أزمة النموذج المعرفي السياسي العربي

أزمة النموذج المعرفي السياسي العربي

580

دخلنا عقب الثورة في حالة من الجمود الفكري، لتمسكنا بنماذج إدراكية عقلية مبسطة للواقع، تعجز عن فهم التغيير، أو الاستفادة من التجارب، فضلا عن استشراف المستقبل، فتؤدي تلك الحالة إلى فقدان القدرة على التحديث المطلوب لمواجهة التحديات والأزمات.
ويمكننا أن نعزو حالة الجمود إلى النموذج المعرفي الذي أسس المجال السياسي التداولي قبل الثورات العربية وبعدها، وهذا النموذج المعرفي يتعرض في الآونة الأخيرة إلى انتقادات واسعة بسبب تغيرات جذرية تضع سؤال التحديث مطلبا ملحا لا يمكننا إهماله. ولهذا النموذج نظرية عرّفها كون توماس في قوله “عندما تتحدى النموذجَ المعرفي مجموعة أفكار جديدة، فإن تلك الأفكار تؤسس لنموذج في العلم ستقوم عليه أسس ونظريات جديدة”.

“إذا كان القفص الحديدي للدولة  وهيمنة المجال التداولي السياسي على مناحي الحياة يفرضان ممارسات نمطية تعجز عن معالجة إشكالات الواقع، فإن معاناة الدولة في العالم العربي ستستمر لتدخل في أطوار من التحلل الوظيفي”

إذا كان القفص الحديدي للدولة (المتكون من: بيرقراطية، وجيش، وشرطة)، وهيمنة المجال التداولي السياسي على مناحي الحياة، يفرضان ممارسات نمطية تعجز عن معالجة إشكالات الواقع، فإن معاناة الدولة في العالم العربي ستستمر لتدخل في أطوار من التحلل الوظيفي، فهي إما تحللت كما في العراق وسوريا، وإما تتحلل كما في ليبيا واليمن، أو ستتحلل كما في مصر وتونس والجزائر.

ورغم وضوح هذا المسار وعجز النموذج المعرفي عن إيجاد حلول لإشكالات الهوية ومعالجة الظروف الاجتماعية والاقتصادية، فإننا ما زلنا نمضي قدما بالتصورات القديمة نفسها، دون أي تفكير جدي في الاجتهاد، أو الحديث عن آفاق جديدة للتغيير.

لا غرو أن التحرك ضمن النموذج المعرفي يفرض علينا رؤية الدولة (بوصفها جيشا وأمنا وبيرقراطية) وجعلها غاية في حد ذاتها، ويجعل المجال الفكري لا يتطرق إلى أسئلة عن أهداف الدولة أو وظيفتها، بل يدور الفكر في حلقة مفرغة من خيارات ثلاثة: أولها حكم استبدادي بقوة الجيش والأمن، والثاني توافقي بين مكونات سياسية، وثالث يسعى إلى فرض نموذج تاريخي بحد السيف، فأضحت نظرتنا إلى الشريعة والمجتمع محكومة بمحدد واحد ألا وهو أيدولوجية الدولة، وغابت الشريعة في وقت نحن في أمس الحاجة إليها، وما ينبثق عنها من تصورات أو أخلاق بشأن المجتمع والحكم.

إن هاجس الحفاظ على الدولة في شكلها التقليدي (بيرقراطية، جيش، أمن) جعل القيادات تفني نفسها في الدولة، وفي سبيل ذلك تراجعت علاقتهم بالمجتمع، وربما كان هناك انفصال كامل أو شبهه عن المجتمع في أوقات الأزمات والصراعات المسلحة.

يمكننا استنتاج أن النموذج المعرفي يعزز من المركزية، فالمركزية ليست فكرة تقتصر على النظام السياسي، بل هي سمة لفكرة الدولة تقوم عليها جملة من الممارسات تهدف إلى التحكم والسيطرة في جميع مناحي الحياة، الأمر الذي جعل النظر إلى الشريعة محصورا في الإطار القانوني للدولة، وفي الوقت نفسه تُضرب فيه منظومتها الأخلاقية والتشريعية عرض الحائط، فالشريعة في الفكر السياسي الحديث بعيدة جدا عن جوهرها.

كما أن محاولات تطبيق الشريعة وتنزيلها على الواقع بفهم قاصر للتاريخ -كما جرى في العراق وأفغانستان (طالبان والدولة الإسلامية)- جعل ذلك التطبيق يحاكي نموذج الدولة القومية الحديثة القائم على إخضاع المجتمعات وقهرها، دون أي تأمل في الشريعة.. كل ذلك لا يقود إلى الإجابة عن أسئلة الحرية وعلاقة الأخلاق بالسياسة والموقف من العلوم التطبيقية والعلاقات المختلفة سواء الداخلية أو الخارجية.

وإذا ما نظرنا إلى جل الخطابات نجدها مشحونة بالدولة أو السلطة! ويغيب عن الخطاب المجتمع وما يواجه جماعاته وأفراده من مخاطر حقيقية. أما الفعل السياسي فلا تسأل عنه، ذلك أن فساد التصورات الناتجة من ذلك النموذج المعرفي أدت إلى عقم الخطاب وقلة العمل المثمر، ولن تغني حجية القول إن السعي إلى الدولة العلمانية هو عمل للمجتمع، فتلك إما أكذوبة من أجل السلطة وإما طوباوية لا علاقة للواقع بها.

