منذ أن بدأ حملته الانتخابية، لم يتوقف دونالد ترمب عن إشغال الرأي العام الأميركي والعالمي بقراراته الصادمة، متحررا بقدر كبير من قيود وضوابط الدبلوماسية والرصانة السياسية المعتادة لساكن المكتب البيضاوي في البيت الأبيض. وكانت القدس واحدا من الملفات التي صدم الرئيس الأميركي بها العالم، وأثار ضجة سياسية واسعة في العالمين الإسلامي والمسيحي.
ففي 6/12/2017 خطا ترمب الخطوة التي أحجم عنها أسلافه من الرؤساء الأميركيين، وهي اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، بما يخالف القرارات الدولية واتفاقيات السلام الفلسطينية الإسرائيلية، ومتطلبات عملية التسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي.
وبذلك ختم الرئيس الأميركي عام 2017 وعامه الأول في منصبه بتأليب الشارعين العربي والإسلامي، وسخط الغالبية الساحقة من دول العالم، من خلال مسه القضية الأهم في القضية الفلسطينية، لما للقدس من رمزية وقداسة لدى المسلمين والمسيحيين، وهم قرابة نصف سكان العالم.
على صعيد الشارع، تفاعلت الجماهير بشكل واسع في معظم الدول العربية والإسلامية وكذلك الجاليات العربية في أوروبا وأميركا مستنكرة القرار الأميركي، ونادت بالقدس عاصمة أبدية للدولة الفلسطينية.
أما سياسيا، فقد توحدت المواقف الدولية بشكل شبه كامل، رافضة قرار ترمب، ففي مجلس الأمن صوتت 14 دولة ضد قرار ترمب، لكن حال الفيتو الأميركي دون تمرير مشروع القرار العربي الذي تقدمت به مصر في 18/12/2017.
وعندما أحالت السلطة الفلسطينية القضية إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 21/12/2017، أكد المجتمع الدولي وقوفه بقوة ضد قرار الرئيس الأميركي، فصوتت 128 دولة لصالح المشروع الفلسطيني، مما اعتبر صفعة سياسية لترمب وتوجهاته. إلا أن القرار الأممي يبقى غير ذي جدوى عملية، رغم دلالته السياسية، وكونه وثيقة دولية مهمة في مسيرة الصراع العربي الإسرائيلي.
ردود الفعل الشعبية والرسمية كانت رسالة واضحة لإدارة ترمب أنها مست القضية الأعقد والأصعب في عملية التسوية، في تقدير لمحللين سياسيين أن ترمب قصد من اتخاذ هذه الخطوة أن يهون من شأن قضايا الوضع النهائي حسب اتفاق أوسلو مع الجانب الفلسطيني، مثل اللاجئين والحدود.
وكانت قراءة تل أبيب لرسالة ترمب سريعة، فتتالت إجراءاتها بتشريع قوانين عبر الكنيست مثل منع التفاوض على “القدس الموحدة”، وضم المستوطنات للمدينة المقدسة لخلق ما يسمونها “القدس الكبرى”، ومصادقة حزب الليكود على ضم المستوطنات في الضفة الغربية لإسرائيل. وستتوالى القوانين الإسرائيلية المستثمرة للموقف الأميركي لتغيير الواقع بما يخدم رؤيتها للوضع النهائي في الصراع مع الفلسطينيين.
السلطة الفلسطينية استشعرت خطورة القرار الأميركي تجاه القدس باعتباره مؤشرا على سياسة جديدة ينتهجها البيت الأبيض تجاه عملية التسوية برمتها، وهو ما جاء على لسان أكثر من مسؤول فلسطيني، حين وصفوا قرارات ترمب بأنها نهاية عملية التسوية وانتهاء الدور الأميركي كوسيط في عملية السلام.
ولا يزال الرئيس الفلسطيني محمود عباس يرفض مقابلة نائب الرئيس الأميركي مايك بينس، الذي كان أعلن عن جولة في الشرق الأوسط لتحريك عملية السلام، فأجّل المسؤول الأميركي الزيارة ثلاث مرات حتى كتابة هذا التقرير. وهذا مؤشر على مدى الأزمة التي خلقها ترمب في المنطقة جراء قراره بخصوص القدس.
وفي رده على موقف السلطة، أعلن ترمب عن نيته وقف المساعدات المقدمة للسلطة الفلسطينية، ووقف دفع المستحقات لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، لأن الفلسطينيين لا يريدون التفاوض على السلام مع إسرائيل، حسب قوله.
وإذا نفذ ترمب تهديده هذا -وتوحي سياساته خلال عامه الأول أنه سينفذه- فإنه سيقطع خيط العنكبوت الذي تتعلق به عملية التسوية السياسية في المنطقة برمتها، فموازنة السلطة الفلسطينية تأتي من ثلاثة مصادر: المساعدات الأميركية والأوروبية، والمساعدات العربية، وعائدات الضرائب التي تجمعها إسرائيل وتسلمها للسلطة. وفي ظل تمسك السلطة الفلسطينية بموقفها من القرارات الأميركية فإن بقاء السلطة سيبقى رهنا بالمساعدات العربية، التي يتوقع أن تقطع لمزيد من الضغط على القيادة الفلسطينية للقبول بصفقة القرن.
ويمكن تلخيص حصاد العام الأول من حكم الرئيس الأميركي تجاه القضية الفلسطينية بأنه أخرج القدس من دائرة التفاوض، وهي القضية الأهم بين قضايا الوضع النهائي، بما يعني أن باقي قضايا التفاوض قد طويت عمليا. ولم يعد على طاولة التسوية ما يمكن التفاوض عليه، وهو ما يضع السلطة الفلسطينية أمام سؤال وجودي، في ظل الفوضى التي تعم المنطقة، ينسف مسيرة 24 عاما من عملية السلام التي كانت متعثرة أو مشلولة.
المصدر : الجزيرة