العثمانية الجديدة تسعى لتحويل دول البلقان إلى فناء خلفي

العثمانية الجديدة تسعى لتحويل دول البلقان إلى فناء خلفي

أنقرة – أثارت عملية اختطاف تقف وراءها الاستخبارات التركية لستة عناصر من أنصار الداعية فتح الله غولن من كوسوفو تساؤلات بشأن الدور الذي تقوم به تركيا في المحيط الإقليمي والنفوذ الذي بدأت تخلقه لنفسها، وذلك بالتزامن مع لامبالاة إقليمية ودولية حول هذا الدور المتصاعد.

وقال متابعون للشأن التركي إن اختطاف ستة معارضين أتراك من كوسوفو وبشكل مرتّب مع دوائر نافذة في هذه الدولة يميط اللثام عن التأثير الخفي الذي اشتغلت عليه تركيا في السنوات الأخيرة في محيطها الإقليمي، وخاصة في الكيانات الصغيرة المحسوبة على ميراث الإمبراطورية العثمانية والذي يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى إحيائه عبر الدعم الاقتصادي والتسرّب الثقافي والديني مستفيدا من حاجة هذه الدول للدعم.

ويشير المتابعون إلى أن أردوغان يخطط لإعادة إحياء “الهلال الإسلامي” الذي حققته الإمبراطورية العثمانية في البلقان اعتمادا على استراتيجية وزير الخارجية السابق، منظّر العثمانية الجديدة أحمد داود أوغلو.

ويعتقد داود أوغلو أن منطقة البلقان، التي بدأ فيها انهيار الإمبراطورية العثمانية، هي التي يجب أن تعمل تركيا على الاستثمار فيها ثقافيا واقتصاديا للعودة إلى الواجهة، معتبرا أنه دون منطقة نفوذ وخطوط دفاع في البلقان، لن تتمكن تركيا من ممارسة نفوذها بشكل فعال في الشرق الأوسط أو أوروبا.

مطاردة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأنصار حليفه السابق فتح الله غولن، شرقا وغربا، لا تقف عند حدود رغبته في الانتقام الشخصي، بل هي مدخل أيضا لتعميق النفوذ التركي في المحيط الإقليمي، وخاصة في منطقة البلقان التي كانت تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية، ويريد أردوغان استعادتها كمنطقة نفوذ وفناء خلفي مستفيدا من غياب مزاحمين إقليميين أو من القوى الدولية التقليدية

ومن الواضح أن عملية الاختطاف التي تورطت فيها جهات عليا بكوسوفو، وهو ما تعكسه إقالة وزير الداخلية ورئيس الاستخبارات، هي عنوان لشغل طويل المدى قام به الأتراك في منطقة يصنفونها كفناء خلفي لهم مستفيدين من التاريخ، وخاصة من غياب التأثير القوي لأوروبا التي ينتمي إليها الإقليم الصغير الذي انشق عن يوغسلافيا خلال موجة التفتيت/التحرر التي تلت سقوط الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا في بداية تسعينات القرن الماضي.

ويحذر خبراء استراتيجيون من أن تركيا تعمل بشكل متسارع على تعميق نفوذها في البلقان خاصة مع نجاحها في تطبيع العلاقة مع روسيا عبر تنازلات محدودة في سوريا، وانكفاء أوروبا عن لعب أدوار فعالة في حماية الكيانات الصغيرة التي انضمت إليها.

وتضاف إلى ذلك حالة الالتباس التي تطبع الدبلوماسية الأميركية في فترة انتقالها من مرحلة الرئيس السابق باراك أوباما القائمة على الانكماش وفتح أبواب التسابق على النفوذ للقوى الصاعدة إلى مرحلة الرئيس دونالد ترامب الذي لم يقو بعد على الخروج من تأثير سلفه، ويكافح عبر الاستنجاد بالصقور لاستعادة هيبة واشنطن ونفوذها في الشرق الأوسط والبلقان ومناطق أخرى.

