أشر سقوط بلدة البوكمال في سورية والانتصارات الأخيرة التي حققتها قوات الأمن العراقية في القائم وراوة في العراق على انهيار خلافة “داعش”. ومع خسارة هذه البلدات التي تقع على طول الحدود السورية العراقية، لم تعد المجموعة الإرهابية تسيطر على أي مركز سكاني رئيسي في كلا البلدين. ويمثل هذا التطور انعكاساً تاماً لوجهة “داعش” مقارنة بأيامه العنيفة والمتهورة قبل ثلاثة أعوام وحسب، عندما سيطر التنظيم على مساحات شاسعة من الأراضي وفرض الضرائب العشوائية على الأعمال التجارية واستغل الموارد الطبيعية (خاصة النفط)، وحكم نسبة كبيرة من مواطني البلدين. لقد انتهت تلك الأيام -في الوقت الراهن على الأقل- وهو تطور جدير بالاحتفال.
ولكن، هل يشكل هذا التطور تراجعاً نهائياً لتنظيم “داعش” أم أن هناك فصلاً آخر في قصته؟ لسوء الطالع، وكما أظهر هذا التنظيم في الماضي، فإنه عدو مشاكس عنيد متأقلم، والذي من المؤكد أنه لن يسكت على ما لحق به. بل إنه سوف يعمل بعناد في الأشهر المقبلة للمحافظة على ماركته حية من خلال تنفيذ خليط من الأعمال.
أولاً، سوف يحاول العديد من قدامى محاربيه الذين قست قلوبهم المعارك التراجع إلى المناطق القصية من غربي العراق وشرقي سورية، والانتظار بصبر لتقرير ما إذا كانت الحكومتان جادتين في الاحتفاظ بالمناطق المحررة حديثاً وبإعادة بنائها. وبينما ينتظرون، من المرجح أن يهاجم هؤلاء المقاتلون بين فترة وأخرى القوات الحكومية والمراكز الحضرية، مرسلين تذكيراً جاداً للمواطنين المحليين بأن تنظيم “الدولة الإسلامية” ما يزال قابلاً للحياة من الناحية العملياتية.
ثانياً، ما يزال التنظيم يحتفظ ببعض السيطرة على ثمانية فروع وشبكات عالمية، وسوف يبذل كل جهد ممكن لتعميق الروابط الخاصة بالعمليات في عموم مؤسسته العالمية. وفي الوقت الحالي، يبدو “داعش” مهتماً بشكل خاص بإعادة تأسيس تواجد له في وسط وجنوب ليبيا وفي توسيع نشاطاته وفعالياته في جنوب شرق آسيا. ومن المرجح عودة العديد من مقاتلي التنظيم إلى بلدانهم الأصلية، حيث يضمر بعضهم على الأقل الاستمرار في القتال من هناك.
وأخيراً، سوف يحاول “داعش” تعديل سرده العام باستخدام كل منصة متوفرة لنشر رسائله الأساسية: أن القتال سوف يستمر على الرغم من نهاية الخلافة؛ وأنه يجب على المتعاطفين مع التنظيم شن هجمات على نمط “الذئب المنفرد” -من نوعية الهجوم الذي نفذ في نهاية الشهر الماضي في مانهاتن السفلى.
وإذن، هذه هي خطتهم. فماذا يجب علينا أن نفعل في المقابل رداً عليهم؟
للتصدي لمقامرة “داعش”، تمس حاجة صانعي السياسة الأميركيين إلى العمل ضد التحديات قصيرة وطويلة الأمد التي تشكلها المجموعة على حد سواء.
على المدى القريب، هناك سياسات عدة يجب دراستها، بما في ذلك زيادة الدعم لجهود إعادة الإعمار في العراق وأجزاء من شرق سورية، وبشكل خاص من خلال إجراءات تستهدف تمكين المواطنين السنة المحليين والتخفيف من مخاوفهم من القوى السياسية الشيعية؛ وتعلم كل شيء نستطيع تعلمه من المرتكب المشتبه به لهجوم مدينة نيويورك بخصوص كيفية تطرفه ثم تصميم إجراءات مضادة؛ وتعميق تقاسم المعلومات بين مخابراتنا وتفعيل القانون وقوات الشرطة المحلية، بينما يتم توسيع التعاون مع الدول الشريكة عندما تبدأ في التعامل مع العودة الوشيكة للمقاتلين الأجانب الذين يتوافرون على قدر عالٍ من المهارة.
مع ذلك، وباعتباري قد عملت في قضايا مكافحة الإرهاب في مواقع حكومية رفيعة في الأعوام القليلة الماضية، فإنني مقتنع أيضاً بأن هذه الأنماط من الردود قصيرة الأمد غير كافية إذا كنا نأمل في تقويض الفرص طويلة الأمد للتنظيم الإرهابي.
