يشكل سكان سورية، البالغ عددهم نحو 18 مليون نسمة، أقل من واحد في المائة من سكان العالم، لكن نسبة هائلة -هي ثلث كل اللاجئين في العالم- هي من السوريين. فمنذ العام 2011، فر أكثر من 5.5 ملايين شخص من ذلك البلد، بالإضافة إلى نحو 6.1 مليون نازح داخلي. وقد تحمل جيران سورية وطأة الأزمة: هناك 3.3 ملايين لاجئ مسجلين في تركيا؛ ومليون في لبنان؛ و650.000 في الأردن. وهناك نصف مليون لاجئ سوري يقيمون الآن في أوروبا. (استقبلت كندا والولايات المتحدة حوالي 50.000 و18.000 على التوالي).
أدت هذه التدفقات للاجئين إلى زعزعة استقرار بلدان أخرى في المنطقة، وأعادت صياغة سياسات اللجوء والهجرة العالمية، وأثارت رد فعل شعبيا في الغرب، والذي أدى بدوره إلى تقويض الديمقراطية الليبرالية. ولذلك، قد لا يكون من المستغرب أن معظم المناقشات الدولية حول مستقبل اللاجئين السوريين تستقر على حل بسيط: إعادتهم إلى سورية بمجرد انتهاء الصراع. وترى مفاوضات السلام المختلفة الجارية -مثل عملية جنيف، التي ترعاها الأمم المتحدة، ومحادثات أستانا، التي تشارك في رعايتها إيران وروسيا وتركيا- في حكم المسلم به أن اللاجئين السوريين سيعودون طواعية إلى ديارهم بمجرد أن يتم التوصل إلى تسوية سياسية.
لكن هذه الخطط تجاهلت جزءاً أساسياً من المعادلة: ما يريده اللاجئون أنفسهم. وقد سعى وزملائي وأنا في مركز كارنيغي للشرق الأوسط إلى سد هذه الفجوة من خلال إجراء مقابلات مع عدد من اللاجئين في الأردن ولبنان حول ما الذي يتطلبه الأمر حتى يعودوا إلى ديارهم. وأوضحت هذه المحادثات فقط مدى الصعوبة التي تنطوي عليها العودة الجماعية الطوعية.
ما الذي يريده اللاجئون
على الرغم من أن تجاربهم مع التمييز ضدهم في بلدان إقامتهم الحالية دفعت العديد من اللاجئين إلى إضفاء طابع رومانسي على سورية ما قبل الصراع، فإن أولئك الذين قابلناهم أشاروا في أغلبهم إلى السلامة والأمن كشرطين أساسيين للعودة. لكن معظمهم لا يعتقدون أنه سيتم الوفاء بهذه الشروط الأمنية في أي وقت قريب من دون حدوث شكل من أشكال التغيير السياسي. وتعارض غالبية اللاجئين النظام الحاكم، ولا يمكن ضمان سلامتهم وأمنهم إلا إذا ذهب الرئيس السوري بشار الأسد. وينطبق هذا بشكل خاص على النساء اللواتي يخشين على سلامة أطفالهن وعائلاتهن إذا عادوا. لكن رحيل الأسد ليس هو كل ما يريده اللاجئون؛ ويعتقد الكثيرون منهم أن السلامة والأمن يعنيان أيضاً نزع السلاح، والذي يتضمن حلَّ جميع الميليشيات والفصائل المسلحة، ووضع حد للاعتقالات التعسفية ونقاط التفتيش. وبالنسبة لمعظم اللاجئين، فإن الفاعلين المحليين لا يجلبون سوى الفوضى وعدم الاستقرار. ولذلك تتعلق آمالهم بشكل رئيسي على الأطراف الخارجية لإنهاء النزاع. وحتى اللاجئون الموالون للنظام (الذين تأهلوا للحصول على صفة لاجئ بسبب فرارهم من المناطق التي تعاني من كثافة الصراعات) لديهم شكوك حول ما إذا كان وطنهم سيكون آمناً بما يكفي للعودة. وعلى الرغم من أن البعض يعتقدون أن هناك أملاً في تحقيق الاستقرار السياسي إذا استعاد الجيش السوري السيطرة على ما يكفي من المناطق، فإن معظمهم يشعرون بأنه ليس هناك حل قريب في الأفق.