يعمل النموذج المعرفي على تعزيز أفكار السيطرة، والتحكم في كل المجالات العلمية والتعليمية والثقافية، الأمر الذي يجعل من القيادات السياسية أسيرة لثقافة القوي التي تبرر الخضوع للغرب، وتضحي بالمجاهدين أو المقاومين للانقلابات، أو تصادر حرية الناس في الاختيار، وكل ذلك في سبيل الوصول إلى دولة الإخضاع والقهر أو المحافظة عليها إن وجدت.

جُعل التلبس بالدولة وأفكارها في السيطرة والتحكم وعزل الأخلاق عن المجال السياسي داء عضالا يصيب القيادات، حتى وصل الأمر إلى تكوين ثقافة سياسية من المصطلحات الغربية التي تأثرت بها نخب كثيرة، مثل “الإرهاب” الذي شنت من أجله حروب جرّت ويلات جسيمة على الأمة الإسلامية، وقصد الغرب من ورائه استرهاب القيادات السياسية وتطويعها ضمن المشاريع الغربية للهيمنة والاستدمار، خدمة لاستمرار إنهاك المجتمعات وضمان مصالحه الاقتصادية وحماية حلفائه في نطاقنا أو جوارنا.

لقد جاءت الدولة الحديثة العلمانية من سياق تاريخي طويل في أوروبا، أنتج ما يعرف بالدولة القومية الحديثة، ثم انتقلت عبر سياق آخر إلى العالم العربي بثلاثية (البيرقراطية، والجيش، والأمن) لتخدم مصالح الغرب في المنطقة، وتحافظ على طبقة اجتماعية نخر الفساد عظامها وتحكمت الأخيرة بالسلطات الثلاث، والإعلام من وراء ستار.

“الدولة الانتقالية ربما تكون مسارا رابعا يتجاوز النموذج المعرفي القديم ويحدث نقلة نوعية على صعيد أفكار التغيير تسحب البساط من تحت الدولة الحديثة، وتعطي المجتمعات فرصة أكبر من المشاركة الفاعلة لمواصلة التغيير الإيجابي”

ما جرى في مصر وتونس بعد الثورة تجاوز إلى حد كبير سؤال جدوى الإصلاح، لصعوبة تفكيك تلك الطبقة الاجتماعية التي جعلت من بيرقراطية الدولة خادمة لها، أو التخلص من الطفيليات التي تعيش في أكنافها، إلا إذا أعيد النظر في هذا الفكر العقيم الذي يقدس نموذج الدولة الحديثة المهيمنة على جميع مناحي الحياة، وفتح باب يلتمس منه الإجابة عن سؤال التغيير والاجتهاد بعيدا عن محدداتها الفكرية، سواء نحت الأسئلة صوب نقد نظام الحكم أو دور المجتمع. وبكل تأكيد سيكون حظ الأخير أكبر لإحداث نقلة نوعية في تفكيك تلك الأفكار المركزية المقيتة للدولة العلمانية.

تضخيم النموذج المعرفي للدولة ومجالها السياسي أعطى للإعلام دورا كبيرا في ترسيخ القناعات بذلك النموذج، وإذا اعتقدنا بأن السباق اليوم على الإعلام وتسويق الأفكار أو الشخصيات سيقدم أي جديد، أو سيساعد في بناء نموذج جديد يقدم تصورات صحيحة لفهم الواقع أو تغييره، فإن الوهم نتيجة طبيعية لإهمال المعلومات والحقائق التي لا تذكرها الفضائيات، فالإعلام يقوم بالأساس على فكرة نقل الآراء وأخذ الانطباعات عنها، والرأي يبنى على الظن لا العلم، ومعلوم أن القول بغير علم هوى يحذر المولى عز وجل منه أيما تحذير.

إن متابعة الإعلام وملاحقته تُورثنا ثقافة هشة وشخصيات نرجسية وفكرا فارغا من المضامين المعرفية التي تأتي من تمحيص المعلومات وإعمال الآلات المنطقية فيها، واستخدام الفلسفة لأجل الاستفادة من التجارب السابقة، وقراءة الواقع الإقليمي بنماذج إدراكية تخضع للتحديث المستمر بحسب تغير الواقع.

صفوة القول: لقد حان الوقت للتجدد وتحرير العقل بالتخلص من سلطان النموذج المعرفي السياسي التقليدي لأفكار الدولة، والفهم التاريخي الخاص للحكم الإسلامي، فثقافة الهيمنة أو الإخضاع والقهر وأدواتهما في السيطرة والتحكم لن يُحدثا تغييرا إيجابيا يحقق مقاصد الشريعة، ولا يمكن أن يقدما حلا لإشكالات الواقع.

إن الدولة الانتقالية ربما تكون مسارا رابعا يتجاوز النموذج المعرفي القديم ويحدث نقلة نوعية على صعيد أفكار التغيير تسحب البساط من تحت الدولة الحديثة، وتعطي المجتمعات فرصة أكبر من المشاركة الفاعلة لمواصلة التغيير الإيجابي، والتأسيس لمنظور جديد وفق نظريات وأسس الشريعة الإسلامية في إطار علمي تداولي واعٍ.

أنس الفيتوري

المصدر : الجزيرة نت