ربما تفعل نتائج الانتخابات اللبنانية النيابية الأخيرة القليل لتغيير الطريقة التي يُحكَم بها لبنان فعليا. وحتى الأحزاب التي منيت بالهزيمة في صناديق الاقتراع يمكنها أن تحتفظ بمواقعها بعد المفاوضات المطولة التي ستجري لتشكيل ائتلاف حاكم. وقد دفعت المسافات التي قطعتها الأحزاب السياسية في ترسيخ حكمها أحد الساسة إلى الاعتقاد بأن لبنان ليس ديمقراطية، وإنما هي “أوليغاركية بلوتوقراطية”.
* * *
بعلبك، لبنان – امتدت أعلام حزب الله الصفراء لأميال على طول الطريق السريع المفضي إلى بعلبك، المدينة اللبنانية المجاورة للحدود مع سورية. وتدلت الأعلام من كل عمود إنارة، تتخللها صور لحسن نصر الله، زعيم الحزب. في البعض منها، كان يبتسم؛ وفي أخريات، اكتسى وجهه بتعبير رصين غامض ومرحِّب. وكانت الرسالة على يافطات الحزب بسيطة: “نحمي ونبني”.
لكن غالب ياغي، المحافظ السابق لمدينة بعلبك، والذي خاض الانتخابات البرلمانية اللبنانية الأخيرة هذا الشهر، والأولى من نوعها في تسع سنوات، يعترض على كلا الزعمين. (كان البرلمان الحالي قد مدد ولايته فترتين، متذرعا بالمخاوف الأمنية المتعلقة بالحرب الجارية في سورية المجاورة). وقال ياغي وهو يجلس منحنيا إلى الخلف على أريكة في مقر حملته الانتخابية، إن حزب الله كان “فشلاً سياسياً”، وأنه منهك جداً بسبب خوض الحروب عبر منطقة الشرق الأوسط بحيث لا يستطيع تطوير استراتيجية لتحسين الحياة اليومية للمواطنين. وقد درب مقاتلوه الثوار الشيعة لخوض القتال ضد الجنود الأميركيين في العراق، وهم الآن داعمون رئيسيون لنظام بشار الأسد في سورية؛ وتعتبر الحكومة الأميركية الحزب مجموعة إرهابية. وفي الأثناء، هنا في الوطن، تعاني المحافظة المعروفة باسم بعلبك-الهرمل من الافتقار إلى الأمن –على الأقل، تحول شجار أخير متصل بالانتخابات إلى تبادل لإطلاق قذائف الهاون- وهو ما أحبط السياحة والاستثمار في المحافظة. كما أنها واحدة من أكثر مناطق لبنان فقرا، حيث يعيش 40 في المائة من السكان تحت خط الفقر، وأكثر من نصفهم عاطلون عن العمل.
يقوم النظام السياسي في لبنان على اتفاق لتقاسم السلطة بين طوائف البلد المختلفة، مع تخصيص عدد معين من مقاعد البرلمان البالغ عددها 128 لكل واحد من هذه المجتمعات. وتعكس سياسة البلد صورة الصراعات الأوسع نطاقاً في الشرق الأوسط، والتي تضع حزب الله المدعوم من إيران –هنا في الوطن- في مقابل الأحزاب السنية التي تدعمها السعودية؛ بينما تتصاعد المواجهة –على المستوى الإقليمي، بين إيران وإسرائيل، التي يقول حزب الله إنه يسعى إلى القضاء عليها. وكان رد الوزير الإسرائيلي اليميني، نفتالي بينيت، على نتائج الانتخابات البرلمانية اللبنانية الأخيرة هي قوله إن لبنان يساوي حزب الله. وقال إن إسرائيل لن تميز بينهما بعد الآن، على الرغم من حصة حزب الله الضئيلة من العدد الإجمالي لمقاعد البرلمان.
ربما يبدو من السهل على مرشح اجتذاب الأصوات عن طريق التعويل على فشل الحزب الحاكم في تحسين مثل هذا الوضع الاقتصادي القاتم. ولكن، ليس في بعلبك: فقد انتهى الأمر بياغي إلى الهزيمة، التي كانت أيضا مصير كل مرشح شيعي آخر ترشح هناك ضد حزب الله. وفي حين أن قائمة ياغي تمكنت من تأمين مقعد سني وآخر مسيحي في المحافظة، فقد اكتسح حزب الله وحلفاؤه 26 من أصل 27 مقعدا المخصصة للشيعة في كل لبنان. وقال ياغي: هناك قول مأثور يقول: “إذا جوَّعت كلبك، فسوف يتبعك”. لقد أصبحت معدلات البطالة عالية جدا في بعلبك، ولا يستطيع الشباب هنا العثور على عمل. ولذلك، فإن البديل عن إيجاد عمل هو الانضمام إلى حزب الله في مقابل راتب يساوي 400 دولار شهريا، والخروج والقتال في مكان ما… ثم يعود المقاتل في صندوق، كشهيد”.
