لماذا لن تكون الغوطة حلب أخرى؟

لماذا لن تكون الغوطة حلب أخرى؟

كان الجميع يذكر طقس ذلك اليوم، السبت السابع من سبتمبر/ أيلول عام ١٩٤٠، أحد أهنأ الأيام في لندن، بنسمات عليلة وسماء صافية، إلى أن أقلعت ما يقرب من ألف مقاتلة تابعة لسلاح الجو الألماني من شمال فرنسا للعاصمة الإنجليزية، لتبدأ عصرًا ما عُرف وفق أحداث الحرب العالمية الثانية بـ “The Blitz” أو “البرق” باللغة الألمانية. بدأت الطائرات الألمانية بموجة تلو الأخرى في استهداف العاصمة البريطانية بشكل مكثف في ما عرف بـ “السبت الأسود”[1]. استمرت العملية العسكرية ثمانية أشهر، من بينها ٧٦ ليلة قصف متتالية، دمر خلالها سلاح الجو التابع لنظام الرايخ الألماني أكثر من مليون منزل وغالبية الساحل اللندني، وأدى لمقتل ٤٠ إلى ٤٣ ألف مدني. يبدو ذلك السبت قبل ٧٧ عاما حدثا تاريخيا مغرقا في القدم، بُنيت بعده لندن من جديد على يد سكانها من كانوا يؤمنون حينها بأن «لندن تستطيع احتمال ذلك»، وهو احتمال يبدو مشابهًا لأحداث حالية يومية.

في هذه الأيام، وبمقاطع تسجيلية ملونة تصلنا بالمئات يوميا؛ تتعرض منطقة الغوطة الشرقية، في ريف العاصمة السورية دمشق، لهجوم جوي مكثف سيدخل عامه الثامن قريبا، ويشابه البليتز الألماني ذي الثمانية شهور على لندن بكثافته وعشوائيته، بدء من النصف الثاني من عام ٢٠١١، وازداد بعد حصار مدن الغوطة وبلداتها في ربيع عام ٢٠١٣، وبلغ حدا استثنائيا جديدا منذ نهاية عام ٢٠١٧ وحتى اليوم، مؤديًا لمقتل قرابة ١٣ ألف مدني[2]؛ وطارحا سؤالًا بديهيًا حول أهمية الغوطة الشرقية الاستثنائية.

الخاصرة والحزام

لموقعها الإستراتيجي؛ باتت الغوطة في موقع يمكّنها من الإحاطة بالعاصمة دمشق واستهداف نقاطها العسكرية وفروعها الأمنية، ومن أهمها “إدارة المركبات”[3]  التي باتت تحت حصار المعارضة السورية المسلحة، إضافة لتهديد مطار دمشق الدولي، كما تهدد الغوطة دائما بدخول معقل النظام في دمشق من خلال عمل عسكري عن طريق جوبر، لتوصلها مباشرة لساحة العباسيين في قلب دمشق، أو حتى من تحت أنفاق[4] استخدمت بشكل كبير لإدخال المواد والغذاء وللقيام بعمليات عسكرية كبيرة داخل العاصمة. إضافة لإمكانية عزل دمشق بقطع نقطة تقاطع طرق الأوتوستراد الرئيسة التي تمر بالغوطة من دمشق للشمال، مثل أوتوستراد دمشق-حمص الدولي، وأوتوستراد دمشق-حلب الدولي.

