جوانب تأثّر إيران المحتملة بالعقوبات الأمريكية (الجزء الثاني): العمل بطريقة أكثر ذكاءً، وليس أكثر شقاءً

جوانب تأثّر إيران المحتملة بالعقوبات الأمريكية (الجزء الثاني): العمل بطريقة أكثر ذكاءً، وليس أكثر شقاءً

لم يتم بعد بشكل كامل توضيح الكثير من التفاصيل الكامنة وراء إعادة تطبيق العقوبات النووية على إيران. ومن المرجح أن تصدر الحكومة الأمريكية توجيهات إضافية في الوقت الذي يتم فيه تحديد المواعيد الرئيسية لبعض العقوبات – وخاصة 6 آب/أغسطس و 4 تشرين الثاني/نوفمبر. وفي غضون ذلك، يمكن لعدد من القرارات السياسية المعلقّة أن يدعم هذه التوجيهات.

وفي الوقت الذي يدرس فيه المسؤولون [الأمريكيون] هذه القرارات، يجب أن يأخذوا في عين الاعتبار أنه لا يجب إعادة فرض العقوبات بالطريقة نفسها التي كانت تُفرض فيها قبل إبرام الاتفاق النووي. وهذا الخيار يمنح واشنطن مجالاً لاستغلال نقاط الضعف الإيرانية الأساسية بشكل أفضل، والعمل مع شركاء أجانب بهدف تحفيز العمل متعدد الأطراف ومنح الأولوية للجهود الأمريكية في مواجهة ضيق الوقت والموارد.

العقوبات المفروضة على قطاع الطاقة

عند استهداف قطاع النفط الإيراني، يجب على صانعي السياسات [الأمريكيين] التركيز بشكل أكبر على العائدات أكثر منها على المبيعات. أي أنه حتى عندما يتخذون خطوات للحدّ من حجم مبيعات النفط الإيرانية، ينبغي أن تكون أولويتهم ضمان تجميد عائدات هذه المبيعات.

ويسمح التشريع ذو الصلة بالإعفاء من بعض العقوبات المالية طالما (1) تواصل الدول الوفاء بمتطلبات خفض المشتريات و (2) توافق الدول على إبقاء العائدات الإيرانية في الدولة المشترية مع فرض قيود على استخدامها [بحيث تركز على عمليات] تمويل التجارة الثنائية. وقد تمّ اعتماد هذه الخطوة التي يُطلق عليها “القيود التجارية الثنائية” والتي تمنع إعادة عائدات النفط الإيراني إلى البلد الأم، بعد مرور عام على “تخفيض الإعفاءات بشكل كبير”، وهي الخطوة التي جنّبت عملاء النفط الإيراني من العقوبات إذا خفضوا مشترياتهم مع مرور الوقت. ويهدف هذان البندان إلى تقليل حجم العائدات النفطية، التي تشكّل مصدراً رئيسياً للعملة الصعبة، المتاحة لإيران.

وبما أنه سيتمّ تنفيذ كلا الإجراءين في آن واحد، قد يفكر صانعو السياسات [الأمريكيين] بتوفير قدر أكبر من المرونة فيما يتعلق بمتطلبات التخفيض مقابل تقديم التزامات أكثر صرامةً تتمثل بالامتناع عن إعادة العائدات الإيرانية. وقد يعني القيام بذلك أن يتم الاحتفاظ بالأموال في البلاد التي يصدَّر إليها النفط، ولا يمكن استخدامها إلا في ذلك البلد. وقد يدفع ذلك بدول مثل تركيا والهند إلى الامتثال للالتزامات بناءً على الفوائد التي قد تعود على ميزانها التجاري، نظراً إلى الميزة التي قد  يمنحها هذا الترتيب على صادراتها إلى إيران.

بالإضافة إلى ذلك، تتمتع إدارة ترامب بقدر كبير من المرونة في تحديد ما يشكّل “تخفيضاً كبيراً” في واردات النفط من إيران. وعلى الرغم من أن الحكمة التقليدية السائدة تُشير إلى أن هناك حاجة إلى تخفيض بنسبة 20 في المائة للتأهل للحصول على إعفاء من العقوبات، إلّا أن هذا الرقم تقريبي فقط، ويعزى إلى تعليق واحد أدلى به “مسؤول بارز في وزارة الخارجية الأمريكية” في آذار/مارس 2012 في إطار إحاطة صحفية حول تخفيض اليابان واردات النفط الإيراني. وفي حديث مع مراسل صحيفة “وول ستريت جورنال” في بروكسل الأسبوع الماضي، رفض نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي أندرو بيك ذكر أرقام محددة، قائلاً إن التخفيض المطلوب “يجب أن يكون كبيراً، لكنه من المحتمل أن يختلف من بلد إلى آخر”.

وتشرف وزارة الخارجية الأمريكية على الإعفاء الخاص بـ “التخفيض الملحوظ” ويُسمح لها بموجب القانون أخذ عدد من العوامل في الاعتبار عند اتخاذ قرار بشأن ما إذا كان سيتمّ إعفاء دولة ما، بما في ذلك خفض كمية النفط الذي تشتريه من إيران ونسبته، وفسخ عقود عمليات التسليم المستقبلية للخام الإيراني، و”إجراءات أخرى تثبت التزاماً بتقليص هذه المشتريات إلى حد كبير”. ووفقاً لبيانات تعقب الشحنات التي جمعها موقع “بلومبرغ”، انخفضت صادرات النفط الإيرانية بشكل حاد في النصف الأول من حزيران/يونيو، والتي وصفها الموقع بأنها الأكبر لمثل هذه الفترة منذ كانون الأول/ديسمبر 2016.