ويشدد الخبراء على أن إخلاء الطريق أمام التمدد التركي سيخلف مشكلات استراتيجية للقوى التقليدية الكبرى التي لا يبدو أنها قد استوعبت استراتيجية الإحياء واستعادة الماضي في ثقافة الرئيس التركي، مشيرين إلى أن نجاحه في فرض حزام عازل شمالي سوريا والعراق ومنع الأكراد من بناء كيانات قوية ولو في شكل حكم ذاتي سيجعل من الصعب مستقبلا دفعه عن التراجع وأن الأمر سيتحول مع مرور الوقت إلى أمر واقع.

واعتقلت السلطات في كوسوفو الخميس ستة أتراك كانوا في البلاد، وتم ترحيلهم إلى تركيا. وقال رئيس وزراء الدولة الصغيرة الواقعة في البلقان راموش هاراديناي ورئيس البلاد هاشم تاجي ورئيس البرلمان قدري فيسيلي ووزير الخارجية بهجت باكولي إنهم ليسوا على دراية بالعملية.

وأمر هاراديناي فورا بإقالة وزير الداخلية فلامور صيفاي ورئيس جهاز الاستخبارات دريتون غاشي. وهذه ليست أول خطوة ضد المعارضين الأتراك في كوسوفو، ففي مارس الماضي سحب الادعاء العام طلبه ليسمح بذلك بتسليم المواطن التركي أوغور توكسوي بعدما اعتُقل في أكتوبر.

وجرت عملية الخميس في الوقت الذي كان فيه رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم يحضر اجتماعا في سراييفو القريبة، حيث أشارت التقارير إلى أنه طلب من البوسنة اتخاذ إجراءات أقوى ضد أنصار غولن المتمركزين هناك. وفي الوقت نفسه في تركيا، قال أردوغان إن جهاز الاستخبارات الوطنية التركية قام بالعملية، وقالت تقارير إعلامية إن الجهاز نقل المعتقلين إلى تركيا على متن طائرة خاصة.

ومنذ محاولة الانقلاب الفاشلة، يطارد جهاز الاستخبارات الوطنية من يُطلق عليهم أنصار غولن في جميع أنحاء العالم، مما أدى إلى قيام بعض الدول مثل ميانمار وكازاخستان وماليزيا بتسليم أنصار غولن، وعمليات ترحيل غير قانونية من البحرين والعراق وأماكن أخرى.

وقال نيت شنكان، مدير مشروع “أمم تمر بمراحل انتقالية” في مؤسسة فريدم هاوس “اعتمادا على كيفية تكشف التفاصيل، ربما تكون هذه أكثر حالة صارخة تحدث في أوروبا”، وأن”المطاردة العالمية التي تقوم بها تركيا تُعد مصدر قلق كبيرا”.

وتابع قائلا إن النفوذ الكبير لتركيا في منطقة البلقان تزايد منذ وصول حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه أردوغان إلى السلطة في عام 2002. وكان هذا سائدا بشكل خاص في كوسوفو، حيث تستثمر الشركات التركية مئات الملايين من اليوروهات في بناء مطار الدولة وطرق سريعة وشبكة كهرباء.

ويرى الخبراء أنه من الصعب الاعتقاد بأن كبار وزراء برشتينا لم يكن لديهم علم بالعملية.

وقال شنكان “(رئيس وزراء كوسوفو والرئيس ورئيس البرلمان) جميعهم جزء لا يتجزأ من جهاز الأمن والذي انبثق عن (جيش تحرير كوسوفو)”، وهو جماعة شبه عسكرية نشطت خلال حرب كوسوفو.

وكتب جاسمين موجانوفيتش، وهو خبير في شؤون جنوب شرق أوروبا وزميل معهد إيست ويست (الشرق والغرب) في رسالة إلى “أحوال تركية”، “تقديري الشخصي هو أن هذا التطور الأحدث ربما يكون خديعة في الواقع يقوم بها رئيس الوزراء للتخفيف من الانتقاد الذي يتعرض له، مع الوضع في الاعتبار الغضب المحلي ورد الفعل الدولي”. وتابع موجانوفيتش “سنرى ما إذا كان الجدل حول هذا الحادث قد يجعل الحكومات الإقليمية أكثر حذرا في المستقبل”.

العرب