إذا كان الخوف الكبير من العنف الجاري عنصراً يمنع المدنيين من الاقتراب من الممر المخصص للخروج، فإن هناك عقبات أكبر تتمثل في انعدام الثقة -في نظام الأسد وداعميه الروس.
* * *
بازل، سويسرا، وإسطنبول- جاء الأمل إلى منطقة الغوطة الشرقية السورية المحاصرة في الخامس من آذار (مارس)، حين دخلت أول قافلة مكونة من 46 شاحنة تحمل إمدادات غذائية وإنسانية للمرة الأولى في أسابيع إلى الجيب الذي يسيطر عليه الثوار.
ولكن، قبل أن تتمكن قافلة الأمم المتحدة من العبور، أمر المسؤولون السوريون بإنزال 70 في المائة من الإمدادات الطبية، كما ذكرت وكالة “رويترز” للأنباء: منها أدوية معالجة الصدمة ومعدات جراحية وطبية أخرى، والتي يمكن أن تساعد نحو 400.000 من السكان المحاصرين على تدبر الأمور مع أسبوعين من القصف المتواصل الذي نفذته طائرات النظام وروسيا.
في داخل الغوطة الشرقية -الضاحية الدمشقية حيث يبدو أن وقف إطلاق النار الذي أقرته الأمم المتحدة لمدة أسبوع غير موجود- تواصلت الغارات الجوية وقصف المدفعية، حتى خلال تسليم المساعدات، مما حال دون تفريغ بعض الشاحنات. ومع الإبلاغ عن مقتل أكثر من 50 شخصاً في يوم الاثنين وحده، ارتفعت حصيلة القتلى خلال الخمسة عشر يوماً الماضية لتصل إلى 700. وذكر تلفزيون الدولة أن هجوماً برياً شنته قوات النظام تمكن من استعادة 40 في المائة من الجيب في الأيام الأخيرة، في ما يبدو أنه محاولة لانتزاع آخر معاقل الثوار قرب العاصمة السورية.
وفي تصريحات بثها تلفزيون الدولة يوم الأحد الماضي، قال الرئيس السوري بشار الأسد إن القتال ضد الإسلاميين في الغوطة الشرقية لن يتوقف، وإن “الغالبية” من سكانها “يريدون الخروج من تحت كنف الإرهابيين”. وأضاف أن التقارير عن الأوضاع الإنسانية الصعبة هي “كذبة سخيفة جداً”.
على الرغم من الحجم الموجع للجوع والحرمان، يقول سكان الغوطة الشرقية إنهم لا يرون منطقاً في المغادرة، ويفضلون المخاطرة بالتعرض للمزيد من هجوم النظام على الخروج إلى المجهول، وربما مواجهة انتقام النظام. وهو خيار يقول الكثير عن حرب الدولة السورية الوحشية بعد سبع سنوات من بدئها، وعن سمعة النظام العنيف المتهم بشكل متكرر بارتكاب جرائم حرب والمعروف بممارسة الانتقام.
إذا كان الخوف العام من العنف الجاري يشكل عنصراً يمنع المدنيين من الاقتراب من الممر المخصص للخروج، فإن انعدام الثقة يشكل حاجزاً أكبر أمام المغادرة. ويقول عامر زيدان، عامل الإغاثة السوري الملتحي الذي يقوم كل يوم بتسليم الطعام والمياه للملاجئ في الأقبية: “إن الممر الوحيد المتاح للخروج من الغوطة هو ممر الموت”.
وقال زيدان لهذه الصحيفة في سلسلة من الرسائل الصوتية: “حتى لو كان النظام جاداً، فإننا لا نستطيع أن نثق به. إنك لا تستطيع أن تثق بالقتلة الذين يقتلون الرجال والنساء والأطفال والشيوخ على أساس يومي. في اللحظة نفسها التي يقولون فيها إن هناك ممراً إنسانياً مفتوحاً، تقوم الطائرات بإسقاط القنابل”.
