يوم 28 كانون الثاني (يناير)، وبعد أشهر من تعهد المرشح في حينه، دونالد ترامب، بمحو الدولة الإسلامية “داعش” عن وجه البسيطة، أصدر رجل الأعمال الذي تحول إلى رئيس مذكرة رئاسية يأمر فيها وزير الدفاع، جيمس ماتيس، وبالتشاور مع أعضاء آخرين في مجلس الأمن القومي، أن يقدم للبيت الأبيض خطة حرب شاملة خلال ثلاثين يوماً. وكانت مذكرة الرئيس واضحة وضوح بيت زجاجي: “إنها سياسة الولايات المتحدة أن يتم إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش”. وكان من واجب البنتاغون الرد على الرئيس بخطة من شأنها أن تتضمن استراتيجية تسرّع الحملة العسكرية، وتجلب الولايات المتحدة أقرب إلى تحقيق ذلك الهدف. وبينما غطى على تلك المذكرة بعد يوم أول حظر سفر يعلنه ترامب، فقد كان الأمر التنفيذي الذي صدر يوم 27 كانون الثاني (يناير) بمثابة تواصل مع الشعب الأميركي، مؤداه أن الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة يوفر ما يحتاجه القادة العسكريون لكسب الحرب.
مع ذلك، لخطط الحرب عادة التغيير في ميدان المعركة، عندما تنشأ ظروف طارئة. وعلى الرغم من إعلان وزير الدفاع ماتيس في الربيع الماضي عن أن الائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة سيطوق مقاتلي “داعش” ويضيق الخناق على حرية حركتهم، وأنه سوف يقتل كل واحد منهم قبل أن تتوفر له الفرصة للهرب من سورية أو العراق، فإن واقع الحال أكثر ضبابية. ففي مناسبات عديدة سمح لمقاتلي “داعش” بالخروج مع عائلاتهم من المدن المحاصرة نحو شريط أكثر أماناً على طول الحدود السورية العراقية. وفي حالة أماطت اللثام عنها هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” على الأقل، ووثقتها وكالة “رويترز” مؤخراً، لم تكن واشنطن تعرف عن عمليات الإجلاء هذه فقط، وإنما سمحت بحدوثها أيضاً.
ينفي مسؤولو البنتاغون بشدة صحة أي اقتراح بأن الولايات المتحدة تتفاوض مع “داعش” بأي شكل من الأشكال. وما تزال خطة الحرب –رسمياً- هي نفس ما كانت عليه عندما أدى ترامب اليمين الرئاسية: خنق داعش عسكرياً، وقتل أيديولوجيتها الشريرة سياسياً، وإضعاف قوة دعايتها وتحريضها على العنف على الإنترنت، والحد من تمويلها.
ومع ذلك، كانت هناك أوقات هذا العام، والتي توصل خلالها وسطاء قوة محليون على الأرض، بعضهم تدعمهم الولايات المتحدة، إلى اتفاقيات مع متشددي “داعش” المتعبين الذين يعانون من هبوط روحهم المعنوية، لإخلاء منطقة من المناطق في مقابل ضمانات بأنهم سوف لن يتعرضوا للهجوم طوال الطريق.
في تقرير مثير أرسله كوينتين سومرفيلد وريام دالاتي إلى محطة “بي بي سي” في الشهر الماضي، سُمح لما يصل إلى 4.000 متشدد من “داعش” وعائلاتهم بركوب شاحنات نقلتهم إلى خارج مدينة الرقة إلى منطقة “داعش” في دير الزور. واستطاع المقاتلون أخذ أسلحتهم معهم، وإنما طلب منهم الامتناع عن رفع أعلام “الدولة الإسلامية” على قوافلهم بهدف عدم إثارة الشكوك. وأجرى مراسلا “بي بي سي” مقابلات مع سائقي الشاحنات الذين تولوا قيادة القافلة (التي ذكر أنها ضمت 50 شاحنة، و13 حافلة، وأكثر من 100 من المركبات الخاصة لـ”داعش” والأسلحة والأسلحة مكدسة فيها). كما أجريا مقابلات مع صاحب الحانوت الذي باع الغذاء للمقاتلين خلال رحلتهم، والمهربين الذين هربوا بعضهم إلى الأراضي التركية، ومع الناطق العسكري الأميركي للحملة العسكرية المعادية لـ”داعش”، والذي أقر بأن الطائرات الحربية التابعة للائتلاف كانت تراقب القافلة من الأعلى. وشهد أحد المهربين، رجل يدعى عماد، كيف أنه نقل عدداً من الجهاديين الأجانب إلى داخل تركيا، “بعضهم كان يتحدث الفرنسية وآخرون الإنجليزية وآخرون لغة أجنبية ما”.
وكان طلال سيلو، الناطق السابق بلسان قوات سورية الديمقراطية، القوة البرية الرئيسية التي جمعها الائتلاف المعادي للتنظيم من أجل استعادة الأرض من المجموعة الجهادية في شمالي وشرقي سورية، قد قال لرويترز في الأسبوع الماضي أن مسؤولاً عسكرياً أميركياً كان مشاركاً في صفقة الإجلاء منذ البداية. وقال أيضاً إنه تم منع الصحفيين من دخول المنطقة بذريعة أن قتالاً عنيفاً يجري فيها ضد “داعش” في داخل مدينة الرقة، حين كانت هذه الإجراءات الأمنية في الحقيقة مخططاً لضمان احتواء إمكانية تعرض اتفاقية الانسحاب لكشف وسائل الإعلام لها. وقد وصف مسؤولون عسكريون أميركيون قصة سيلو بأنها “زائفة ومتواطئة”، لكن السرد الذي يقدمه الناطق السابق بلسان قوات سورية الديمقراطية يبقى منسجماً على الأقل مع بعض ما ورد في التقرير السابق لهيئة الإذاعة البريطانية.