من العقبات الرئيسية الأخرى أمام عودة اللاجئين التجنيد العسكري الإلزامي في سورية للرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و42 سنة، وهي سياسة حفزت أيضاً مغادرة العديد من الشباب المشاركين في مجموعة التركيز التي شكلناها.(1) ثم ضاعفت المظالم الطائفية من هذا الخوف. وبالنظر إلى أن العلويين يهيمنون على الطبقة السياسية الحاكمة في سورية، فإن بعض الشباب السني يعتقدون أنه سيتم إرسالهم إلى الخطوط الأمامية ليموتوا، بينما سيحصل المجندون العلويون على أماكن خدمة أكثر أماناً. وقد زادت القوانين الأخيرة من تعقيد هذه القضية. ففي العام 2017، فرضت الحكومة غرامة بقيمة 8000 دولار على الشباب الذين يتخلفون عن الالتحاق بالخدمة العسكرية خلال ثلاثة أشهر من بلوغهم سن الثامنة عشرة. ولأن هذا القانون ينطبق أيضاً على أولئك الذين فروا قبل تاريخ المصادقة عليه، فسوف يترتب على الذكور في سن التجنيد الذين يرغبون في العودة إلى سورية دفع الغرامة. أما أولئك الذين يفشلون في الانضمام إلى الجيش لاحقاً، فسوف يُسجنون لمدة سنة ويعاقبون بدفع غرامة تبلغ 200 دولار عن كل سنة تمر بعد تاريخ التجنيد، ويمكن للحكومة مصادرة أصول المجند حتى تكتمل هذه المدفوعات. وبالنظر إلى عوز معظم اللاجئين، فإن مثل هذه الغرامات يمكن أن تشل مالية الأسرة.
كما احتلت العدالة مرتبة عالية بين شروط اللاجئين للعودة. ويخشى الكثيرون من أنه من دون وجود الإطار القانوني المناسب لتحميل الأفراد المسؤولية عن الجرائم التي ارتكبت أثناء النزاع ومحاسبتهم عليها، فإن انعدام القانون والاقتصاص على طريقة العدالة الأهلية سيسودان. لكن مجموعة التركيز الخاصة بنا اختلفت حول كيفية تحقيق ذلك. فقد رفض اللاجئون الموالون للنظام فكرة منح العفو الرئاسي لأولئك الذين تهربوا من التجنيد أو شاركوا في أنشطة مناهضة للنظام، لأنهم يعتقدون أن الأفراد الذين يعارضون النظام هم خونة ويجب أن لا يُغفر لهم. ومن ناحية أخرى، عارض معظم اللاجئين المناهضين للنظام فكرة الإفلات الكامل من العقاب عن جميع الجرائم التي تم ارتكابها أثناء النزاع، لأنهم يصرون على وجوب محاسبة أولئك الذين ارتكبوا جرائم خطيرة.
على نحو مثير للدهشة، كانت مسألة الفرص الاقتصادية أقل أهمية بالنسبة لمعظم اللاجئين من الاستقرار السياسي. وعندما سئلوا عما إذا كانوا سيعودون إلى سورية في ظل ظروف سياسية مواتية، حتى لو كانوا يفتقرون إلى الفرص الاقتصادية أو الإسكان، قال معظم اللاجئين إنهم سيفعلون. لكنهم قالوا أيضاً إنهم يريدون العودة إلى مدنهم الأصلية. وقد اقترح أقلية فقط من مجموعة التركيز أنهم سيكونون مستعدين للاستقرار في أي منطقة في سورية إذا كان هذا هو الخيار الوحيد.
الحقائق على الأرض
مع ذلك، من الناحية العملية، سوف تشكل العودة إلى الوطن تحدياً حتى بالنسبة لأكثر اللاجئين التزاماً. سوف تتسبب تجزئة الأراضي، والتدمير واسع النطاق، والتشريعات الجديدة التي تحكم حقوق الملكية، في إعاقة قدرة اللاجئين على استعادة الحياة التي خلفوها وراءهم. وقد أدى النزوح الجماعي إلى احتلال متسلسل واسع النطاق للبيوت السكنية، كما أقيمت العديد من المخيمات سيئة التجهيز على أراض ما يزال يمتلكها المدنيون بشكل كبير بصورة قانونية. وسوف تولد هذه المستوطنات قضايا متعلقة بحقوق الملكية للاجئين الذين يسعون إلى استعادة أصولهم.