خضعت الغوطة الشرقية لسيطرة الثوار المناهضين للنظام منذ العام 2012، وحاصرتها قوات الحكومة منذ العام 2013، وكانت موضعاً للهجوم المعروف في ذلك العام بالأسلحة الكيميائية، بغازات السارين والكلورين، الذي قتل المئات وكاد يدفع الرئيس الأميركي في ذلك الوقت، باراك أوباما، إلى توجيه ضربات عسكرية ضد النظام.
أوصلت قافلة يوم الاثنين نحو 5.500 من حزم الطعام لحوالي 27.000 شخص، فيما كان “خطوة أولى إيجابية”، كما قال المدير الإقليمي للجنة الدولية للصليب الأحمر، روبرت مارديني، في تصريح له. وأضاف: “لكن قافلة واحدة، مهما كانت كبيرة، لن تكون كافية أبداً بالنظر إلى الأوضاع الإنسانية القاسية ونقص المواد الذي يواجهه الناس”.
وفي تغريدة له على “تويتر”، كتب سجاد مالك، الممثل القُطري للمفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة في سورية: “لقد أوصلنا أكبر قدر نستطيعه من المواد وسط القصف”. وجاءت تغريدته وسط تقارير أفادت بأن القافِلة أُمِرت بعد وقت من حلول الظلام بالعودة قبل أن تتمكن من تفريغ كامل حمولتها من المساعدات.
ويوم الاثنين أيضاً، هدمت غارتان جويتان المبنى الذي كانت تحتمي في طابق التسوية فيه نعمة محسن، الطالبة السابقة في جامعة دمشق. وقالت نعمة بعد ذلك إن الحادث “كارثة كاملة”، وإن أفراد عائلتها عانوا من “إصابات طفيفة”، قبل أن يفقد هاتفها الإشارة مرة أخرى. وكانت قد قالت لهذه الصحيفة في الأسبوع الماضي أن المناطق المدنية تُستهدف “بكثافة كبيرة جعلت حتى الخطوط الأمامية تبدو آمنة بالمقارنة”.
وقالت وكالة الأنباء العربية السورية التابعة للدولة يوم الاثنين، إن 15 مدنياً أصيبوا بجراح بسبب قذائف الهاون القادمة من الغوطة الشرقية. وقالت إن القصف ضرب مستشفى تشرين ومستشفى الشرطة في ريف دمشق.
بالنسبة لزيدان، ثمة عدد لا يحصى من الأمثلة المستمرة على معاناة السكان الشديدة. ويحكي عن أم تتضرع إلى الأطباء والممرضين لكي لا يطيلوا حياة ابنها المصاب بجروح خطيرة، وتقول لهم: “دعوا ابني يموت بسلام. لا أريده أن يتعذب أكثر من هذا”، لأنها تعرف أنهم يفتقرون إلى الوسائل لإنقاذ حياته.
ويتحدث زيدان أيضاً عن اثنتين من النساء الحوامل تحتميان في الطابق السفلي من مبناه، واللتين عانتا من الإجهاض بسبب الضغط العصبي والحبس. كما أن الغذاء نادر جداً حتى أنه يتم تخصيص أقل من نصف كيلوغرام من الأرز لعشرة أشخاص في اليوم، كما يقول زيدان. ويجب أن يظل العديدون بلا طعام لستة وثلاثين ساعة في المرة الواحدة.
مع ذلك، غامر قلة من سكان الغوطة الشرقية بالمغادرة -إذا فعل أحد ذلك من الأساس. ويقول زيدان: “لم يتم تطبيق وقف إطلاق النار. بل على العكس من ذلك، كان هناك تصعيد. تخيل أن الروس، الذين قتلت طائراتهم الأطفال على مدى السنوات الثلاث الماضية، هم الضامنون للعائلات التي تغادر الغوطة الشرقية. كيف يمكن لهذا أن يعمل؟”.
