بدأ رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي حكمه مكبلا بسطوة “الدولة العميقة”، التي شكلها سلفه المالكي، والتي تتكون من منظومة إدارية وسياسية وإعلامية ومؤسسة عسكرية واستخبارات وقضاء ومثقفين ورجال دين، يلتقون حول هدف يراد منه: الإبقاء على مصالحهم وامتيازاتهم الخاصة، واستثناؤهم من أية محاسبة أو مساءلة، ثم عدم تعرضهم لأية متابعة قضائية إن اهتز النظام القائم، أو استجدت أحداث من شأنها زعزعة المنظومة.
والطبيعة الشبكية لهذه الدولة، تجمع الذين ينتمون لها في مصالح اقتصادية ومشاريع، وعلاقات اجتماعية وعائلية، وانتماءات طائفية، تتغلغل بطريقة تراتيبية، ذات تنظيم عامودي وافقي، تساندها اجهزة بوليسية تعتمد القمع والاكراه وتكميم الافواه. تستند على التضليل، من خلال مؤسسات اعلامية وثقافية ودينية، تؤمن لها الشرعية وتروج لسلوكها.
وعلى أي حال، فليس من السهل تفكيك منظومة “الدولة العميقة” واحداث تغييرات في التوجهات السياسية والحركية، فـ”المؤسسات الجديدة”، لن تقاوم قوانينها، إذ سرعان ما تبرز اجهزتها المتعددة، لتفسد البناء الجديد وتعرقل مسيرته بابتكار اساليب ومواقف، تجبر من يتصدى للعمل السياسي والتنفيذي الى الانصياع لها، والا اعتبر خائنا ومتواطئا مع الخصوم. وحمله على القبول بها كأمر واقع.
ومن هنا يواجه رئيس الوزراء العراقي هذه الأيام، صراعات خفية وواضحة مع الخصوم- الحلفاء من السياسيين الذين ينتمون الى كتلته، وهو يدرك جيدا عزم المالكي على استغلال نفوذه في كافة مفاصل الدولة ومؤسساتها توطئة للإطاحة بحكومة الاول. وعلى الارجح فان العبادي يتبع مقاربة هادئة في تصفية “الدولة العميقة” عبر إصلاحات سياسية وعملية، تعزز من دوره في صنع القرار وتنفيذه، عبر الاستجابة لمطالب مرحب بها محليا ودوليا.
واخطر ما يشهده العراق اليوم تصدر الميليشيات الطائفية المشهد السياسي والعسكري في البلاد، التي تتبع ولاءات خارجية، وتقف وراء تمزيق النسيج الوطني، وتسميم الأجواء واشاعة الخوف والتحريض على القتل والاستئصال، تحت دعاوى “الارهاب” ومكافحته. وما يمكن معاينته بصورة واضحة اليوم تبعات ترهيب الشارع من شركاء الوطن على مستقبل البلاد والاستقرار السياسي فيه، إذ عادت “قوى الدولة العميقة” تتحدث عن احتضان مكون لقوى الارهاب، ما يتطلب تدخلا عسكريا ميليشياويا حاسما، يحول دون تفاقم الاوضاع. وتوظيف حالة الانفلات الأمني والتردي الاقتصادي للتأثير على مزاج المواطن العادي، من خلال تحميل المسؤولية كاملة للآخر. وليس بخاف أن شبكات “الدولة العميقة” استطاعت خلال الفترة الماضية التي رافقت احتلال الموصل وما بعدها ان تكرس عداء شعبيا ضد ما يسمى بـ”حواضن داعش” من العرب السنة، لتنشط الميليشيات في ارتكاب جرائم القتل والاختطاف وباسم المذهب.
والعبادي على دراية بمخاطر الانزلاق باتجاه الفوضى، بالرغم من الشواهد الكثيرة التي تفسر هذه المخاوف. إلا أن هناك املا في تحجيم “الدولة العميقة” والحد من محاولاتها الضاربة لزعزعة الاستقرار المجتمعي، تجسدت في موقفه الاخير من دخول قوات كبيرة من متطوعي الحشد الشعبي الى ناحية النخيب المرتبط اداريا بمحافظة الانبار قادمة من كربلاء، عندما أوعز على تسليم عمليات الجزيرة والبادية الملف الأمني للناحية بدلا من قيادة عمليات الفرات الأوسط.
والمؤكد أن الدولة شهدت في عهد المالكي أكبر تدهور في تاريخها، وتراجع أداؤها حتى وصل للانهيار الكامل في بعض المجالات وتراجعت هيبتها وعانت من الفوضى والترهل وسوء الأداء، ولهذا فان رئيس الوزراء حيدر العبادي، مطالب بتفكيك سلطات متعددة؛ الحزبية والميليشيات الطائفية وشلل الفساد وسرقة المال العام، وبقائها يعدد سببا رئيسا للتلاعب في المعادلات السياسية والامنية، من قبل من هو في داخل السلطة ويعمل على تقويضها في ذات الوقت.
وما يدركه العبادي ان العراق بهذا الوضع عبء على أي سلطة سياسية جديدة تحاول الإبقاء على وحدته والحفاظ على استقراره. ولئن ينظر الى موقفه حيال ناحية النخيب بمحافظة الانبار، لجهة تولي الشرطة الاتحادية بمسكها، بانها خطوة على طريق الاصلاح وترميم الصدع السياسي والاجتماعي، فانه مطالب ايضا بتفعيل المصالحة الوطنية، وترسيخ دولة المؤسسات والقانون… ومع ذلك، يمكن اعتبار الترتيبات الجديدة مؤشراً آخر على أن الهيكليات الحكومية تشهد حالة تغيّر، مستمر، وأن العبادي يستعد للعب دور أساسي في المستقبل.
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية