بينما يحتفل العراق بهزيمة “داعش”، يواجه المجتمع العربي السُّني فيه أزمة هوية في أعقاب الاحتلال. وبالنسبة للبعض، يعرض التفاهم مع الحكومة الشيعية القيادة قومية عراقية جديدة.
* * *
بينما عمت البهجة الغامرة بهزيمة ما تدعى الدولة الإسلامية “داعش” العراق من أقصاه إلى أقصاه، تضمن الحطام الذي تركه التنظيم الإرهابي وراءه نوعاً من الصدمة الشديدة للعرب السنة العراقيين -حيث ترك هذا المجتمع من الأقلية في مواجهة هذه الأقلية تواجه ما يقول البعض إنه أزمة وجودية. وأحد المقاييس لتقييم هذه الحالة هو الأعداد: يتكون معظم الخمسة ملايين شخص المشردين في العراق من السنة. ومعظم عشرات الآلاف من العراقيين الذين تعرضوا للقتل والاغتصاب والاختطاف على يد “داعش” كانوا من العرب السُّنة. وكل مدينة تُركت أطلالاً تقريباً بسبب القتال لطرد “داعش” -من الفلوجة إلى الموصل- هي ذات أغلبية سنية.
وثمة مقياس آخر: نفسي؛ كان فشل المجتمع السني حاداً جداً -الخضوع لأربعة أعوام تقريباً من حكم “داعش” الوحشي، بل والترحيب به أحياناً في البداية- إلى درجة أن سنة العراق أصبحوا يعانون بطريقة لم يشهدوها منذ قرن.
يقول محلل في بغداد سبق له وأن عمل مع وزارة الدفاع وطلب عدم ذكر اسمه: “عليك أن تعود إلى الفترة العثمانية لترى مدى الضرر الذي لحق بمجتمع السُّنة في السنوات الأربع الماضية”، ويضيف أن التأثير يعادل “هولوكوست سني”، والذي بدأ يلف جزءاً من مجتمع حكم العراق على مدى عقود حتى الإطاحة بصدام حسين في العام 2003.
تتمثل النتيجة في إعادة حسابات يجريها بعض السنة وساستهم -وإنما ليس كلهم- والتي تساعد على خلق نزعة وطنية عراقية جديدة ضعيفة، وإنتاج دروس عن التعايش مع حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي ذات القيادة الشيعية.
ويقول المحلل المذكور: “وهكذا، أصبح الإدراك الشائع بين السنة الآن هو: انتظر لحظة، من هو الذي مات من أجل تحريرنا؟ إنهم لم يكونوا ساستنا (السنة). ولم يكونوا أولادهم. كان فتى ما من الديوانية لم يسبق له أن رأى الموصل وسوف لن يراها أبداً -ولم يكن الأمر وكأنه ذاهب في رحلة- وكان شيعياً”.
وتابع المحلل: “وبهذا ترتب على فكرة القومية العراقية، للأسف، أن تمر من خلال هذه العملية وهذا السفك للدماء هذا حتى تصبح أقوى”.
ومع ذلك، لا يوجد نقص في الساسة العرب السنة الذين يلعبون دور السني الضحية وتصوير مصيبتهم الجماعية على أنها من فعل كل أحد آخر، باستثناء السنة أنفسهم.
ويشير البعض إلى أن “داعش” تتسبب بنسبة 1 في المائة فقط من الضرر الذي لحق بالمجتمع السني، بينما يتحمل الحكم الشيعي في بغداد نسبة 99 %؛ ويتحمل آخرون المسؤولية عن آلاف حوادث الاختطاف، التي وقعت كلها في حق مدنيين “بريئين” من التعاطف مع “داعش”.
تاريخ السُّنة المؤلم
مر العرب السنة في العراق بمسار طويل ومؤلم، بدأ مع الإطاحة برجل القبضة الحديدية صدام حسين. ثم جاء مباشرة بعد ذلك تفكيك الجيش العراقي سني القيادة، أعقبته سنوات من التطهير العرقي في ضواحي بغداد المختلطة التي كان فيها البعثيون والسنة هم الهدف الرئيس؛ ثم جاء المتشددون السنة من تنظيم القاعدة في العراق -مؤسسو “داعش”- الذين قادوا حملة تفجيرات انتحارية ضد الشيعة وتمرداً معادياً للأميركيين. وأخيراً، جاءت انتفاضة سنية واسعة النطاق في العام 2013 ضد أول حكم شيعي لرئيس الوزراء في ذلك الحين، نوري المالكي، مما عنى أن يرحب العديد من السنة بـ”داعش” في البداية، كأداة تمكنهم من الاستيلاء على بغداد.
