خلال تسعينات القرن الماضي، اعتاد الإسرائيليون، خلال الحرب في جنوب لبنان، على سياسة إيرانية ثابتة تقوم على تحقيق انتصارات إعلامية كافية لتحقيق توازن ميداني على الأرض. هذه السياسة مكنت حزب الله اللبناني، خلال حرب تموز 2006، من تحقيق “انتصار” معنوي مازال يعتمد عليه إلى الآن في تهديد إسرائيل.
وحققت إيران انتصارا إعلاميا مشابها في 9 فبراير الجاري عندما حظي إسقاط طائرة إسرائيلية من طراز إف 16 بتغطية إعلامية أوسع كثيرا من المعركة القصيرة التي دارت بين الجانبين، وشهدت إسقاط طائرة إيرانية من دون طيار، وتدمير قواعد عسكرية سورية ومراكز للتحكم والسيطرة وقاعدة إيرانية تحت الإنشاء قرب تدمر، في وسط سوريا.
وتحاول إسرائيل أن تحافظ على ميزة استراتيجية أتاحت لها، منذ عام 2012، التحرك بحرية في سماء سوريا، وانتقاء الأهداف وضربها، دون أن يثير ذلك أي رد من قبل إيران أو الجيش السوري أو القوات الروسية المتمركزة في سوريا. لكن يبدو أن “الرخصة” التي استمتعت بها إسرائيل طوال السنوات الماضية باتت على المحك.
ويقول خبراء عسكريون إسرائيليون إن إيران “كانت تريد من وراء هذه العملية رسم خطوط حمراء جديدة في سماء سوريا، وعلى إسرائيل القيام بهجوم قريبا لإثبات أن الواقع عكس النظريات الإيرانية”.
لكن لم تُرسم خطوط في السماء فقط بعد هذا الحادث، بل أُعيد رسم فلسفة الصراع برمته. وبعد هذا الحادث تغيرت العقيدة الإسرائيلية، التي تقوم على سياسة “الخط الأحمر” في سوريا ولبنان.
وتعني هذه السياسة عدم السماح لإيران بإقامة قواعد عسكرية وحشد قوات كافية لتغيير موازين القوى على الحدود مع سوريا. ونفس الأمر ينطبق على لبنان، إذ ليس مسموحا، وفقا للإسرائيليين، بناء مصنع صواريخ متطورة تسمح لحزب الله بامتلاك تكنولوجيا متطورة في جنوب لبنان.
سياسة واشنطن، التي تركز على هزيمة تنظيم داعش في شمال ووسط سوريا، حولت إسرائيل إلى قوة مرتبكة
ضرب إيران
لكن تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الأحد، عكست تغيرا سريعا في الاستراتيجية الإسرائيلية لإدارة الصراع مع إيران وأذرعها في المنطقة.
وقال نتنياهو في كلمة أمام مؤتمر ميونيخ للأمن، بينما كان يمسك بقطعة مما يقول إنها الطائرة الإيرانية بدون طيار التي أسقطت بعد دخولها المجال الجوي الإسرائيلي هذا الشهر “إسرائيل لن تسمح للنظام بلف حبل الإرهاب حول عنقنا”.
وأضاف “سنتحرك إذا لزم الأمر ضد إيران نفسها وليس ضد وكلائها فحسب”، محذرا “لا تختبروا إسرائيل”. وسرعان ما رد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف على نتنياهو. وقال ظريف إن إسقاط طائرة إسرائيلية مقاتلة “حطم ما يعرف باستعصاء إسرائيل على القهر”.
وأضاف ظريف أمام المؤتمر نفسه أن “إسرائيل تتخذ العدوان سياسة ضد جيرانها”، متهما إسرائيل بارتكاب “أعمال انتقام جماعية والتوغل اليومي في سوريا ولبنان”.
وتعلم إسرائيل وقوى غربية أخرى أن إيران لا ترغب في الدخول في حرب مفتوحة مع إسرائيل في سوريا. ويرجع ذلك إلى “جرس إنذار” انطلق أواخر ديسمبر الماضي، في شكل احتجاجات حاشدة طالبت النظام الإيراني بوقف التدخل في العراق وسوريا ولبنان وغزة واليمن، في مقابل تحسين الوضع الاقتصادي لملايين الإيرانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر.
لكن هذه الاحتجاجات كانت مقدمة كي يعيد الغرب النظر في العقيدة الاستخباراتية التي تحكمت في فلسفته تجاه إيران.
