ينطق باللغة العربية قرابة نصف مليار من سكان العالم المعاصر، وهي الرابعة في ترتيب انتشارها البشري، وحروفها تحتل المرتبة الثانية بعد اللاتينية من حيث الاستخدام الكتابي، كما أنها لغة المقدس المتمثل في الوحي والقرآن الكريم لدى 1.62 مليار مسلم، وتعترف بها 26 دولة كلغة رسمية. ومع ذلك فقد انتظرت هيئة الأمم المتحدة حتى 18 كانون الأول/ ديسمبر من العام 1972 قبل اعتماد العربية كلغة رسمية في مختلف مؤسسات المنظمة، ومن هنا جاء إقرار هذا التاريخ كيوم عالمي يحتفي بلغة الضاد.
لكن العربية ليست في أفضل أحوالها، وهذا ما يتوجب على أبنائها الإقرار به أولاً، قبل الانخراط في أي سيرورة لانتشال هذه اللغة الجميلة، العريقة والنبيلة والحية، من حال الركود الذي تشهده منذ عقود غير قليلة، وإنقاذها مما تتعرض له من انتهاكات فظيعة في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية بصفة خاصة، تنعكس نتائجها المباشرة في اضطراد تدهور الفصحى لدى فئات اليافعة والشباب على نحو محدد.
ولعل الخطوة الأولى هي إعادة الاعتبار إلى قيمة اللغة العربية في الحياة اليومية للمواطن، بحيث تخرج من المعاجم والنصوص المكتوبة إلى ساحات التخاطب العام على اختلاف ميادينه، وكذلك إلى العلوم والمعارف المعاصرة سواء كما حفظتها العربية ذاتها في ذخيرة اصطلاحية غنية خلّفها لنا تراث العرب العلمي والفلسفي، أو كما اكتسبتها من منجزات شعوب أخرى ضمن سياق تفاعل الثقافات والحضارات.
خطوة أخرى ضرورية في السياق إياه هي تنقية اللغة العربية من عوامل انقراض بعض مفرداتها، أو تقعر بعضه الآخر، أو انفصاله عن الاستخدام الفعلي، أو اغترابه عن دلالة التواصل الواقعي، أو افتقاده إلى روح المعاصرة. صحيح أن العديد من لغات العالم تعاني من مشكلات مماثلة، إلا أن لغة الضاد تحديداً تقع تحت ضغوط اللحاق بالحياة أكثر من سواها، لأسباب سياسية واجتماعية وتاريخية لا تقتصر على تجربة الاستعمار وحدها، ولا على تخلّف العرب في اللحاق بركب التحديث الصناعي والتطوير التكنولوجي.
وليس جديداً التذكير بأن اللغة العربية تتعرض منذ عقود إلى جهود تأثيم منهجية ومنتظمة، لا تتصل بواقع استخدامها أو قيمتها الثقافية، بل تنطلق من إدانتها مسبقاً وطبقاً لمفاهيم مضللة من نوع «الإرهاب الإسلامي»، أو أخرى أشد تضليلاً تختلق الربط الخبيث بين العربية والنصّ الجهادي المتطرف، أو تنسب إلى الفصحى صفات تقديس ليست في اللغة ولا يقرها أبناء العربية أنفسهم. وتلك جهود لا ينخرط فيها خصوم العرب والعربية فحسب، بل تعمد إلى استغلالها أنظمة الاستبداد والفساد أيضاً، من خلال تجهيل المواطن وإفقاره لغوياً، أو دفعه إلى اعتناق مفاهيم التضليل ذاتها من باب استثارة رد الفعل وإذكاء الغلوّ.
كل هذه الخطوات، وسواها، لا تلغي ضرورة احترام التعدد اللغوي، الناجم أصلاً عن تعدد إثني حيوي، داخل النطاقات البشرية والجغرافية لانتشار اللغة العربية، كما أنها لا تحجب حق اللهجات العامية في البقاء والاغتناء إلى جانب اللغة الأكبر. فالأمة لغات بقدر ما هي أعراق، والإبقاء على صيغة التعايش ضمن إطار التنوع يحفظ ويبني أكثر مما يبدد ويقوض.
القدس العربي