تحليل النظم الدولية

تحليل النظم الدولية

يُقدِّم إيمانويل وولرستين، في كتابه “تحليل النُّظم الدوليَّة” الصادر عن مركز الجزيرة للدراسات في فبراير/شباط 2015، مقاربة شاملة -كان هو رائدها قبل ثلاثين عامًا- لفهم تاريخ وتطور العالم الحديث. ومنذ أن قام وولرستين في البدء بوضع أسس “تحليل النظم الدولية” أصبح هذا النظام منهجية مستخدمة على نطاق واسع في العلوم الاجتماعية التاريخية ونقطة مرجعية مشتركة في المناقشات الخاصة بالعولمة وقضايا أخرى. قدم وولرستين، وللمرة الأولى، ملخصًا وجيزًا في مجلد واحد لنظام تحليل النظم الدولية ومخططًا واضحًا للنظام العالمي الحديث، يصف فيه الهياكل المعرفية التي استند إليها، وآلياته، ومستقبله.

ويوضح وولرستين الخصائص المميزة لتحليل النظم الدولية، وهي: التركيز على أنظمة العالم بدلاً من الدول الوطنية، وعلى ضرورة النظر في العمليات التاريخية؛ لأنها تتكشف على فترات طويلة من الزمن، وعلى الربط بين الهيئات ذات الإطار التحليلي المعرفي المنفرد التي يُنظر إليها عادة على أنها تختلف عن بعض البعض، مثل: التاريخ والعلوم السياسية، والاقتصاد، وعلم الاجتماع. وهو يصف النظام العالمي كواقع اجتماعي يتألَّف من دول مترابطة، وشركات، وأسر، وطبقات، وجماعات ذات هويات من جميع الأنواع. كما يحدد أيضًا ويسلِّط الضوء على أهمية اللحظات الرئيسية في تطور النظام العالمي الحديث، وهي: التطوير الرأسمالي للاقتصاد العالمي في القرن السادس عشر، وبداية قرنين من المركزية الليبرالية في الثورة الفرنسية عام 1789، وتقويض هذه المركزية في الثورات العالمية عام 1968.

ويبدأ الكتاب في الفصل الأول، وهو بعنوان “الجذور التاريخية لتحليل النظم الدولية من علم الاجتماع إلى علم الاجتماع التاريخي”، بمناقشة البنى المعرفية لنظام العالم الحديث، وهو محاولة لتوضيح الأصول التاريخية لهذا اللون من التحليل الذي بدأ في مطلع سبعينات القرن العشرين بوصفه منجهًا جديدًا للواقع الاجتماعي، لكن بعض مفاهيمه لم ينفكَّ متداوَلاً من وقت طويل؛ بل يرى الباحث أن قصة نشوء تحليل الأنظمة العالمية مضمَّنة في تاريخ النظام العالمي الحديث وأبنية المعرفة التي نمت بوصفها جزءًا من ذلك النظام، وخير سبيل لفهم هذه القصة بعينها ألا نعود بأصولها إلى سبعينات القرن الماضي؛ بل إلى منتصف القرن الثامن عشر، حين كان الاقتصاد الرأسمالي العالمي قد بلغ من العمر نحوًا من قرنين، وكان سلطان التراكم اللانهائي لرأس المال قد خلق حاجة للتغيير التكنولوجي المستمر، والتوسع المتواصل للحدود، جغرافيًّا ونفسيًّا وفكريًّا وعلميًّا.

ويقدم الباحث قراءة في الانتقادات التي وُجِّهت إلى تحليل النظم الدولية؛ حيث يفتقر إلى لاعب مركزي في عملية إعادته لقراءة التاريخ؛ ففي الوضعية العامة كان ذلك اللاعب هو الفرد، وفي الماركسية التقليدية كان اللاعب هو البروليتاريا أو طبقة العمال الكادحين، أما عند دعاة استقلالية الدولة فاللاعب هو رجل السياسة، وأما دعاة الخصوصية الثقافية فعندهم أن كلاًّ منَّا (مخالفًا لغيره) هو لاعب منخرط في حوار مستقل مع الآخرين جميعًا. أما عند مدرسة تحليل النظم الدولية، فهؤلاء اللاعبون هم نتاج عملية، تمامًا كقائمة البنى التي قد تخطر لك، وليسوا عناصر تكوينية ابتدائية، لكنهم جزء من خليط منتظم، عنه نتجوا ووفقه يعملون.