ثم جاءت المجزرة التي ارتكبها “داعش” -والاعتقاد واسع الانتشار بين العراقيين الشيعة العرب وبين الأكراد السنة الذين ترجح هويتهم العرقية على انتمائهم الطائفي، بأن كل السنة العرب هم جهاديون- لتشكل أحدث الصفعات الموجهة إلى النسيج الاجتماعي السني.
يقول الشيخ فارس الدليمي، الزعيم السني الذي يلعب دوراً في جهود المصالحة الحكومية: “الجميع يقولون إن كل السنة هم دواعش، لكن التدمير الذي أحدثه داعش لم يحدث أبداً على يد أي جيش أو احتلال من قبل”.
ويقول السيد الدليمي: “في أي غزو، عندما يدخل داعش بلداً يعاني من الظلم من الحكومة، فإنه سيجد الكثيرين من الداعمين. ولذلك، فإن أي شخص سيكذب إذا قال إن “داعش” لم يتلق الترحيب في الأماكن التي سيطر عليها، خاصة في البداية”.
ويضيف الدليمي أن المشكلة الرئيسية الآن هي تصفة الحسابات في داخل المجتمع العربي السني، “فالكثيرون (من السنة) فقدوا أبناءهم لتنظيم ’داعش‘.. وهم يسعون إلى الانتقام”.
ظل زعماء القبائل عاكفين على عقد الموتمرات في المدن والقرى، كما يقول، للتفريق بين داعمي داعش “الفعليين” وأولئك الذين ربما كانوا أجبروا على التصرف نيابة عنه، سواء تحت التهديد أو نتيجة للضرورة الاقتصادية. وعلى سبيل المثال، هناك أكثر من 100 رجل نافذ من قبيلة كبيرة وقَّعوا اتفاقاً ينص على عدم معاقبة عائلات معينة بسبب روابط كانت لها مع “داعش”.
“الناس غيروا أفكارهم”
بينما يحاول العرب السنة حل خلافاتهم، فإنهم غالباً ما يواجهون التشكيك والتحفظ من جانب مواطنيهم العراقيين. ومع ذلك، تجسدت القدرة على تغيير العقول في السابق، عندما شنت حركة “الصحوات السنية” في العام 2007 حملة غضب سُنية على عنف تنظيم القاعدة المفرط. وبفضل الدعم العسكري الأميركي والمال، تمكنت “الصحوات” من إخضاع المتطرفين.
ويقول الدليمي: “العديد من الناس ظنوا أن كل السنة كانوا من تنظيم القاعدة، والكثير من الناس غيروا آراءهم”.
ويشير إلى أن الجيش وقوات الأمن فيها لجان لتجنيد السنة، وحتى الضباط السابقين إذا لم تكن أيديهم قد تلخطت بالدماء. وفي أواخر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، اجتمع شيوخ الأنبار مع رئيس الوزراء العبادي للترتيب لإعادة انخراط 3.150 شرطيا سنيا في القوة الوطنية بعدما كانوا قد سُرّحوا عندما جاءت “داعش” في العام 2014.
ويقول السيد الدليمي: “هناك الآن تغيير جدي في الطريقة التي تفكر بها الحكومة المركزية؛ فقد أصبح الجميع يعتقدون بأن العراق لا يمكن أن تحكمه طائفة واحدة… لقد بدأ الناس في الفهم الآن، لكنهم يحتاجون إلى بعض الوقت”.
ومع ذلك، لم يكن الجميع قد وصلوا إلى هذا التغير في التفكير. ومع اقتراب موعد الانتخابات في العام الجديد، ما يزال بعض زعماء القبائل السنية يدفعون بالزاوية الطائفية بقوة، مذكرين السنة بأكثر من عقد من المعاناة والحرمان.
يقول طلال الزوبعي، الأستاذ الجامعي والنائب السني السابق، إن “داعش ارتكب 1 في المائة من حوادث قتل وتدمير (السنة) مقارنة مع ما ارتكبته الحكومة”. ويضيف أن العقاب الجماعي ضد السنة يعود إلى الفشل السني في القيام بثورة ضد صدام حسين في العام 1991 -بينما قام أكراد وشيعة العراق بالثورة ضده في الشمال والجنوب على حد سواء- وتشكيلهم لـ”مقاومة طبيعية” ضد قوات الاحتلال الأميركية والحكومات الشيعية الموالية للأميركيين منذ العام 2003 فصاعداً.