لتحقيق ذلك الهدف يجب على صانعي السياسة الأميركيين والغربيين أن يبدأوا في تغيير الظروف الكامنة التي أفضت إلى تغذية نمو “داعش”. ولحسن الطالع قد تكون هناك فرصة تعرض نفسها في السعودية؛ حيث أطلق ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أجندة إصلاح طموحة تستهدف إعادة تأطير المجتمع السعودي -والأهم من كل شيء ترويج نسخة أكثر اعتدالاً من الإسلام السعودي. وسوف يساعد كثيراً وجود جهد إصلاحي حقيقي في المملكة -وما يزال من المبكر جداً معرفة ما إذا كان حقيقياً أم تجميلياً- مقرون بالتزام جوهري بعدم تصدير ماركة الإسلام السني الوهابي التطهري إلى الخارج، في منع التطرف عالمياً وفي انكماش المساحة التي يمكن أن يعثر فيها “داعش” على المجندين المحتملين. والهدف المعلن من مبادرة الإصلاح السعودية غير مسبوق، وهو مشروع جدير بمتابعة واشنطن له عن كثب وتشجيعه إذا تم إقراره.
على نحو مشابه، ومن أجل تقويض سبب رئيسي لقبول السنة بالنداء التاريخي الذي أطلقه “داعش”، قد يعمد صناع السياسة الأميركيون والغربيون إلى تفحص الطرق المفيدة لتقوية المعتدلين في إيران، حتى مع وجود نقاش حاد حول مستقبل الاتفاق النووي. وبينما تحتاج واشنطن بوضوح إلى التصدي لنشاطات إيران الماكرة في المنطقة، فإن اختيار الرئيس الإيراني الإصلاحي حسن روحاني (أعيد انتخابه بفوز ساحق في أيار/ مايو الماضي) ينطوي على عرض أفضل الأمل في كبح العناصر المتشددة في البلد، وخاصة الحرس الثوري وقوة القدس -الوحدتان المسؤولتان عن عمليات إيران العسكرية العدوانية في عموم الشرق الأوسط. وكما قال لي خبير إقليمي ذات مرة، فإن هناك ثلاث فئات من اللاعبين السياسيين في إيران: المعتدلون، والمحافظون، والأشرار. وتمس حاجتنا إلى أن ندعم الأوائل حتى ونحن نواجه الآخرين. ولا شك في أن السياسات الأميركية التي تضعف بشكل غير مقصود روحاني وتقوي المتشددين في إيران إنما تصب تماماً في صالح فكرة التجنيد التي يستخدمها “داعش” والتي تقول إن الخلافة تمثل سوراً واقياً ضد اتحاد الشيعة، أو الحركة توسعية بقيادة إيران. وهي رسالة جرت صياغتها لكي تروق للسنة المعزولين الذين بلا حول في عموم الشرق الأوسط. وهكذا، وبينما تعتبر مجابهة “داعش” في ميدان المعركة ضرورية، فإن تمكين المعتدلين في عموم الشرق الأوسط يظل أمراً حاسماً.
وأخيراً، للمزيد من إضعاف نفوذ “داعش” على المدى الطويل، يجب على الدبلوماسيين الأميركيين والغربيين توجيه جهودهم الدبلوماسية نحو حل (أو على الأقل تخفيف) النزاعات الجارية في عدد من البلدان المهمة، وخاصة في ليبيا واليمن. وقد استغل “داعش” حالة عدم الاستقرار في هذين البلدين ليوسع مواطئ أقدامه والاستيلاء على أماكن رئيسية وتنفيذ عمليات. ولذلك، سوف يساعد تحقيق تقدم هناك على صعيد خفض العنف وتحسين الظروف الإنسانية وتقوية الحكم المركزي حتماً في انكماش المساحة العملياتية للتنظيم.
يشكل أفول خلافة أبو بكر البغدادي الفسيولوجي نجاحاً واضحاً لجهود الولايات المتحدة العسكرية والدبلوماسية والمخابراتية التي بذلتها الإدارتان السابقتان. وهي تذكرنا بما تستطيع الاستراتيجية المدروسة بعناية والمتماسكة والمتوافرة على مصادر جيدة إنجازه في فترة سنوات قليلة فقط. كما أنها تنطوي على مغزى مؤداه أن الولايات المتحدة استطاعت تحقيق هذا النجاح من خلال التنسيق الوثيق مع الشركاء ومقاومة الحث على مجابهة “داعش” من جانب واحد فقط. أما إذا كان هذا النجاح سيكون قصير الأمد أو نقطة انعطاف وتحول فعلية، فسوف يتأثر الناتج كثيراً بالقرارات التي نتخذها في الأشهر القليلة المقبلة، وبما إذا كنا سنلتزم بالبت في التحديات المباشرة، بالإضافة إلى تغيير الظروف السياسية والأمنية والثقافية والأيديولوجية التي أسهمت في صعود “داعش” في المقام الأول.
مايكل دمبسي
صحيفة الغد