ويتناول وولرستين، في الفصل الثاني الذي جاء بعنوان “النظام الدولي الحديث بوصفه اقتصادًا عالميًّا رأسماليًّا: الإنتاج والاستقطاب وفائض القيمة”، الحدود التاريخية للنظام العالمي الحديث: جذوره، وجغرافيته، وتطوره الزمني، وأزمته البنيوية الراهنة. وفي الفصل الثالث يعالج الكتاب “نشأة الدول القومية ذات السيادة والمستعمرات، والنظام فيما بين الدول”، ويشير الباحث إلى أن نظام الدولة الحديثة يقوم على السيادة التي تم ابتكارها في النظام العالمي الحديث، ومعناها الذي يتبادر للذهن من الوهلة الأولى، هو السلطة الذاتية المطلقة للدولة، لكن الدول بمفهومها الحديث هي في الواقع جزء من نظام أكبر، وهو ما بات يُطلق عليه اسم “النظام فيما بين الدول”، ويؤكد وولرستين أنه يجب التفكير في مفهوم “الدولة القومية” كخطٍّ متقارب يطمح إليه كافة الدول، وبينما تدَّعي بعض الدول أنها لا تطمح إلى ذلك باعتبارها “متعددة القوميات”، فإنها في الحقيقة تسعى إلى إنشاء هوية واحدة لعموم الدولة.

ويفكِّك الباحث في الفصل الرابع الثقافة الجغرافية للنظام العالمي المعاصر، ويرى أن الثورة الفرنسية كانت منعطفًا مهمًّا في التاريخ الثقافي للنظام العالمي المعاصر؛ إذ إنها أحدثت تغيرين جذريين شكَّلا الأساس الذي قامت عليه فيما بعد الثقافة الجغرافية لهذا النظام، أولهما: هو أن التغيير السياسي ظاهرة طبيعية، وثانيهما: هو إعادة صياغة مفهوم السيادة التي غدت الآن تتجسد في الناس أو المواطنين. وقد غدا التاريخ السياسي للنظام العالمي المعاصر في القرنين التاسع عشر والعشرين بمثابة تاريخ للسجال حول الخط الفاصل بين من هو مشمول ومن هو معزول من مفهوم المواطنة. ومع ذلك، فقد كان هذا السجال يدور في إطار ثقافة جغرافية مقولتها التي تصدع بها في تعريف المجتمع الصالح تتمثل في “المجتمع الذي يشمل الجميع”. وقد كانت هذه المواجهة السياسية تدور في ميادين ثلاثة: ميدان الأيديولوجيات، وميدان الحركات المناوئة للأنظمة القائمة، وميدان العلوم الاجتماعية. وكانت هذه الميادين تبدو منفصلة، بل كانت تزعم أنها منفصلة، والحق أنها كانت متلازمة تربطها عُرى وثيقة.

ويعالج وولرستين في الفصل الخامس أزمة النظام العالمي الحديث التي قد تستمر لمدة خمسة وعشرين إلى خمسين عامًا؛ لأن إحدى الخواص للفترات الانتقالية هي أنها تواجه تقلبات جارفة في كل البنى والعمليات التي تُعتبر جزءًا من النظام العالمي القائم. وقد تؤدي هذه الحالة من عدم الاستقرار إلى قلق شديد، ومن ثَمَّ إلى العنف إثر محاولة الناس الحفاظ على الامتيازات والمراتب المتدرجة في ظل موقف شديد التذبذب، وبشكل عام، قد تؤدي هذه العملية إلى صراعات اجتماعية مُنفِّرة نوعًا ما. وتتزامن قصة الأزمة المعاصرة مع الثورة العالمية عام 1968، والتي هزت دعائم النظام العالمي بشكل كبير. وتمثل هذه الثورة العالمية نهاية فترة طويلة من التفوق الليبرالي، ومن ثم تزيح الثقافة الجغرافية التي حافظت على سلامة المؤسسات السياسية للنظام العالمي. وقد أدى هذا الخلل الثقافي الجغرافي إلى إضعاف أسس النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي، وتعريضه لأقوى الصدمات السياسية والثقافية والتي كان يتعرض لها دائمًا، ولكنه حُصِّن منها بطريقة ما في السابق.

المصدر: مركز الجزيرة للدراسات