من جانب آخر تمثل بساتين الغوطة وأراضيها الزراعية الشاسعة، رغم استهدافها بعمليات هدم وتغيير كان من أبرزها ما جرى في حرستا[5]، “سلة غذاء دمشق” التي تمدّها بما تحتاجه من الطعام، لتتحول لأحد أهم عوامل صمود سكان ومقاتلي الغوطة رغم الحصار الخانق الذي أدى لارتفاع الأسعار الجنوني، ليصل سعر الخبز داخل الغوطة لـ ١٥٠٠ ليرة سورية مقابل ٩٤ ليرة في دمشق التي تبعد عنها بضعة كيلو مترات (أي بفارق يصل إلى ١٦٠٠ بالمئة)[6]، والتي، رغما عن ذلك، تعد معقولة إذا ما قورنت ببعض المناطق المحاصرة الأخرى مثل مخيم اليرموك المحاصر (٢٠٠٠ ليرة)[7]، أو حلب المحاصرة (٤٠٠٠ ليرة)[8].

فلاحو سوريا

“اللهم إن تحت كل شجرة من أشجار الغوطة جثة شهيد مات دفاعا عن هذه الأرض الطاهرة التي سقيت بالدم، ثم إنها لم تخلص لأهلها، ولم تنج من الغاصب الدخيل”

(علي الطنطاوي)

هكذا يصف الطنطاوي الدمشقي الغوطة التي سقاها دم أهلها، منذ “السفربرلك” عندما «انتهى رجال دمشق» كما وصفهم، ثم في حرب استقلالها التي انتهت بمعركة ميسلون عام ١٩٢٠ وأدت للانتداب الفرنسي بعد ذلك بأربع سنوات[9]، مشعلة حرب استقلال جديدة عُرفت بـ”الثورة السورية الكبرى”، أخذت منها الغوطة نصيب الأسد، إذ كبّد ثوارها الفرنسيين أولى هزائمهم هناك تحت قيادة حسن الخراط، وجعل الغوطة عرضة للحصار والقصف الكثيف الفرنسي، شبيهين بما يجري بعد ٩٣ عاما، ولكن هذه المرة على يد «الطغاة الذين يجلبون الغزاة»، بحسب تعبير ابن خلدون؛ على يد النظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين.

كانت الغوطة تاريخيا حاضنة ثورية بامتياز، بداية لكونها قائمة على الأصول العصبية البدائية “الطبيعية” التي تجمع سكان الغوطة الريفية، ثم بسبب كون الريف هو القاعدة الرئيسية لمقاتلي حروب العصابات، كما يقول جيفارا[10]، بما مكّن قياداتها الاجتماعية والدينية ذات الشعبية من الوقوف المسلّح أمام نظام اضطهدها وأقرانها، سواء بالتهميش الطائفي لصالح الطائفة المهيمنة للنظام، أو المدني لصالح الريف، أو بالاقتصادي المتمثل بالسيطرة على الأراضي مصدر دخل الريف الدمشقي ومصدر قوته ونفوذه كذلك، وهو ما أخل به نظام البعث بشكل مباشر إما بتأميم الأراضي أو خصخصتها، أو بالمد العمراني الذي أدى لتجريف وتخريب قسم كبير من الغوطة الشرقية، بما منح سكان الغوطة “مظلمة” إضافية جعلتهم مستعدين للخروج ضد النظام السوري.

حين سنحت الفرصة، أفرزت الحاضنة الريفية قياداتها ومقاتليها الذين اجتمعوا مع بقية المقاتلين في عصابات متماسكة داخليا بحكم العلاقات البدائية العصبية، الذين «يسبحون وسط شعبهم كما يسبح السمك في الماء»، بالتوصيف الكلاسيكي لمنظر حروب العصابات ماو تسي تونج؛ فكانت الكتائب في سوريا وكتائب الغوطة تحديدا بداية، خير تمثيل لمغاوير جيفارا، عددا وعدّة، بأسلحة قليلة كانوا يصنعونها من أنابيب الصرف الصحي، ثم تطوروا شيئا فشيئا وصولا لتركيبات عسكرية متماسكة داخليًا ومجتمعيًا، لكنها تختلف على خطوط أيديولوجية وارتباطات خارجية وسياسية، وصلت لحد الاقتتال الدامي[11] في عدة مناسبات كانت سببا بخسارة مساحات كبيرة لصالح النظام السوري، وأبرزها: جيش الإسلام، وفيلق الرحمن، ثم أحرار الشام، وهيئة تحرير الشام.