ثم جعل نظام الأسد الأمور أكثر سوءاً فحسب. ويشير عدد من الدراسات إلى أن النظام استخدم سجلات الأراضي لتحديد المناطق المتحالفة مع المعارضة واستهدافها بالحملات العسكرية على أمل أن يؤدي ذلك إلى تأليب السكان المدنيين فيها ضد المعارضة. كما زعمت تقارير موثوقة في العام 2016 أن النظام قام بتدمير سجلات الأراضي عمداً من أجل انتزاع ملكية أولئك الذين هربوا وتزوير سجلات ملكية جديدة للمواطنين المؤيدين للنظام. وفي حمص، نقل قانون حديث للتجديد الحضري، القانون (رقم 10)، هذا النهج إلى مستوى جديد من خلال إنشاء وحدات إدارية مكلفة بإعادة بناء أجزاء من المدينة، وطلب من جميع السوريين الذين يملكون عقارات في تلك المناطق تقديم مطالبة بها في غضون شهر واحد. ويخاطر أولئك الذين يفشلون في القيام بذلك باستملاك الحكومة أصولهم. ولكن بالنسبة للعديد من اللاجئين، قد يجعل هذا من العودة إلى سورية مهمة انتحارية. فقد تم تصميم هذا التشريع لمكافأة الموالين للنظام، الذين سيتم تكليفهم بإعادة تطوير سورية، ولتجريد خصومهم من ملكياتهم، بما في ذلك ملايين اللاجئين الذين لا يستطيعون العودة أو الذين فروا من دون أن تكون في حوزتهم صكوك ملكية. وعلى المدى الطويل، يمكن أن تجعل هذه السياسات من المنفى واقعاً دائماً للعديد من اللاجئين.
كما أن إجراءات التحقق، مثل تلك التي حددها محافظ حمص، طلال برازي، تضمن أيضاً أن تكون عودة اللاجئين إلى سورية صعبة. فمن أجل استعادة منازلهم، يجب على اللاجئين العائدين تقديم وثيقة قانونية تشهد على أماكن أصولهم وعلى امتلاكهم الممتلكات، ويجب عليهم الخضوع لفحص أمني تجريه الشرطة المحلية لضمان عدم وجود تهم أمنية أو جناية معلقة ضدهم. كما تنص اللوائح الجديدة على أنه يجب على اللاجئين استعادة ممتلكاتهم في غضون 30 يوماً. وهذه مشلكة بالنسبة للرجال الذين تهربوا من التجنيد والذي يواجهون خطر الاعتقال. وعلاوة على ذلك، في العام 2004، كان حوالي 40 في المائة من الممتلكات في سورية غير رسمية، بمعنى أن المالكين هربوا من سورية من دون أن يكون في حوزتهم إثبات للمُلكية. ولأن لدى معظم اللاجئين قدرة محدودة على الوصول إلى المعلومات المتعلقة بالقوانين الجديدة (خاصة تلك المتعلقة بالسكن والأرض وحقوق الملكية)، فإن عملية استعادة أصولهم سوف تعتمد إلى حد كبير على الشبكات غير الرسمية والتواصل الشفهي.
الطريق في الأمام
بالنسبة للعديد من اللاجئين السوريين، فإن تجارب الرحيل المؤلمة، التي تفاقمت ببقاء النظام الذي أجبرهم على الفرار، تعقّد إمكانية العودة إلى الوطن. وما يزال الكثيرون قلقين من الوضع الأمني الذي يصعب التنبؤ به. وعلى الرغم من أن حدة الصراع قد تهدأ في المستقبل القريب بينما يعزز نظام الأسد تواجده في المزيد من الأراضي، فمن المرجح أن تظل البلاد مجزأة إلى مناطق نفوذ مختلفة لبعض الوقت. وفي الوقت نفسه، أصبحت قوانين التخطيط الحضري، وخطط إعادة الإعمار، والتجنيد الإلزامي، وإجراءات التدقيق، أدوات في يد نظام، مصممة لمكافأة الموالين له واستخدام مسألة عودة اللاجئين -وهي أولوية عالية لكل من جيرانه وأوروبا- كوسيلة للضغط من أجل توسيع مكاسبه المناطقية ولإطلاق عملية لإعادة الاندماج في المجتمع الدولي.
لن تكون أي تسوية سياسية للحرب الأهلية السورية مستدامة إلا إذا أخذت في اعتبارها التعامل مع احتياجات اللاجئين وظروفهم. ويجب أن يصر المجتمع الدولي على تأسيس إطار تفاوضي يركز على اللاجئين ويدعم حقهم في العودة الطوعية. وهذا يعني التعامل مع المطالب الرئيسية للاجئين، المتعلقة بتحقيق الاستقرار السياسي والعدالة، وكذلك الضغط على النظام في دمشق للتراجع عن القوانين التي تجرد اللاجئين من ممتلكاتهم أو التي تعوق عودتهم. وعلى سبيل المثال، يمكن ربط التمويل الدولي لتحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار على المستوى المحلي مباشرةً باحترام حقوق اللاجئين. وتتطلب معالجة أزمة اللاجئين السوريين الاعتراف بجذورها السياسية وتضمين صوت اللاجئين في عملية السلام. وإذا لم يحدث ذلك، فسوف تظل سورية مركزاً لزعزعة الاستقرار والبؤس البشري. وسوف يبقى ملايين السوريين حول العالم لاجئين.
مها يحيى
الغد