لم تلتقط الثورة التونسية بعد أنفاسها منذ اندلاعها في يناير/كانون الثاني 2011، وهروب زين العابدين بن علي في مثل هذا اليوم من تلك السنة؛ فما زالت تونس بلد يضج بالمطالب الاجتماعية والاقتصادية، والاحتجاجات المطلبية المستمرة، التي تتخذ طابعا عنيفا أحيانا، وتطرح أسئلة كثيرة بشأن العلاقة بين الثورة والدولة والتوازنات السياسية، ومستقبل البلاد.
فبعد سبع سنوات من الثورة على الدكتاتورية والفساد والفقر والتهميش والتفاوت المناطقي؛ تجد تونس نفسها مجددا في خضم احتجاجات اجتماعية يرفع فيها المتظاهرون شعارات “العمل، والحرية، والكرامة”، وسط شعور كثير من التونسيين باليأس من تحسن أوضاعهم.
وتعيد مشاهد الاحتجاجات أحداثا مماثلة شهدها يناير/كانون الثاني حتى قبل الثورة، باعتباره شهر الاحتجاجات المطلبية في تونس منذ الأزمة بين اتحاد الشغل والحكومة عام 1978، وثورة الخبز عام 1984، مرورا بأحداث الحوض المنجمي عام 2008، والإطاحة بنظام زين العابدين بن علي عام 2011، وأحداث السنوات التالية من الثورة.
اعتراف بالأزمة
ويتداخل السياسي بالاقتصادي والاجتماعي في التحركات الاحتجاجية التي جاءت ردا على قانون المالية الجديدة، ورفع أسعار بعض المواد الأساسية، وإقرار ضرائب جديدة، وحالة الغلاء التي تعيشها البلاد أصلا، لكنها أيضا لا تخلو من المناكفات السياسية، حيث تبادلت الحكومة وحركة النهضة والجبهة الشعبية اليسارية الاتهامات بالوقوف وراء تغذية أعمال الشغب.
وترى الجبهة الشعبية (15 نائبا في البرلمان) أن الخلاف مع حكومة يوسف الشاهد أعمق من قانون المالية، بل هو اختلاف حول الخيارات الاجتماعية والاقتصادية، وأكد الناطق باسمها حمة الهمامي أن “مهاجمة رئيس الحكومة يوسف الشاهد للجبهة هدفها التملص من المسؤولية، وتعكس حالة التخبط التي تعيشها الحكومة والائتلاف الحاكم” (في إشارة إلى تحالف النهضة ونداء تونس).
من جهته، يجدد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي الحاجة إلى لفتة تنموية حقيقية وإجراءات تكون مصاحبة لقانون المالية”، ورفض اتحاد الشغل ما تمثله الزيادات الأخيرة من عبء على شرائح واسعة من المجتمع.
وتؤكد أطراف أخرى، وبينهم وزير العلاقة مع الهيئات الدستورية المهدي بن غربية- أن الاحتجاجات سببها أن “جزءا كبيرا من التونسيين ما زالوا يعيشون على الهامش، وأن مشكلتهم ليست مع هذه الحكومة، أو قانون المالية، بل تعود لعقود من التهميش واللامبالاة”.
ويقر رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي بأن هناك “صعوبات حقيقية يتعرض لها الشعب التونسي من فقر وضنك عيش”، لكنه اعتبر أن ما حصل “من قطع طرقات وحرق وترهيب هو نوع من الفساد”، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن تعاقب ثماني حكومات على الحكم منذ يناير/كانون الثاني 2011 دليل على أن التونسيين ما زالوا يتعلمون الديمقراطية ويتدربون عليها، محذرا من الفوضى التي تقود غالبا إلى الديكتاتورية”.
واعترف الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي من جانبه بأن “المناخ الاجتماعي والسياسي ليس جيدا في تونس”، مؤكدا في الوقت نفسه أن “الوضع يبقى إيجابيا، وأنه باستطاعة الحكومة السيطرة على المشاكل”.
