لندن – تشي التحركات الدولية المتعددة والنشطة بشأن الأزمة السورية إلى أن الموقف الدولي قد تحول برمته باتجاه إنتاج حلّ حقيقي لإنهاء الأزمة، وأن عواصم القرار تفرج عن جهود عملية لولوج ملفات النزاع بين النظام والمعارضة، بما يعكس عزما على إنهاء حال المراوحة التي طبعت الشأن السوري في السنوات الأخيرة.
تطرقت الاجتماعات الأميركية الأوروبية الإقليمية التي جرت في باريس وورش إعداد مؤتمر سوتشي التي تجري في موسكو إلى تفاصيل النصوص وخرائط الطريق الواجب اعتمادها للعبور إلى السلم والإعمار في سوريا، وهو أمر تم تجاهله سابقا في مواقف روسيا الداعمة للنظام كما في مواقف مجموعة أصدقاء الشعب السوري الداعمة للمعارضة، والتي اقتصرت على تثبيت مواقف سياسية دون المغامرة في التطرق إلى سبل الحل ومقارباته.
وتكشف الوثيقة التي تم نشرها حول اجتماع باريس عن الواجهة الجديدة لواشنطن وحلفائها في مسألة الحل السوري من خلال التطرق إلى تفاصيل تتعلق بالدستور على أن تشمل الإصلاحات صلاحيات رؤساء الجمهورية والوزراء والبرلمان ومسألة إجراء الانتخابات وآليات المراقبة. خرجت تلك الوثيقة بعد اجتماع ضم وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون مع وزراء خارجية فرنسا وبريطانيا والسعودية والأردن.
وينقل عن مصادر دبلوماسية أوروبية قريبة من اجتماع باريس أن الوثيقة تربط بين الانتقال السياسي والإعمار، وأن المجتمع الدولي يسعى لفرض الحل على الفرقاء السوريين، وأن الورقة التي اتفق عليها في باريس ستتقابل مع الورقة التي أعدتها روسيا لسوتشي من أجل التأسيس لقاسم مشترك يفرض على سوريا الحل ويدفع بفرقاء الحرب إلى التأقلم حوله.
مداولات مكثفة بين موسكو ودمشق بغية دفع النظام إلى تقديم ما يمكن أن يسهل الحل، خصوصا أن روسيا تملك من النفوذ على النظام السوري ما يمكنها من الضغط على دمشق لملاقاة المشاريع الدولية من خلال الأوراق الروسية
بالمقابل، ومن أجل إعطاء بُعد أممي لاجتماع سوتشي المزمع عقده في 29-30 من الشهر الجاري، كشفت وثائق روسية مسربة أن موسكو أدخلت البنود الـ12 التي أعدها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا باعتبارها مبادئ الحل السياسي. لكن، يفصح هذا الجانب من تلك الوثائق عن تناقض في موقف موسكو لجهة الحديث عن الدستور والانتخابات والانتقال السياسي مقابل موقف دمشق الذي لطالما عبر عنه رئيس وفد النظام السوري إلى جنيف بشار الجعفري برفض نقاش هذه المبادئ قبل الانتهاء من الحرب على الإرهاب وقبل أن تتراجع المعارضة عن بيانها في الرياض لجهة المطالبة برحيل الرئيس السوري بشار الأسد.
وتبدو المداولات بين موسكو ودمشق مكثفة بغية دفع النظام إلى تقديم ما يمكن أن يسهل الحل، خصوصا أن روسيا تملك من النفوذ على النظام السوري ما يمكنها من الضغط على دمشق لملاقاة المشاريع الدولية من خلال الأوراق الروسية. وقد تكون موسكو مضطرة إلى إدماج مبادئ دي ميستورا لإرضاء الأمم المتحدة واستدراجها للمشاركة في سوتشي.
غير أن رسالة وجهها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس إلى موسكو اعتبرت شروطا لحضور سوتشي منها أن يلتزم المؤتمر الروسي أن يكون لمرة واحدة ويكون جزءا من مسار جنيف مع التزام دمشق بقرار 2254 لجهة الإصلاحات الدستورية والانتخابات والحكم الانتقالي.
وتكشف الوثائق الروسية صراحة عن تبنيها بمبادئ دي ميستورا بصفتها “السبيل الوحيد” لتحقيق التسوية المتعلقة بالسيادة والاستقلال ووحدة البلاد.
وتتحدث الوثائق عن حق السوريين وحدهم في تحديد مستقبلهم من خلال الاقتراع لتحديد المستقبل القانوني والسياسي والاقتصادي لبلدهم “دون أي تدخل خارجي.
وشددت الوثائق على لا طائفية الدولة السورية المقبلة وعلى مبدأ المساواة بين المواطنين مهما اختلف عرقهم وجنسهم ودينهم. وأشار إلى مسألة إرساء مبدأ فصل السلطات واستقلال القضاء.
