﺳﻮرﯾﺎ وﻟﺒﻨﺎن واﻟﯿﻤﻦ واﻟﺒﺤﺮﯾﻦ وﻏﯿﺮھﺎ، وﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﻓﺈن اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻰ ﺗﺴﻮﯾﺔ مع اﻠﻐﺮب، ﯾﺴﺎﻋﺪها ﻓﻲ إﻋﺎدة رﺳﻢ اﻟﻤﻨﻄﻘﺔ ﺑﻤﺎ ﯾﺤﻔﻆ اﻟﻤﺼﺎﻟﺢ اﻟﻐﺮﺑﯿﺔ.
والاتفاق مع الغرب يعني رفع العقوبات الدولية عن ايران، وحصولها على أكثر من مئة مليار دولار من الأرصدة المجمّدة، فضلا عن وزيادة انتاجها النفطي وتطوير قطاعات انتاجية جديدة، وتوفير دفعة اقتصادية كبيرة للاقتصاد الايراني الراكد، حيث سيتم الغاء ستة قرارات اتخذها مجلس الأمن ضد إيران بسبب برنامجها النووي. وبعبارة ثانية فان المنطقة ستشهد حراكا ايرانيا لمدّ نفوذها سيكون اكبر من السابق، ومتناسبا مع مكانتها التي تعززت بفعل هذا الاتفاق.
ومن ناحية أخرى ستحقق إيران مكانة “دولة نووية حافة” أي دولة تمتلك المعرفة اللازمة لإنتاج قنبلة ما يمنحها الكثير من المنعة والنفوذ والمكانة، وليست القدرات النووية في موضع استخدام كما هو معروف، بقدر ما تضفيه من رصيد يضمن موقعا متقدما في التشكيلة الاقليمية والدولية.
وبالمقابل فان الولايات المتحدة تريد التخفيف من أعباء أدوارها في الشرق الأوسط تمهيداً لتركيز اهتمامها على منطقتي شرق آسيا وجنوب شرقي آسيا. ما يتطلب ايجاد توازنات جيوسياسية تضمن مصالحها، وتفرض على أبرز اللاعبين الإقليميين التنسيق معها. ولن يكون ذلك الا من خلال ضبط المسار النووي الإيراني وإبقائه تحت المراقبة، ومنعه من إنتاج قنبلة نووية.
التسارع الأمريكي نحو حلّ ملف خلافي يعيد إيران إلى المجتمع الدولي بعد سنوات من العزلة؟ يكشف عن رغبة الجانبين لاعادة تأهيل علاقات متوترة امتدت لثلاث عقود، فالأمريكيون يدركون ما تتوافر علية طهران من مزايا استراتيجية واقتصادية وسياسية، فضلا عن قدرتها في تحويل العلاقات من “حافة الهاوية” إلى “حافة التطبيع”.
والمتتبع للسياسة الايرانية يلمس فيها براجماتية عالية في ادارة علاقاتها الخارجية، فهي لا تنطلق من اسس جامدة بل تتعامل بمرونة وهامش حركة يمكنها من تطويع اهدافها المعلنة والمبادي الايديولوجية التي تستند اليها بما يخدم المصلحة الايرانية. ويتجسد ذلك في سعيها الدؤوب لتعظيم قدراتها وترسيخ وجودها أينما سنحت لها الفرصة ذلك. ويكمل ما تقدم تفضيل الغرب للتعامل مع إيران الشيعية، نظرا لهيمنة المرجعية الدينية الايرانية على صناعة القرارات الهامة على مختلف مستوياتها، وهو امر مكّن رجال الدين من السيطرة على الاتباع والمقلدين، وحملهم بالتالي على القبول بما تراه هذه المرجعيات مناسبا في مختلف المعادلات.
وعلى الجهة الاخرى تقف الدول العربية، في مشهد الصدام والتنافس، عاجزة عن قراءة المتغيرات الاقليمية والدولية، تراهن على حليف ترجو ان يتخذ خطوات عملية لوقف الزحف الإيراني الممتد على المنطقة، فضلا عن فشل العرب في توظيف الادوات المتاحة لديهم في احتواء المخاطر، اضف الى ذلك فان الاسلام بنسخته السنية يشكل قلقا للغرب، فالحالة السنية هي المهدد الحقيقي لمصالحه، وهي كما يرى الغرب انتجت “ارهابا” من شأنه ان يطاله. بينما “تكافح” إيران الفكر القاعدي المتطرف في صف الامريكيين والاوربيين، مما اكد الحاجة إلى بناء تحالفات قوية وفاعلة على مستوى المنطقة لمحاربة هذا الفكر، تكون إيران بموجبها حليفا رئيسا وشريكا في مكافحة التنظيمات السنية المتطرفة.