من جانبه، اعتبر الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي أن البلاد في حاجة إلى الاستقرار السياسي والاستثمار الاقتصادي والازدهار، وهذا غير متوفر بالسياسة الحالية، على حد قوله. مشيرا إلى أن “التوافق القائم بين النهضة والنداء يترك التونسيين دون أفق، وهذا الأفق هو 2019” (الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة).
منوال التنمية
وإذا كانت الاحتجاجات تعبر عن تعثر على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي للحكومات المتعاقبة، فإنها تعبر أيضا عن احتقان سياسي مزمن لم تنجح “وثيقة قرطاج” في احتوائه، ويتهم النائب عن الجبهة الشعبية عمار عمروسية الحكومة بأنها “تحايلت على الشعب بإقرار الضرائب الجديدة”، في حين اتهمته الأطراف السياسية الحاكمة بأنه يمارس الشعبوية، في إشارة إلى دعم الجبهة للاحتجاجات.
ويرى محللون أن الثورة التي نجحت سياسيا في تركيز نظام سياسي يقوم على حرية التعبير والتعددية والانتخابات الحرة والتداول على السلطة، لم يستطع القائمون على الحكم فيها منذ 14 يناير/كانون الثاني 2011 إرساء مقاربة تنموية تحقق تطلعات المناطق المحرومة وفئة الشباب، وكانت بعض الاحتجاجات تحمل على أنها مجرد توظيف سياسي من أحزاب أو حركات معارضة.
وتنتقد بعض الأطراف النخب السياسية التي جاءت بعد 14 يناير/كانون الثاني أو “التي غيرت جلدها” لتلائم المرحلة؛ بأنها ركزت على المغانم السياسية وتوطيد ركائز وجودها في الحكم أو حوله، دون الالتفات إلى العوامل الحقيقية للثورة التونسية، وهي المطالب الاجتماعية والاقتصادية، ولم تقدم تصورات أو برامج، ولم تختلف مقارباتها التنموية عما كان سائدا في عهد بن علي.
ويرى خبراء اقتصاديون أن الحكومات المتعاقبة -ربما بحكم الوضع الأمني وضرب الشرايين الرئيسية للاقتصاد- ركزت على زيادة الضرائب والأداءات والأسعار وسياسة الاقتراض وتصدير الأزمات.
ويؤكد الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان للجزيرة نت أن المستهلك التونسي خسر منذ عام 2011 نحو 25% من قدرته الشرائية بسبب الزيادات المستمرة في الأسعار، في حين أشار وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري سمير بالطيب إلى أن العجز في الميزان التجاري الغذائي في تونس زاد بنسبة 25.9% على أساس سنوي في 2017.
وفي محاولتها لامتصاص الأزمة، أعلنت الحكومة السبت سلسلة من الإجراءات التي سيستفيد منها أكثر من 120 ألف شخص، وستكلّف ما يزيد على سبعين مليون دينار (23.5 مليون يورو)، وتهدف إلى تأمين “تغطية صحية للجميع”، وزيادة منحة العائلات المعوزة التي سترتفع من 150 دينارا (50 يوروا) إلى 180 دينارا أو 210 دنانير (ستين وسبعين يوروا)، بحسب أفراد عدد الأسرة.
ويرى محللون أن هذه الإجراءات -على أهميتها- تعد تصديرا للمشكلة، وربما تمثل وقودا لأحداث قادمة، إذ إنها لا تختلف عن الإجراءات التي اتخذت خلال أحداث القصرين 2015-2016، وأحداث الكامور في تطاوين وغيرها، وهي إن نفذت ستشكل استنزافا لموارد الدولة الضعيفة أصلا، ما لم يتم التوصل لحلول ترفد موارد الدولة.
ويتخوف متابعون من سيناريوهات أخطر على بلد ثورة الياسمين، لغياب مثل هذه الحلول في المستقبل القريب، ووقوع الاقتصاد التونسي في ضغوط شديدة، ودخوله في دائرة المديونية وتواصل التجاذبات والاشتباكات السياسية، لكن التجربة الديمقراطية التي راكمتها الثورة -بحسبهم- ستحول دون أي انفلاتات تهدد الثورة في عمقها.
المصدر : وكالات,الجزيرة