بينما تظهر نتائج الانتخابات، أصبح واضحا أن الناخبين عاقبوا أكبر حزب في الكتلة السنية لسنوات على ما تصوروا أنه سوء إدارة. ومع ذلك، كانت هناك قصة أخرى تدور في داخل الأحزاب ذات الأغلبية الشيعية في البلد. بالنسبة لحزب الله، لم يقتصر الأمر على كسب الانتخابات في جنوب لبنان –وإنما هيمن عليها تماما بشكل فعلي. وحتى لو أن كل القوائم التي تسابقت ضد الحزب في المنطقة ضمت أصواتها معا، فإنها لم لتجمع أيضاً ما يكفي من الأصوات حتى للحصول على مقعد واحد.
الآن، يسيطر حزب الله وحلفاؤه الآن على أغلبية المقاعد في البرلمان اللبناني –وهو انتصار سيستخدمونه كدليل على الدعم الشعبي لتدخل الحزب في سورية، وموقفه تجاه إسرائيل، وتحالفه الإقليمي الأوسع مع إيران.
بطبيعة الحال، يتمتع حزب الله بشعبية أصيلة وحقيقية في داخل المجتمع الشيعي. وتبدو رسالته القائلة بأنه حمى البلد ضد التهديدات، من إسرائيل أو من الجهاديين السوريين على حد سواء، حقيقية بالنسبة للكثير من ناخبيه الذين ينظرون إلى نصر الله على أنه رجل خالٍ من الفساد، على النقيض من بقية المؤسسة السياسية المعوجة والفاسدة. لكن الموارد السياسية المتاحة تحت تصرف حزب الله، والتي تشمل ذراعا للبناء ومؤسسة لدعم العائلات التي قُتل أبناؤها وهم يقاتلون تحت رايته، تفوق بشكل هائل هجم الموارد المتاحة للأحزاب الأخرى.
كما أن ضعف الحكومة اللبنانية يزود حزب الله أيضا بورقة رابحة، ويسمح له بتصوير نفسه على أنه القوة الوحيدة التي تستطيع حماية أنصارها من الأعداء الداخليين والخارجيين. وقد تركت هذه المزايا المتراكمة بقية المتسابقين ضد الحزب أمام التساؤل عما إذا كان هناك أي فشل في الحكم، والذي يمكن أن يكون كبيراً بما يكفي ليجعل حزب الله يخسر انتخابات. ويقول ياغي: “إنهم يستخدمون الورقة الطائفية، وهم يحاولون ضم كل الشيعة معاً ليتبعوهم. إنهم يأخذون الناس الجوعى ويدفعون لهم، ولديهم أسلحة وأموال لا يملكها أي أحد آخر غيرهم”.
اعتاد ياغي القتال من أجل قضية خاسرة. كان قد خدم لفترة واحدة كمحافظ لبعلبك، والتي قال إنه ركز خلالها على تنمية الاقتصاد وتعزيز السياحة إلى الآثار الرومانية الرائعة في المدينة. وفي ذلك الوقت، كان لبنان تحت الاحتلال السوري. وعندما حان وقت ترشح ياغي لإعادة انتخابه في العام 2004، طلب منه ضابط المخابرات السوري المسؤول عن المنطقة أن لا يترشح، كما قال. وقال الضابط أن بشار الأسد، رئيس سورية، يريد أن يعطي المحافظة لحزب الله حتى يظهر للأميركيين أن الحزب ليس منظمة إرهابية، وإنما حزب سياسي يتمتع بدعم شعبي. لكن ياغي تحدى تلك الأوامر وترشح على أي حال، وخسر فيما وصفها بأنها انتخابات مزورة.
مثل كل الشيعة الذين يترشحون ضد حزب الله في الانتخابات البرلمانية، ظل ياغي بعيدا عن انتقاد حزب الله كقوة عسكرية. وكان مقاتلون قد حاربوا في سورية والعراق، وقاموا بتدريب جماعات تدعمها إيران في كل من هذين البلدين، ويرجح أنهم قدموا بعض الدعم لحلفاء طهران في اليمن أيضاً. لكن خطيئة الحزب الأساسية، كما قال، هي دخول معترك السياسة في العام 1992 –كان ينبغي عليهم، ببساطة، أن ينأوا بأنفسهم عن العمل الفوضوي المتعلق بالحكم ويتركوه للآخرين. وقال ياغي: “إننا لسنا ضد حزب الله كحركة مقاومة، طالما ظل يقاوم بالطريقة الصحيحة. إن خلافنا معه يتعلق بالتنمية. إننا نريد التنمية لهذه المدينة، وهم يريدون الانتظار حتى يحرروا كل شيء أولا ثم يلتفتون إلى التنمية”.