ويقول السيد الزوبعي: “في كل منطقة حررت (من داعش) يتم العثور على قبور جماعية”. ويؤكد أن الميليشيات الشيعية وقوات الأمن العراقية “تقتل هؤلاء الناس ثم تقول إن ’داعش‘ هو الذي قتلهم وأحرق جثثهم ودمر منازلهم. وهذا هو السبب في أن السنة بيشعرون بالمزيد من الخوف”.
أعمال عدائية طائفية
في السابق، تم اتهام بعض المليشيات الشيعية في العراق -قوة قوامها 150.000 جندي أصبحت الآن تحت مظلة قوات الأمن العراقية الرسمية- بارتكاب أعمال عدائية طائفية، وبممارسة الخطف والتعذيب والإعدام خارج القانون بحق مشتبه بانتمائهم إلى “داعش”. وغذت تقارير دقيقة عن هذا النوع من سوء المعاملة شكاوى الزعماء القبليين الذين غالباً ما يحقنون المزيد من الخوف في مجتمعهم من خلال تضخيم النتائج.
في شمالي العراق على سبيل المثال، يقول الزعيم القبلي السني ناجح الميزان من سامراء، إن الآلاف من السنة الذين فقدوا عندما حررت مناطق من ’داعش‘ هم مشكلة واحدة وحسب والتي تشمل “تسوية الحسابات” فيما يتعلق بالحرب العراقية-الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، و”أعمال الانتقام” التي تعود وراء إلى الشقاق السني الشيعي في الإسلام قبل 14 قرناً.
ويقول السيد الميزان: “كلنا يعرف أن أعضاء ’داعش‘ لا يستسلمون، وهم يموتون وهم يقاتلون. وكل المدنيين الذين تم أخذهم أبرياء، سواء عندما ألقي القبض عليهم عند نقاط التفتيش أو في الشوارع”. ويحاجج الميزان بأن إحدى نتائج الشعور بالظلم قد يكون ضربة ارتدادية من جانب العرب السنة، خاصة ضد الشيعة، والتي يمكن أن تكون أسوأ من داعش”. ويضيف: “أعتقد بأن حكومة جديدة سوف تظهر، والتي ستكون أكثر هولاً حتى من ’داعش‘، وأولئك الذين يسعون إلى الثأر سوف لن تكون لديهم مهمة سوى إراقة الدماء. وكل أولئك الأبرياء الذين دمرت منازلهم واختطف أقاربهم وقتلوا يريدون الثأر”.
هناك حد للطائفية
مثل هذه الادعاءات متوقعة من الطائفة السنية التي تعرضت إلى الكثير من التدمير في الحديث، كما يقول محلل بغداد الشيعي الذي كان قد عمل مع وزير دفاع سني من بين خليط من المسؤولين الشيعة والسنة. ويشير إلى أن هناك أيضاً حداً للبعد الذي قد يذهب إليه بعض السنة العرب في اتباع ساستهم نحو مواجهة طائفية.
ومعيداً إلى الأذهان احتجاجات العام 2013 ضد الحكم الشيعي في بغداد، يتساءل مستنكراً: “ما الذي قاد إليه ذلك بالنسبة لي، وقد خسرت –كشخص سُني- بيتي، وعائلتي تعيش في مخيم. وأصغر أطفالي ربما مات بسبب الجفاف أو الإسهال. وإخوتي قتلوا في تفجيرات؟ والآن لم يعد لدي بيت ولا مدينة ولا مياه جارية ولا كهرباء… وفصل الشتاء مقبل، حرفياً”.
الدرس هو أن وجود حكومة تشمل الجميع سيكون أفضل من “داعش”، كما يقول المحلل. ويضيف: “الشيء الوحيد الذي لا تسمعه عندما تتحدث مع العراقيين العاديين هو الطائفية. الناس الوحيدون الذين يتحدثون عنها هم الساسة. وآمل أن يدركوا أنهم في حال جربوها في الانتخابات المقبلة، فإنهم سوف يعانون كثيراً لأن الناس ملوا وسئموا”.
سكوت بيترسون
صحيفة الغد