هل بدأ سباق تسلح نووي في المنطقة؟
الصفقة مع إيران قد تؤدي إلى تأجيج سباق تسلح في المنطقة، كما اشار إلى ذلك مسؤول سعودي من ان بلاده ودولاً أخرى ستسعى للحصول على أي حقوق ستمنحها القوى العالمية لإيران بموجب اتفاق نووي؛ ما سيؤدي إلى اتساع دائرة انتشار التكنولوجيا النووية. ويرى مراقبون أن المملكة العربية السعودية متجهة إلى البدء في مشروعات نووية وتسليح أول قنبلة من هذا النوع، في ظل التنافسات العسكرية في المنطقة، والتي تشتعل مع بروز النفوذ الإيراني في اليمن وسوريا والعراق. ويدور الحديث اليوم حول تعاون نووي باكستاني –سعودي، بالنظر لمتانة العلاقات بين الجانبين، والتي تجلت ابان “عاصفة الحزم” حيث اعلنت باكستان أنها سترد “بشكل قوي على أي تهديد محتمل لوحدة أراضي المملكة العربية السعودية”، ما قد يؤهل السعودية لامتلاك السلاح النووي من اسلام آباد.
التوازن بين قوتين
في الوقت ذاته، سيتعين على الولايات المتحدة أن تثبت لحلفائها العرب – خاصة المملكة العربية السعودية ودول الخليج – انها مستعدة لتكون شريكا يمكن الاعتماد عليه في مواجهة التدخل الإيراني في المنطقة. بما يمكنها من تحقيق التوازن بين الفرص التي تنشأ عن هذا الانفتاح الجديد مع إيران، وتلبية مصالح المملكة العربية السعودية ودول الخليج في المنطقة. وتجلى ذلك بدعم الولايات المتحدة العمليات العسكرية السعودية في اليمن ضد المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران. حيث ساند وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر الخطة لإنشاء قوة عسكرية عربية مشتركة. كما رفع الرئيس الأمريكي باراك أوباما قرار تجميد تسليم مصر طائرات “أف-16” الحربية ومعدات عسكرية أخرى. وبهذا الصدد من قال روبرت اينهورن، وهو زميل بارز في السياسة الخارجية في معهد بروكينغز والمسؤول السابق بوزارة الخارجية “من المهم بالنسبة لإدارة أوباما المحافظة على وجود عسكري قوي في المنطقة لمواجهة الهيمنة الإيرانية.”
العرب الحلقة الاضعف
ومن الواضح أن الاعتراف الغربي بالنفوذ الإقليمي الإيراني من شأنه أن يكون على حساب دول الخليج العربية، نظرا لأنها الحلقة الأضعف في السلسلة الإقليمية من النفوذ. وان واقع ما بعد الصفقة يؤشر إلى وجود ثلاث قوى إقليمية هي: إيران وتركيا وإسرائيل. وفي ضوء هذه المتغيرات، قد يكون من الحكمة ان تتجه دول الخليج العربية لمزيد من التعاون العسكري المشترك، وعدم الركون الى الولايات المتحدة في صيانة مصالحها القومية العليا. ما يتطلب بناء شراكات استراتيجية مع القوى الإقليمية غير العربية مثل باكستان وتركيا، التي تشاطر المخاوف الخليجية من الطموحات الإيرانية في المنطقة. فضلا عن تحسين العلاقات الخليجية البينية؛ حيث أظهر التعاون في الحملة الجوية على اليمن أن هذه الدول لا يمكن أن تنجح إلا معا، لمواجهة التهديدات الإقليمية، وأيضا لتكون لاعبا إقليميا رئيسا يتصدى لمحاولات الهيمنة الإيرانية.
ومن وجهة نظر غربية فان إنهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الامريكية وإيران قد يسهم على نحو كبير في إنهاء الحروب الأهلية الاخرى التي تعانيها منطقة الشرق الأوسط. والحروب الباردة نادرا ما تكون كذلك، فانها عادة ما تكون حروبا بالوكالة، يقوم بها عملاء محليون، لرسم حدود للجغرافيا الاقليمية في الحكومات المركزية الضعيفة، وابان حالات عدم الاستقرار الطائفي – كما رأينا في لبنان والعراق واليمن، الامر الذي قد يؤدي إلى محاولة إحياء الهيكل المزدوج من النظام الإقليمي: المملكة العربية السعودية مقابل إيران، الذي كان قائما قبل احداث الاحتجاجات العربية في عام 2011، ليتشكل على اثرها معسكر ثالث لمساند لجماعة “الإخوان المسلمين” ضم كلا من تركيا وقطر. وجاء الانشغال السعودي –الخليجي في تحجيم قوة هذا المعسكر مستنفدا موارد هذه الدول، وليصب في نهاية المطاف بمصلحة إيران لجهة تقوية نفوذها.