ما من شك في أن ياغي محق فيما يتعلق بحاجة المنطقة إلى التنمية الاقتصادية. فقد تدفق اللاجئون السوريون على المنطقة في السنوات الأخيرة، وأصبحوا يشكلون الآن ثلث سكانها، وفقا لرامي اللقيس، مؤسس المنظمة اللبنانية للدراسات والتدريب، المنظمة التنموية التي تعمل في بعلبك. ويتنافس هؤلاء اللاجئون مع اللبنانيين ذوي الدخل المنخفض على الوظائف ويضعون ضغوطا كبيرة على المؤسسات الضعيفة في المنطقة، كما قال، وخاصة إمداداتها من المياه التي تشكل عنصرا حاسما لقطاعها الزراعي. وأضاف : “إننا نشغل مطبخاً لتقديم الطعام للعائلات الفقيرة. اعتقدنا أنه سيكون بشكل أساسي للسوريين وأننا لن نستطيع جعل اللبنانيين يأتون، لكننا وجدنا الآن أن اللبنانيين أيضاً يحتاجون إلى القدوم للحصول على الطعام لإطعام عائلاتهم”.
خلال الحملة، بدا أن خطاب حزب الله الانتخابي يعترف بالمظالم الاقتصادية كنقطة ضعف سياسية محتملة. وفي تحول عن الحملات السابقة، ركز مسؤولو الحزب على ثيمات التنمية ومكافحة الفساد بدلاً من التركيز على كفاح الحزب ضد إسرائيل أو في سورية. وفي آخر خطاب له قبل الانتخابات، تعهد نصر الله بأن حزب الله وحلفاؤه سوف يعالجون أوجه القصور الخطيرة والتعويض عن الأخطاء التي ارتكبت في الماضي.
مع ذلك، بالنسبة لأنصار حزب الله، تظل هذه الأخطاء باهتة وقليلة الأهمية قياساً إلى دور الحزب الأمني القوي. وقد أقنع الحزب –بنجاح- الغالبية العظمى من الناخبين الشيعة في بعلبك بأن الإدلاء بالأصوات لمرشحيه يجسد التعبير عن دعمهم لدور الحزب في حمايتهم مما يرون أنه تهديدات في إسرائيل وسورية. وفي الوقت نفسه، انتقد نصر الله بشدة أولئك الذين يترشحون ضد الحزب. وقال أن هؤلاء الأشخاص “تآمروا مع الجماعات المسلحة لاحتلال مدنكم”، مردداً الادعاءات السابقة بأن ساسة المعارضة هم حلفاء لتنظيم “داعش” والجماعات السنية الجهادية الأخرى.
وضع هذا الخطاب السياسيين الشيعة الذين أملوا في هزيمة حزب الله في صندوق الاقتراع في موضع مستحيل. لقد أرادوا فصل قوة حزب الله العسكرية القوية عن الحملة، وخوض صراع الانتخابات على أساس القضايا المحلية فقط، في حين أقام حسن نصر الله قضية أنك إما أن تكون مع حزب الله أو ضده. ومرة تلو المرة، عبرت الشخصيات الشيعية المعارضة عن نفس الفكرة: إن حزب الله لم يرد أن يهزمهم في انتخابات فحسب –لقد أراد إسكات صوتهم بالكامل.
وقال لي يحيى شمس، وهو عضو سابق في البرلمان، والذي ترشح ضد حزب الله في بعلبك: “يريد السيد حسن نصر الله أن يثبت أنه وتحالفه هم أصحاب القرار الشيعي في لبنان. لكن هناك آخرين في بعلبك الهرمل، والذين هم شركاء. لا يمكنهم احتكار القرار ومحو مساحة الآخرين”.
ربما تفعل نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة القليل لتغيير الطريقة التي يُحكَم بها لبنان فعلياً. وحتى الأحزاب التي منيت بالهزيمة في صناديق الاقتراع يمكنها أن تحتفظ بمواقعها بعد المفاوضات المطولة التي ستجري لتشكيل ائتلاف حاكم. وقد دفعت المسافات التي قطعتها الأحزاب السياسية في ترسيخ حكمها أحد الساسة إلى الاعتقاد بأن لبنان ليس ديمقراطية، وإنما هي “أوليغاركية بلوتوقراطية”.
بالنسبة للسياسيين الشيعية الذين حاولوا معارضة حزب الله، من الصعب بشكل خاص تبرير النتيجة باعتبار أنها انعكاس للإرادة الشعبية.
وقال لي ياغي بينما أغادر: “يفترض في لبنان أن يكون بلداً ديمقراطياً. أن تكون لكل شخص الحرية في التصويت لمن يريد أن يصوت له. ولكن في الحقيقة، في الواقع، ليس الأمر كذلك. إنك لا تستطيع أن تصوت لمن تريد أن تصوت له. هناك ضغوط تمارس بطرق معينة، ويعتمد الناس على الأحزاب المختلفة من أجل كسب قوتهم. ولذلك لدينا هذه الدويلة داخل دولة، لكن هذه الدويلة هي في الحقيقية أقوى بكثير من الدولة نفسها”.
ديفيد كينر
الغد