ليست حلب

لهذه الأسباب، وبتجذر مقاتلي المعارضة في حاضنة شعبية وأرض ممتدة تسمح لهم بالاختباء كما توفر لهم شيئا من الغذاء، لا يمكن الجزم بأن مصير الغوطة مشابه لمصير حلب، من كانت عكس ذلك تماما، شاهدة حروب مدن لمقاتلين قدموا بالأغلب من خارجها لبيئة لم تكن حاضنة لهم، بما يستبعد إمكانية السيطرة والانتصار من خلال القصف الجوي وحده، رغم إمكانية حدوث هشاشة ورخاوة على بعض الجبهات البرية الأضعف من غيرها، ودخول جيش النظام السوري وحلفاءه في المعركة.

على الجانب الآخر ولنفس الأسباب، يبدو النظام مستميتا باستعادة السيطرة على الغوطة، لتأمين عاصمته ونقاطه العسكرية بالسيطرة على حزامها، ولإنهاء أحد أهم وأصلب معاقل وجيوب المعارضة السورية المسلحة على الإطلاق، وأكثرها استقلالية بسبب بعدها عن الحدود الشمالية، كما هو حال إدلب مرتبكة المصير في ظل اشتباكات الفصائل ووجود هيئة تحرير الشام، أو منطقة درع الفرات ذات النفوذ التركي، أو الجنوبية ذات النفوذ الأردني على الجبهة هناك.

تبدو استراتيجية النظام العسكرية في الغوطة شبيهة باستراتيجية النظام النازي على لندن: قصف جوي كثيف وطويل الأمد، عشوائي على المنازل ومحدد على النقاط الحيوية، مثل المستشفيات والمخابز، بغية كسر الروح والإرادة المدنية هناك، تمهيدا للدخول البري الذي بدأه بشكل متواضع من بضع جبهات، وباستخدام مليشيات محلية أو ما تبقى من جيش النظام السوري هناك، قبل استدعاء المليشيات الشيعية الأجنبية، الأعلى كفاءة، المدعومة والمدربة من الحرس الثوري الإيراني أو حزب الله، بما قد يعني أنه يحتفظ بها لمعركة أكبر لم يحن وقتها بعد، بعد أن يتم الاستنزاف المدني ثم العسكري على جبهات المعارضة، أو بسبب الاختلافات داخل المعسكر السياسي الداعم للنظام.

من جانب آخر، يرى الباحث مجدي نعمة، الناطق السابق باسم جيش الإسلام، أن كل هذا الاستنزاف والحشد العسكري هو «نبح للكلاب» كما أطلق عليه[12]، أي ضغط عسكري لتحقيق أهداف سياسية، وهو ما تبدو شواهده بالحديث عن مفاوضات مع أطراف مختلفة، مثل الوساطة المصرية لإجراء محادثات بين جيش الإسلام وروسيا، أو سعي النظام لفتح خطوط مع فيلق الرحمن للتخلي عن هيئة تحرير الشام، في تمييز واضح بين الجبهات المختلفة وعلاقاتها ومعسكراتها السياسية الخارجية.

في الحرب العالمية الثانية، وبعد البليتز الألمانية؛ استطاعت لندن ومن وراءها بريطانيا الوقوف على أقدامها مجددا بسبب صمود المدنيين بالدرجة الأولى، فإما أن تصمد الغوطة أمام حملة لا تقل وحشية، أو أن الخلافات الداخلية والتضاربات العسكرية والسياسية ستنهي كل شيء، في وقت يبدو فيه مطالبة المدنيين بالصمود الذي يقف أمام قصف يكفي لهدم دولة كاملة، رفاهية غير رحيمة بأي حال.

عبيدة عامر

الجزيرة