سواء أقرت واشنطن انسحاب “داعش” المرتب أم لا، فإن التطورات التي حدثت قرب نهاية هجوم الرقة المعاكس تشكل مثالاً واحداً وحسب على هذه الأنواع من الترتيبات الأمنية التي تجري. وطوال سنوات الحرب الأهلية السورية السبع، وجد المقاتلون -من النظام السوري والمليشيات الكردية إلى قوات الدفاع الشيعية إيرانية التمويل- أن من مصلحتهم السماح لأعدائهم بالمغادرة من خلال استسلام متفاوض عليه بدلاً من تحقيق أهدافهم من خلال القوة العسكرية. وكان نظام بشار الأسد قد استخدم هذا التكتيك للتعويض عن الافتقار إلى المقاتلين على الأرض. وفيما يدعى على وجه الدقة “حصارات التجويع والاستسلام” التي فرضت على مناطق سيطرة المعارضة، تخصص الجيش السوري وداعموه من المليشيات الشيعية في جعل المدنيين يتضورون جوعاً، حرفياً، حتى الموت من أجل كسر إرادة الثوار الذين يقاتلون الحكومة. وتم تطويق المناطق بحيث لا يستطيع الذين يعيشون فيها الهرب، بالإضافة إلى حرمانها الإخلاءات الإنسانية، وقطع إمدادات الغذاء والمياه والمعدات الطبية، ومواصلة عمليات القصف الجوي إلى أن تتصل القوة التي ضرب عليها الحصار بدمشق وتوافق على الاستسلام في مقابل انسحاب آمن إلى جزء آخر من البلد. ويصف النظام السوري هذه الصفقات بأنها اتفاقيات مصالحة، لكن المصطلح لا يفوت على أحد: ففي الواقع، تعني هذه الاتفاقيات عمليات تشريد منظمة للمقاتلين والمدنيين المعادين للحكومة الذين جعلهم الحظ العاثر يعيشون معهم.
في منطقة الحدود السورية اللبنانية هذا الصيف، اتفق الجيش اللبناني وحزب الله والحكومة السورية و”داعش” على ترتيب مماثل. فبعد أشهر من عدم تمكنهم من إخراج الجهاديين من منطقة الجرود الجبلية على طول الحدود اللبنانية السورية، قبل حزب الله وبيروت فكرة اقترحها مقاتلون متبقون من “داعش” بالسماح لهم بركوب حافلات تنقلهم إلى محافظة دير الزور. وفي المقابل، يتسلم اللبنانيون جثث قتلاهم وأي سجين أسره “داعش” خلال القتال. وقد أبرمت الصفقة وخرج المئات من مقاتلي “داعش” في الرحلة. وبينما كانت الولايات المتحدة معارضة بشدة للخطة واعتبرتها غير نزيهة وتنازلاً خطيراً لمجموعة من المفترض أن تكون المنطقة برمتها تعمل لمحوها، اختار المسؤولون العسكريون الأميركيون -تلبية لطلب روسيا- عدم قصف القافلة بينما تشق طريقها عبر الصحراء السورية، (لكن الطيران الأميركي جعل الطريق أكثر صعوبة عبر قصف الطريق الرئيسية).
لا تتمتع وحدات المعارضة السورية التي تسعى للإطاحة ببشار الأسد بالحصانة من هذه الصفقات أيضاً. ففيما يشار إليها على أنها “اتفاقية البلدات الأربع”، وافق الجهاديون السنة وحزب الله ووحدات الجيش السوري على إخلاء المدنيين السنة العالقين في بلدتي مضايا والزبداني اللتين تخضعان لسيطرة الثوار بالتزامن، في مقابل إخلاء المدنيين السنة في بلدتي الفوعة وكفرايا اللتين تسيطر عليهما الحكومة. وهاجمت الأمم المتحدة نقل المواطنين باعتباره تشريدً قسرياً يغلب أنه يتعارض مع القانون الدولي وقوانين الحرب، حتى بينما كان المقاتلون يحسبون أن هذه الطريقة هي الوحيدة التي يمكن من خلالها إبعاد الرجال المسلحين من دون المزيد من إراقة الدماء والمزيد من الضحايا.
من وجهة النظر الأميركية فإن أي انسحاب لـ”داعش” من منطة تقع تحت ضغط عسكري هي شيء غير مناسب مطلقاً –وهو بمثابة منح حياة جديدة لرجال قاموا قبل ثلاثة أعوام باسترقاق الأيزيديات وبقتل أعضاء الأقليات في إعدامات خارج القانون، وقطعوا رؤوس عدة صحفيين أميركيين وعمال إغاثة غربيين. وفي الحقيقة، فإن الترتيبات تعطي من الناحية الفعلية الفرصة لـ”داعش” للهروب والعيش للقتال يوماً آخر (وإذا كان بعضهم يتوافر على موارد كافية، فرصة للانسلال عبر الحدود إلى تركيا). لكن بالنسبة للقوات المحلية على خط المواجهة، فإن هذه الحالات من نقل السكان تعتبر أفضل من شن هجوم على عدو متمترس في مواقعه ومصمم على أن يموت ولا يؤسر.
وكما في الحياة، فإنك حيثما تقف فإنك تجلس. وأما الخيار بين أن تموت ميتة بائسة ومؤلمة وبين الهرب بحياتك لإعادة شحن بطارياتك والتخطيط للمستقبل، فإنه حتى “داعش” لا يكون فوق الانخراط في تفاوض تكتيكي في بعض الأحيان.
دانييل دي بيتريس
صحيفة الغد