ومن هنا فان المسعى الغربي، في تفكيك الحرب الباردة المذهبية بين إيران والقوى العربية السنية، يستند إلى مقاربة حركية، تنطلق من امكانية ان يكون هذا الاتفاق متغيرا حاسما في التخفيف من المخاوف الايرانية حيال مرحلة ما بعد الاسد، اذا ما تم ضمان انبثاق حكومة تحافظ على علاقات جيدة مع طهران، فانها قد تكون إلى حد ما أكثر انفتاحا للتفاوض على نقل السلطة في سوريا.
مخاوف سعودية واسرائيلية
وتبقى الخشية السعودية من تداعيات الاتفاق النووي مشروعة، ففي حال تقلص النفوذ الأمريكي في منطقة الخليج العربي، فإن إيران ستكون القوة الإقليمية العسكرية الأقوى، إذ يمثل الاتفاق بداية لعلاقات ايرانية –امريكية جديدة من المحتمل ان تكون على حساب الحلفاء الخليجيين، فضلا عن تأثيراتها الداخلية ذات الصلة بتحرك الاقلية الشيعية التي تتركز في المنطقة الشرقية من المملكة وهي منطقة غنية بالنفط. وبحكم الابوية الايرانية مع الشيعة، فقد تشهد المملكة حدوث اضطرابات تهدد استقرارها. وهذا ما جعل القيادة السعودية تطلق “عاصفة الحزم”. لتكون بمثابة رسالة مزدوجة يراد بها اخذ زمام المبادرة للحد من نفوذ ايران من جهة، والتأكيد من جهة اخرى بامكانية الاعتماد على الذات في صيانة المصالح والحفاظ على الامن دون الحاجة دون الحاجة إلى الدعم الامريكي الذي طال انتظاره.
اما تجادل به اسرائيل حيال الاتفاق ينطوي على ابعاد سياسية واستراتيجية لا تقتصر على الجانب النووي حصراً، كونه سيزيد من وتيرة السياسات والطموحات الإقليمية لإيران التي تبنتها إدارة أوباما، ويعزز مكانتها في اكثر من عاصمة عربية بدءاً بسوريا والعراق وانتهاء باليمن ولبنان. فالاتفاق من وجهة نظر اسرائيلية يعد صك الشرعية الذي يمنح للبرنامج النووي الإيراني، ويزيد من عداء وإرهاب إيران في الشرق الأوسط وخارجه، ما يمهد لطهران الطريق للوصول إلى القنبلة النووية. فالاتفاق يحتوي على عدة ثغرات تعدها إسرائيل سيئة لها، وقد تعطي إيران الوقت الكافي لتصبح دولة “عتبة نووية”، وأن يكون لديها الوقت الكافي لتخصيب كمية من اليورانيوم تمكّنها من تصنيع قنبلة نووية.
وسياسياً تتخوف إسرائيل من إزالة العقوبات عن إيران، ولو كانت بشكل تدريجي، الأمر الذي سيمنحها مكانة استراتيجية هامة، ليس على مستوى المنطقة فحسب، وإنما على مستوى العالم أيضاً، وهو ما سيكون على حساب المكانة الاسرائيلية.
اضف إلى ذلك ما تحدث عنه رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو مرات عديدة، حيث أعرب عن مخاوف بلاده تجاه استمرار إيران في نشاطها النووي بغض النظر عن الاتفاق، ما يؤدي لجر منطقة الشرق الأوسط لسباق تسلح نووي خاصة من طرف المملكة العربية السعودية وتركيا ومصر؛ وتزداد خطورة هذا الأمر في الوقت الذي تسعى فيه السعودية، بحسب محللين إسرائيليين، لتشكيل محور سني يضم مصر وتركيا أيضاً لمواجهة إيران، الأمر الذي ترى فيه إسرائيل خطراً عليها أيضاً.
وعليه فان الاتفاق لن يمنع إيران من مواصلة نشاطها للسيطرة على دول في الشرق الأوسط، بل سيؤدي إلى تفاقمه وتسارعه، خاصة في الدول التي تحوي أقلية أو أغلبية شيعية أو فئات موالية لإيران؛ مثل السعودية والبحرين واليمن والعراق ولبنان وسوريا، كما أنه سوف يعزز من قوة الفصائل المسلحة مثل “حزب الله” وحركة حماس في غزة.
توقيع الاتفاق النووي الايراني مع مجموعة دول 5+1 حدث له اهميته، تتطلب الايام التي تليه استجابة تاريخية عربية، تعيد رسم السياسات لترقى إلى مستوى التحديات، فهل سيكون ذلك ممكنا؟
هدى النعيمي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية