رفع أحد أقطاب أوسلو سبابته مؤخرا معلنا بنوع من الحزم، أن القيادة الفلسطينية إذا ما تأكدت أن حل الدولتين إنتهى مرة وإلى الأبد، فستعلن بأن الهدف المقبل سيتغير ليكون الدولة الواحدة.
وقال حرفيا «نحن نؤمن بتسوية الدولتين ولكن ما العمل فنتنياهو لا يريد السلام، وبأسوأ الأحوال سنترك للاحتلال أعباء إدارة شؤون الحياة اليومية. إذا كانوا يريدون دولة واحدة فلن يكون هناك خيار أمامنا سوى النضال من أجل مساواة بالحقوق ضمن الدولة الواحدة».
وقد يعتقد القراء أن هذا التصريح غير مقصود في ذاته، بل هو نوع من الخطابة ليخيف إسرائيل من بعبع الدولة الواحدة فتقبل المرّ خير من قبول الأمرّ. ودعني أنبه بعالي الصوت أن خيار الدولة الواحدة، كما يطرحه الأوسلويون خطير جدا، لأن إسرائيل ستأخذ منه ما يلائمها لتعزيز سيطرتها على الأرض، ويصبح الوجود الفلسطيني كما زائدا عن احتياجات الدولة اليهودية، تستطيع أن ترمي به إلى منافٍ جديدة رغم أنف الحالمين والمغفلين والمستسلمين والانتهازيين. والمتحدث هذا من جماعة فريق المفاوضات العتيد، الذي اكتشف بعد 24 سنة أن «نتنياهو لا يريد السلام». وقد ارتكب في هذا التصريح ثلاثة أخطاء كبرى عدا عن الصغرى.
إولا- يعتقد الأوسلويون الذين وضعوا الشعب الفلسطيني في هذا المأزق الوجودي أن الشعب الفلسطيني سيبقيهم قيادة دائمة ليقودوا مرحلة النضال الجديدة، كما يتوهم، لتحقيق حل الدولة الواحدة؛ كي يبدعوا كما أبدعوا في قيادة مرحلة حل الدولتين؛
ثانيا- يعتقد فريق المفاوضات أن هذه ورقة إستراتيجية سترتعد فرائص الإسرائيليين من مجرد رفعها، وسيهرعون إلى قبول حل الدولتين صاغرين، لأن البديل أسوأ بكثير.
ثالثا- يعتقد فريق المفاوضات واهمين، كبارهم وصغارهم، أن إسرائيل سترفض هذا الخيار، وهو ما سيحرجها أمام العالم كدولة فصل عنصري «أبرثايد» بسبب ازدواجية القوانين. وفي نهاية مطاف هذا الخيار سيكون المستقبل للفلسطينيين عن طريق الصناديق، ويحققون ما عجزوا عن تحقيقيه بالسلاح، كما فعل أبناء جنوب إفريقيا من السود ضد نظام الأقلية البيضاء.
بعد مسيرة 24 سنة من «سلام الشجعان» تحت يافطة حل الدولتين، لنراجع الأوضاع كما هي الآن: ضاعت الأرض وبني عليها أكثر من 240 مستوطنة، ونقل إليها نحو 800 ألف مستوطن، بما فيها القدس التي تمت السيطرة عليها تماما، وتم تهويد أجزاء وبؤر منها داخل المنطقة الشرقية، كما تم الاستيلاء على مصادر المياه وبني الجدار العازل، وقتل الآلاف من الشعب الفلسطيني وسجن عشرات الألوف، وشنت أربع حروب على غزة الخاضعة لحصار منذ أكثر من عشر سنين. هذا هو دور سلطة أوسلو كما رسمه الإسرائيليون، وقد أدوا هذا الدور بامتياز وتحت مظلة كاذبة تسمى «عملية السلام» تحت رعاية أمريكية، التي لم تلد إلا المصائب مقابل حفنة من المستفيدين الذي يحملون الرتب العسكرية الكبيرة ومسميات الوظائف الرفيعة وبطاقات الـ»في أي بي» لتخطي الحواجز بأنواعها الثابتة والطيارة.
الحقيقة إن الذي انهار ليس حل الدولتين، لأن هناك دولة قائمة معترفا بها، والعمل كان جاريا على إيجاد دولة فلسطينية مستقلة مترابطة قادرة على الحياة وعاصمتها القدس الشرقية، تعيش جنبا إلى جنب مع إسرائيل. هذا الجانب هو الذي انهار. وما دامت إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة، جنبا إلى جنب إسرائيل أصبح شبه مستحيل، إذن فلننظر في البدائل. وفي هذا المجال دعني أناقش موضوع الدولة الواحدة.
كان أول من طرح فكرة الدولة الواحدة، برنامج حركة فتح في بدايات الثورة الفلسطينية. فوصف البرنامج هدف النضال الفلسطيني في إقامة دولة واحدة ديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني، يتساوى فيها جميع المواطنين بغض النظر عن أعراقهم وأديانهم وألوانهم. دولة واحدة يتساوى الناس فيها أمام القانون. دولة خالية من الصهيونية البغيضة والتفوق العرقي ونظام الأبرثايد والتقسيم الديني والطائفي. دولة لا تتحقق إلا بهزيمة المشروع الصهيوني القائم على الاحتلال والإخلاء والطرد والاستيطان والتفريغ والتطهير العرقي والتوسع الاستيطاني وارتكاب المجازر. هذا الكيان الذي زرعته الدول الاستعمارية لتأدية وظيفة محددة في ضرب حركات التحرر في العالم العربي، والإبقاء على التبعية للمعسكر الغربي والاستيلاء على ثروات البلاد وتحويل العالم العربي إلى سوق استهلاك، خاصة للسلاح بدل بناء دول متحررة تقدمية تعمل على بناء الإنسان الواعي المثقف، من خلال إقامة دول عصرية مبنية على المؤسسات وتداول السلطة والتنمية الرشيدة والاقتصاد الإنتاجي.
