إذا كانت مناصرة غالبية اليساريين العرب طاغيةَ دمشق بشار الأسد آتية من خشيتهم من أن يسيطر تنظيم «داعش» ويتمدّد في سورية وجوارها، على قاعدة أنه حزب ذو توجهات دينية متشدّدة، فإن مؤازرتهم حزباً دينياً لا يختلف عن «داعش» مثل «حزب الله» اللبناني، تثير الإحساس بالتناقض الفادح في الرؤية، والكيل بمكيالين.
سنعترف مع الذين يؤازرون الحزب، بأنّ له فضلاً في الانتصار على إسرائيل، وتحرير الجنوب اللبناني، لكنّ الحزب عوضاً عن جعل تلك «المآثر» منصة لتعميم قيم المقاومة الحقيقية للاحتلال والظلم واضطهاد الشعوب، مضى يمارس ديكتاتورية على الداخل اللبناني، فتحوّل إلى سلطة متوحشة تطارد المخالفين، حتى لو اقتضى الأمر تفجيرهم وتصفيتهم جسدياً. ثم أمعن في شعار «المقاومة والممانعة» حتى زيّن لنفسه احتلال بيروت وفرض الأمر الواقع بقوة السلاح، فأدخل لبنان في نفق معتم لا ضوء فيه.
ثم غالى الحزب في غطرسته، فراح يرسل جنوده لمؤازرة نظام بشار الأسد وقتل السوريين الذين ثاروا على الاستبداد والتهميش وانعدام العدالة والكرامة، ثم أرسل «حزب الله» قواته إلى العراق، بذريعة محاربة «داعش» مع أنّ الهدف الحقيقي هو الحيلولة دون اختلال المعادلة الطائفية هناك لمصلحة السنّة الذين يزعم «داعش» الدفاع عنهم. وبالطريقة ذاتها يعمل «حزب الله» في اليمن، والبحرين، والكويت، ويتغلغل في بلدان أميركا اللاتينية ويشارك في تجارة المخدرات والسلاح وتبييض الأموال، من أجل تأمين موارد قواته التي ألمح أمينه العام السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير إلى أنها ستنتقل من العراق «للالتحاق بأي ساحة أخرى تتطلب منهم ذلك»!
ولعل معاودة تأكيد أن «التكرار يعلّم الشطار» ضرورية من أجل تذكير جحافل (هم ليسوا بجحافل في الواقع!) اليساريين والقومجيين العرب، بأن «حزب الله» المقاوم الذي ترتسم حوله هالة مبهرة لا يطاولها الشك، لم يعد كذلك بعدما حوّل سلاحه من قتال إسرائيل إلى قتال اللبنانيين وترهيبهم، وقتل السوريين والتباهي بذلك، وكأنّ دماء الأطفال الذين سالت أنهاراً في مدن سورية لا تستحق التنديد بسيد المقاومة، أو على الأقل سؤاله بأي ذنب سالت تلك الدماء.
وفي إطار التكرار الذي يعلّم الشطار، نذكّر بأن «حزب الله» لم يعد حزباً وطنياً لبنانياً بعد ذلك، فقد كشف عن وجهه المذهبي الذي يخدم أجندة الولي الفقيه في طهران، ومضى حسن نصرالله يقدّم الدليل تلو الآخر على أنه «جندي في حزب ولاية الفقيه» ويفتخر بكونه كذلك، على رغم اعترافه على الفضائية السورية، فيما يشبه البهلوانية السياسية التي تحترف اللعب على الحبال: «إذا أردتم أن أحلف يمين، أحلف يمين أن إيران لم تأمرنا بأمر، ولم تبلغنا بقرار، ولم تطلب منا أي طلب، لا في الشأن المحلي ولا في الشأن الإقليمي، أبداً. نحن قيادة مستقلة، نحن ندرس، نحن نقرر، نحن أحياناً نسترشد بآرائهم وبخبرتهم، ولكن لم يعطونا في يوم من الأيام قراراً: افعل، لا تفعل، اقبل لا تقبل». فإذا لم يكن ذلك كذباً، فماذا يكون؟!
اليساريون العرب، في مجملهم، مفتونون بالطغاة والرموز الذين يتقنون البلاغة السياسية واللغة الخشبية. فتنوا بشافيز ومن قبله كاسترو ومن قبلهما ستالين. وهم الآن مفتونون ببشار الأسد وحسن نصرالله وعلي خامنئي. يعارضون السعودية باعتبارها نظاماً مشدوداً إلى المنظومة الدينية، ويؤيدون «المهدي المنتظر» وكأنّ إيران دولة علمانية، لا تُعدم الناس، ولا تحظر الموسيقى، ولا تكمم أفواه المعارضين، وتفرض على النساء شادوراً يجعلهن أشبه بكائنات شبحية.
ومن الضروري ألا ينسى اليساري العربي المتثائب أنّ حوالى 11 مليون مواطن إيراني يعيشون تحت خط، وفق ما أعلن مسؤول لجنة «خميني» الإغاثية في إيران برويز فتاح، مطلع العام الحالي. ولا أظن أنّ القاموس اليساري العتيق يعتبر هؤلاء من البروليتاريا. لا بأس إن مات هؤلاء، فقد مات الملايين مثلهم في الاتحاد السوفياتي. المهم أن تظل ماكينة الوهم تعمل بوتيرتها العالية!
موسى برهومة
صحيفة الحياة اللندنية