ويقول سيمون تيزدال، الخبير في شؤون الشرق الأوسط في صحيفة “الأوبزيرفر”، إن “الاحتجاجات التي حدثت مؤخرا أثبتت أن النظام الذي يقوده رجال الدين المتشددون في إيران يمكن زعزعته من الداخل”. وأضاف “إذا أقدم النظام الإيراني على خوض حرب إقليمية في سوريا الآن فسيكون ذلك بمثابة انتحار سياسي”. ولا يبدو حزب الله مستعدا أيضا لخوض حرب مباشرة مع إسرائيل. وتقول تقارير إن الحزب خسر قرابة ألفين من مقاتليه منذ بدء الحرب في سوريا، كما أصيب أكثر من 7 آلاف آخرين.
ويمر الحزب بأزمة مالية غير مسبوقة، إذ خصص ملايين الدولارات للإنفاق على عائلات القتلى بين صفوفه، كما لا يزال يخصص أموالا ولن تتوقف العواقب لدخول إيران حربا في سوريا عند ذلك فقط، لكنها قد تشكل خطأ استراتيجيا تنتظره إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفارغ الصبر كي تنفذ تهديداتها بالانسحاب من الاتفاق النووي، الذي وقعته إيران مع القوى الكبرى في يوليو 2017، ويعيد الأمر الواقع الإقليمي إلى المربع الأول.
ويدرك المحافظون والإصلاحيون أن هذه الخطوة ستمكن الولايات المتحدة من إعادة فرض عقوبات اقتصادية قاسية على إيران، وقد تقود في نهاية المطاف إلى ضربات عسكرية أميركية ضد الأراضي الإيرانية.
لكن دبلوماسيين غربيين قالوا إن نتنياهو كان يشير إلى “ضرب إيران في سوريا، وليس ضربها في إيران”. وقالت مصادر لـ“العرب” إن “إسرائيل تعتقد أن حزب الله بات على وشك امتلاك صواريخ تتمتع بدقة عالية للغاية في ضرب الهدف، كما يمكنها الوصول إلى كل المدن والمراكز الحضرية الإسرائيلية في زمن أقل من الصواريخ التي يمتلكها الآن”.
وأضافت المصادر أن “الحديث عن نقل إسرائيل المعركة إلى إيران، بدلا من الانتظار داخل حدودها، بدأ الأسبوع الماضي”. لكن ذلك سيتطلب دعما أميركيا مفتوحا، لا يبدو أن نتنياهو يتمتع به اليوم.
احتقان إسرائيلي – أميركي
يشعر نتنياهو أن صلاحية الدعم غير المشروط الذي يحصل عليه من قبل الولايات المتحدة بدأت تنتهي.
وأرسلت الولايات المتحدة رسائل واضحة إلى نتنياهو، الإثنين الماضي، حول ضم المستوطنات في الضفة الغربية إلى السيادة الإسرائيلية، عندما قال متحدث باسم البيت الأبيض “لم تجر أي مشاورات مع الإسرائيليين في هذا الشأن”.
وتقول تقارير إسرائيلية إن نتنياهو تجاوز خطين حرصت الإدارات الأميركية المتعاقبة على التمسك بهما في علاقاتها بإسرائيل، وهما “من غير المسموح الحديث في العلن عن صفقات تمت مناقشتها سرا، وممنوع نهائيا اختلاق اتفاقات لم يتم التشاور حولها أصلا”.
وتعلم إيران، ومعها حزب الله، أن عرض القوة الذي تمارسه إسرائيل، في سوريا خصوصا، مستمد من كيمياء شخصية تجمع بين نتنياهو وترامب. ولم تكن التصرفات الإسرائيلية، سواء في سوريا أو لبنان أو الأراضي الفلسطينية المحتلة، لتمر في عهد إدارة الرئيس السابق باراك أوباما.ويقول محللون إسرائيليون إن “الاحتقان بين الجانبين يضعف موقف إسرائيل في المنطقة ويقلل من أهمية التهديدات التي يطلقها نتنياهو”، وأضافوا “القوى الإقليمية اعتادت على خطاب نتنياهو الحاد لدرجة أن بعضهم باتوا يدركون أنه يحتاج أحيانا إلى إثارة بعض الضجيج ليس أكثر”.
ولا يتناقض ذلك مع مساعي إسرائيل لجر الولايات المتحدة وروسيا إلى تغيير قواعد اللعبة في سوريا.
وقال دبلوماسي في المنطقة لـ“العرب” إن “إسرائيل تفهم أن روسيا تريد استخدامها كرأس حربة في خطتها لتقليص النفوذ الإيراني في سوريا، حتى لو تطلب الأمر السماح بحرب استنزاف طويلة الأمد بين الجانبين. الروس ليسوا على عجلة من أمرهم”.
وأضاف “سياسة الولايات المتحدة، التي تركز على هزيمة تنظيم داعش في شمال ووسط سوريا، حولت إسرائيل إلى قوة مرتبكة، وأشعرتها أنها تركت وحيدة لأول مرة أمام تهديد جدي”.
أحمد أبو دوح
صحيفة العرب اللندنية