وأتاحت الجولة التي قام بها وفد الهيئة العليا للمفاوضات بقيادة نصر الحريري إلى نيويورك وبعض العواصم الأوروبية للمعارضة أن تطلع على مزاج دولي جديد يروم القيام بجهود جذرية لإغلاق الملف السوري.
انتقال الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا وإيران والعالم العربي إلى تكثيف الحديث بلهجة النصوص يعني أن الجهد الدبلوماسي سيتقدم بغض النظر عن ضجيج الميادين
وتكشف ورقة الوزراء الخمسة في باريس عن مسار يتضمن إصلاحا دستوريا للنص المعتمد في دمشق منذ 2012 يخفف من صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح رئيس الوزراء ورئيس البرلمان، بحيث يتحقق توازن في صلاحيات الرئاسات الثلاث مع التأكيد على صلاحيات ما هو مركزي في تلك الخاصة بالإدارات المحلية.
ورغم عدم دخول كافة الوثائق في تفاصيل التقسيم الإداري لسوريا، إلا أن كافة الأوراق تؤكد على مسلمتين. الأولى وحدة سوريا بما يضع حدا لكل السيناريوهات والتكهنات التي تتحدث عن خطط لتقسيم البلاد. والثانية مسألة اللامركزية التي لم تحدد بعد طبيعة شكلها ما بين فيدرالية أو حكم ذاتي لبعض المناطق ولا سيما الكردية أو أي صيغ أخرى بديلة.
وتكشف المصادر عن أن كافة العواصم الإقليمية والدولية المعنية بالشأن السوري في حالة تواصل دائم معلن وغير معلن للاهتداء إلى نقطة التوازن المطلوبة ميدانيا ودستوريا، وأن موسم النصوص الدستورية التي تتسرّب من هنا وهناك هدفها جسّ نبض المنخرطين في الصراع السوري وإبلاغهم بضرورة إعادة التموضع في التعامل مع الأزمة السورية وفق نصوص تتطرق إلى تفاصيل الحياة السياسية في سوريا المستقبل.
ورغم أن تشاؤما يسود المتابعين للشأن السوري من إمكانية تمكن النصوص من إجبار النفوس على العبور نحو السلم، ورغم أن المعارك في إدلب والغوطة وعفرين لا توحي بأن الوقت قد حان لتفعيل الغرف السياسية على حساب تلك العسكرية، إلا أن انتقال المعنيين بالشأن السوري سواء على مستوى الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا وإيران والعالم العربي إلى تكثيف الحديث بلهجة النصوص يعني أن الجهد الدبلوماسي سيتقدم بغض النظر عن ضجيج الميادين.
وما بين نصوص موسكو وباريس المسربة رصد المختصون تباينا في الصيغ والتعابير وبعض المضامين. فروسيا تتحدث عن الاسم الحالي المعتمد لسوريا، أي الجمهورية العربية السورية، فيما تحدث دي ميستورا في أوراقه عن “سوريا”، كما رصدوا صيغا مختلفة لمسألة اللامركزية بين “سلطات الحكم المحلي” وفق موسكو و”الإدارات المحلية” وفق المبعوث الأممي.
ورصد المختصون حديث أوراق موسكو عن “الجيش الوطني” مهملة صيغة أخرى استخدمتها المعارضة وهي “الجيش المهني”، إضافة إلى أن موسكو لم تتحدث عن مطلب تفكيك الأجهزة الأمنية الذي تطالب به.
ويرى خبراء في شؤون حل النزاعات أن الصراع العسكري في سوريا وصل إلى نقطة لن تؤثر على شروط التسوية مهما اختلت موازين القوى.
ويلفت هؤلاء إلى أن الخرائط في سوريا تكشف عن سيطرة واسعة لقوات النظام وحلفائه على الأراضي السورية، إلا أن هذه السيطرة لن تثمر شيئا على طاولة المفاوضات، فأي حل يحتاج إلى مشاركة كاملة للمعارضة بمطالبها ورؤاها مهما كان ميزانها العسكري.
وتؤكد هذه المصادر أن دفع روسيا باتجاه الحل السياسي وخفض المواجهات العسكرية سواء من خلال أستانة أو من خلال سوتشي نابع من قناعة موسكو بأن الجهد العسكري وصل إلى حده الأقصى الذي لا يمكن أن يحقق في سوريا أكثر مما تحقق حتى الآن، وهو أمر لا يبدو أن إيران والنظام السوري مقتنعان به ومازالا يعوّلان على حسم عسكري كامل يؤدي إلى حسم سياسي كامل لصالح دمشق.
العرب اللندنية