يحتمي سكان الغوطة الشرقية بالمدارس والمساجد والأقبية والملاجئ المؤقتة تحت الأرض، والتي كثيراً ما انهارت عليهم خلال القصف. بل إن البعض حفروا لأنفسهم خنادق فردية تشبه القبور في محاولة لتجاوز أسوأ جولات القصف.
ثغرة في وقف هدنة الأمم المتحدة
من جهته، دعا بانوس مومتزيس، منسق الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية للأزمة السورية، الفصائل المتحاربة إلى احترام وقف إطلاق النار الذي أقرته الأمم المتحدة. وقال في تصريح يوم الأحد الماضي: “بدلاً من التوقف القصير الذي نحتاجه بشدة، لا يمكننا الاستمرار في رؤية المزيد من الاقتتال، والمزيد من الموت، والمزيد من التقارير المقلقة عن الجوع وتعرض المستشفيات للقصف. إن هذا العقاب الجماعي للمدنيين غير مقبول ببساطة”.
مع ذلك، فإن قرار وقف إطلاق النار الذي مرره بالإجماع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يوم 24 شباط (فبراير) والذي يدعو إلى وقف الأعمال العدائية لمدة 30 يوما لضمان “وقف إنساني دائم” عبر كامل البلد، لا ينطبق بوضوح على الهجمات التي تُشن ضد تنظيم القاعدة والجهاديين الآخرين.
وكان البيت الأبيض قد وجه اللوم عن مذبحة الغوطة الشرقية إلى سورية وداعمها العسكري الرئيسي، روسيا. وفي أقوى بيان له حتى الآن عن الغوطة الشرقية، اتهم البيت الأبيض سورية وروسيا بتجاهل هدنة الأمم المتحدة والهدنة التي أعلنتها روسيا نفسها “وقتل المدنيين الأبرياء تحت ذرائع كاذبة بمكافحة الإرهاب”.
وكانت الغوطة واحدة من أربع مناطق تهدئة تم إنشاؤها في أيار (مايو) 2017 في صفقة توسطت فيها روسيا وتركيا وإيران لخفض الأعمال العدائية. لكن دمشق وموسكو تعتقدان أن الاتفاق يستثني الفصائل المتطرفة الموجودة في الغوطة الشرقية.
وتعتبر الفصائل المهيمنة في الغوطة الشرقية، “جيش الإسلام” و”فيلق الرحمن” إسلامية في منظورها، وهي متهمة بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، لكنها شاركت أيضاً في محادثات السلام السابقة. كما أن هناك تواجداً لتحالف جهادي يقوده التابع السابق لتنظيم القاعدة في سورية أيضاً، وإنما بأعداد أصغر، ويقال أن المجموعات الأخرى عرضت طردهم من المنطقة خلال المفاوضات.
لكن أياً من ذلك لا يُحدِث أي فرق بالنسبة للمدنيين في الغوطة الشرقية، الذين كانوا هدفاً للمنشورات التي تسقطها عليهم طائرات النظام، والتي تهدف إلى الضغط عليهم لمغادرة الجيب المحاصر.
ويشرح أحد المنشورات الخطط لـ”خروج آمن”، مع رسم بياني توضيحي يُظهر منطقتين للتجمع الآمن، واحدة في حي عربين والأخرى في بلدة دوما. وفي شمال شرق دوما تقع نقطة عبور الوافدين، التي كانت منذ وقت طويل بوابة لعبور بضائع محدودة إلى المنطقة المحاصرة في مقابل رشاوى هائلة، والتي أصبحت الآن مخصصة كممر آمن.
“وثيقة استسلام” لا يوثق بها
ويقدم منشور آخر إرشادات خطوة بخطوة عن كيفية الاقتراب من المعبر، ويقول للسكان إن عليهم أن يحملوا وثيقة هوية وأن يتقدموا ببطء، رافعين المنشور بيد وجاعلين اليد الأخرى مرئية فوق رؤوسهم أو تحمل طفلاً، كل ذلك بينما يتّبعون تعليمات قوات الأمن المتمركزة في المعبر.