فالدولة المنشودة التي تكلمت عنها حركة فتح «البدايات» أصبحت برنامجا لكافة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وقاسما مشتركا لغاية عام 1974 عندما اعتمد المجلس الوطني الفلسطيني، في دورته الثانية عشرة، برنامج النقاط العشر، وبدأ الحديث عن حل مرحلي وسلطة وطنية ثم دولة مستقلة، أي التخلي عن برنامج التحرير واستبداله ببرنامج التسوية.
ما يطرحه بعض المسؤولين عن جهل وبعض الرموز الوطنية عن حسن نية أحيانا أو سوء تقدير هو حل الدولة الواحدة. وهي ليست الدولة الديمقراطية التي تحدثنا عنها من قبل. المقصود الإقرار بوجود دولة واحدة من البحر المتوسط إلى نهر الأردن في فلسطين التاريخية، هي إسرائيل، وهذه الدولة تضم نحو 12 مليون إنسان من عرب ويهود، لكن فيها نظامين: واحد مجحف وتمييزي وعنصري وتهميشي خاص بالعرب، وآخر مفصل لمحاباة اليهود ووضعهم في موضع سياسي واجتماعي واقتصادي أعلى. والمطلوب، حسب طارحي الدولة الواحدة، النضال من أجل الحقوق المتساوية في كافة المجالات، بما في ذلك حق الانتخاب والترشح، على طريقة جنوب إفريقيا، كي نصل بهذه الدولة يوما ليس ببعيد إلى المساواة التامة بين جميع المواطنين. ويوم يذهبون إلى الصناديق «لكل شخص صوت واحد» سيقلبون موازين القوى لصالح الغالبية العربية، وبالتالي تنتهي إسرائيل العنصرية وتحل محلها بطريقة حضارية دولة غير عنصرية، يتساوى فيها كل المواطنين، لا يهم اسمها إسرائيل أو فلسطين أو «إسراطين»، على رأي القذافي. وهذا طرح ساذج في أحسن حالاته لأنه يفترض أن إسرائيل من البلاهة حتى تسمح للوصول إلى تلك المرحلة.
وأود أن أنبه هنا لمجموعة مطبات قانونية في حالة ما أعلن أن السلطة تخلت عن برنامج حل الدولتين لصالح حل الدولة:
أولا- ستعلن إسرائيل أن ليس هناك أراض محتلة، بما أن هناك اعترافا بوجود دولة واحدة من البحر إلى النهر، تخضع لسيادة واحدة غير مجزأة، وبالتالي تصبح كل قرارات الشرعية الدولية حول الاحتلال وحق العودة لاغية ولا قيمة قانوينة لها.
ثانيا- ستعلن إسرائيل أن الاستيطان هو ممارسة للسيادة، وأن بناء المستوطنات في أي مكان من أراضي الدولة أمر شرعي، لأن كافة الأراضي خاضعة لدولة واحدة ذات سيادة.
ثالثا- سيفقد الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير، إذ أنه تخلى عن مطالبته بحقوقه كشعب إلى مطالبة أفراد بحقوقهم في المساواة.
رابعا- ستعلن إسرائيل يهودية الدولة وسيعاد تعريف المواطنة بما يخدم هذه الصفة.
خامسا- بما أن حقوق المواطنة المتساوية تنطبق على حملة الجنسية الإسرائيلية، فبالتأكيد لن تمنح إسرائيل جنسيتها لأربعة ملايين ونصف مليون فلسطيني، كي تقصيهم من قانون المواطنة المتساوية، وستبقيهم افرادا وليسوا مواطنين تستطيع طردهم لأي سبب.
هذا غيض من فيض المطبات القانونية والنتائج الكارثية التي قد يجرها إعلان متسرع غير مدروس للتوجه نحو حل الدولة الواحدة.
والسؤال الآن: إذا كان حل الدولتين قد انتهى عمليا، وحل الدولة الواحدة فيه من المطبات والمخاطر الشيء الكثير إذن ما العمل؟
لقد كتبنا عن ذلك الكثير وأريد هنا فقط أن أدعو أن تكون البداية بحل السلطة الفلسطينية، وإعادة الأمور إلى ما قبل 1993، باعتبار أن فلسطين دولة تحت الاحتلال. دع الاحتلال يكون باهظ الثمن. دعه يتكفل بتبعات الاحتلال من أمن وخدمات وإدارة ومواصلات وتعليم وغير ذلك الكثير. دع الشعب العربي الفلسطيني العنيد يناضل بكافة الوسائل المتاحة والشرعية، للتخلص من الاحتلال، وممارسة حقه في تقرير المصير أسوة بشعوب الأرض. فإسرائيل عندما عجزت عن مواجهة الانتفاضة الأولى لحست كرامتها وسمحت لقوات الأمن الفلسطيني بأن تدخل البلاد لتقوم بالمهمة، تحت ذريعة بناء الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وانظروا معي إلى أين انتهى الحال الذي عبّر عن رئيس السلطة محمود عباس عندما سأل مرارا «طيب وين نروح – لمين نشكي».
د.عبدالحميد صيام
صحيفةالقدس العربي