ويقول نص المنشور: “إننا نضمن عودتكم إلى منازلكم بعد القضاء على الإرهاب”. ويتردد هذا الوعد أجوفَ بالنسبة لسكان دوما من أمثال سميرة، التي ترى أن هذا المنشور هو مجرد سلاح آخر في الترسانة الهائلة التي يتم استخدامها ضد معقل المعارضة في الغوطة.
سميرة، وهي أم، تقول إنها أمضت الكثير من وقت الهجوم فوق الأرض، في جزء منه لكي تستطيع الإسراع بابنتها الحامل إلى المستشفى لتضع حملها عندما يحين الوقت، وفي جزء آخر للتقليل من مشاكل التنفس في الأماكن الضيقة: “النظام يستخدم هذه المناشير كجزء من حربه النفسية ضدنا”.
وتضيف سميرة التي تحدثت إلينا عبر الهاتف: “يزعم النظام أن وثيقة الاستسلام هذه هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يُخرج الشخص المحاصر من جحيم الحصار وإلى جنة النظام. لكننا لم نر أو نسمع حتى الآن عن أحد خرج بهذه الطريقة.
ويقول عامل إغاثة آخر، وجيه محمد، إن الشارع الذي يفضي إلى الممر الإنساني يتعرض للقصف المستمر ونيران القناصة. ويتحدث أيضاً عن المخاوف من تكرار ما حدث في حلب؛ حيث ترافقت عمليات الإخلاء بالعنف المميت بينما تستولي القوات الموالية للنظام على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في كانون الأول (ديسمبر) 2016.
وحصدت تلك الحملة مئات الأرواح، ويخشى سكان الغوطة الشرقية مواجهة مصير مشابه بينما تكسب القوات الموالية للنظام الأرض، ويجد المئات منهم أنفسهم مجبرين على الانتقال أعمق إلى المناطق التي يسيطر عليها الثوار.
ويقول محمد: “يمكن أن تنجح هدنة فقط إذا ضمنها المجتمع الدولي -فرنسا، وبريطانيا والولايات المتحدة- وليس واحدة تقصف فيها طائرات الضامن المدنيين”.
مسير خطر إلى وجهة بلا يقين
يلاحظ الناشط الإعلامي سامي الشامي، أن الممر “الآمن” بعيد عن مناطق المدنيين على أي حال، وسوف يتطلب الوصول إليه سيراً طويلاً، حيث يكون المرء عرضة للقصف والقنابل. وينطوي الوصول إلى الممر على “مخاطرة أمنية كبيرة”، كما قال لهذه الصحيفة بواسطة وسيلة للتواصل الاجتماعي. وأضاف: “يخشى الناس أن يحدث لهم ما حدث في شرق حلب، حيث يكونون عرضة للاستهداف على طول الطريق”.
وتقول سميرة إنها تأمل بأن يتم تطبيق وقف حقيقي لإطلاق النار وبأن يُرفع الحصار عن الغوطة الشرقية إلى أن يتم التوصل إلى حل سياسي شامل. لكن السكان يستسخفون منطق المغادرة تحت القصف الكثيف، ليعودوا فقط إلى حظيرة الحكومة التي هاجمتهم لسنوات. وتضيف سميرة: “الناس يخافون أن يعاملهم النظام كإرهابيين، وأن يعتقلهم وينتقم منهم”.
وتضيف: “يعتبر سكان الغوطة الشرقية دخول قوات النظام من دون حل سياسي بمثابة موت أكيد، خاصة الشباب. يريد الناس لهذه الحرب أن تنتهي وأن تنتهي معها حكومة بشار الأسد”.
دومينيك سوغل، وسكوت بيترسون
صحيفة الغد