لا توجد عصاً سحرية

هناك إجراء آخر من المزمع إعادة العمل به خلال تشرين الثاني/نوفمبر وهو فرض عقوبات على توفير خدمات الرسائل المالية المتخصصة إلى “البنك المركزي الإيراني” ومصارف أخرى مُدرجة [على لائحة العقوبات]. ومع ذلك، فإن منع الوصول إلى المزود الرئيسي لهذه الخدمات – وهي “جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك” (“سويفت”) – ليس ضرورياً أو حتى كافياً للحدّ من نفاذ إيران إلى النظام المالي العالمي.

وخلال الفترة التي سبقت تطبيق «خطة العمل الشاملة المشتركة»، جمع عدد كبير من المحللين بين إعادة النفاذ الإيراني إلى “سويفت” وإعادة النفاذ الإيراني إلى المصارف الأجنبية. وقد رفضت معظم هذه البنوك ترميم العلاقات مع المصارف الإيرانية رغم تجدد نفاذها إلى “سويفت”. وعلى نحو مماثل، توقف العديد من المؤسسات الأجنبية عن التعامل مع المصارف الإيرانية حتى قبل منع هذه الأخيرة من [استعمال شبكة] “سويفت” في عام 2012. وقد تراجع استخدام إيران لنظام “سويفت” بأكثر من 30 في المائة بين عامَي 2006 و 2012 (السنوات الوحيدة التي تُوفر فيها المنظمة مثل هذه البيانات)، وهو انخفاض كبير خلال فترة شهدت نمو الحجم العالمي الإجمالي لمعاملات “سويفت” بنحو 40 في المائة. وشمل هذا التراجع الذي سجلته إيران انخفاضاً بنسبة 22 بالمائة في عام 2008 – وهو العام نفسه الذي مُنعت فيه البلاد من استخدام “معاملات المرور العابر للأموال” (U-turn transactions) المقوّمة بالدولار، أي بعد مرور فترة وجيزة على دعوة الأمم المتحدة إلى “توخي الحذر” في التعامل مع المصارف الإيرانية في إطار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1803.

ومنذ أن أعلنت الولايات المتحدة انسحابها من «خطة العمل الشاملة المشتركة» في أيار/مايو، أفادت عدة مصارف أجنبية كانت قد استأنفت علاقاتها مع إيران بأنها ستخفض حجم أعمالها، من بينها مؤسسات مالية كبرى مثل “كاي بي سي” (KBC)  البلجيكية و”مصرف التجارة والاستثمارات” (BCP) السويسري و”بنك دي زي” (DZ Bank) الألماني، فضلاً عن مصارف أصغر حجماً وأقل تعرضاً للولايات المتحدة (على سبيل المثال، “أوبر بنك” النمساوي). وليس هناك شك في أن النفاذ إلى [شبكة] “سويفت” يجعل من السهل إجراء معاملات عبر الحدود وتبادل العملة الأجنبية، لكن المؤسسات المالية تملك وسائل أخرى لتبادل الرسائل المتعلقة بالمعاملات. وبالتالي، قد يكون للمساعي الرامية إلى تقليص المعاملات مع إيران في الوقت الحالي أثر محدود فقط، كما قد تترتب عليها بعض السلبيات.

أولاً، إن فرض عقوبات على نظام “سويفت” من المرجح أن يثقل كاهل المصارف الأمريكية بقدر [ما يُرهق] المصارف الإيرانية، نظراً لأنها ستجد صعوبةً في استخدام خدمة [هذا النظام] إذا تمت إضافته إلى لائحة العقوبات. كما أن بعض المعاملات المتعلقة بالأدوية والأجهزة الطبية والسلع الزراعية ستبقى مسموحةً حتى بعد إعادة فرض العقوبات النووية. ومن مصلحة الولايات المتحدة السماح لهذه المعاملات، إن لم يكن تسهيلها.

وبدلاً من افتعال نزاع مع أوروبا بشأن “سويفت”، أمام الحكومة الأمريكية سبل أقل إثارةً للجدل لمواجهة السلوك الإيراني غير المشروع. ففي خطاب أدلت به وكيلة وزارة الخزانة الأمريكية سيغال ماندلكر في 5 حزيران/يونيو، أدانت القطاع المصرفي الإيراني، بما فيه “البنك المركزي”، بإشارتها إلى “جهوده المنهجية لتقويض النظام المالي الدولي”. وفي هذا السياق، يجب على واشنطن ألا تُحذّر المصارف من أن مزاولة الأعمال مع إيران قد تجعلها شريكةً في نشاط غير شرعي فحسب، بل عليها أن تحث شركائها أيضاً على تطبيق أفضل للعقوبات التي لم تخففها «خطة العمل الشاملة المشتركة». وعلى وجه الخصوص، إن العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على سوريا يمكن تطبيقها أيضاً على “البنك الإيراني لتنمية الصادرات” – وهي المؤسسة التي استخدمتها طهران، وفقاً لبعض التقارير، لمنح ائتمانات إلى نظام الأسد عبر العديد من المصارف السورية المملوكة للدولة، بما فيها مصرف واحد على الأقل مدرج على لائحة العقوبات الحالية للاتحاد الأوروبي.

ويمكن لهذه الإجراءات وغيرها أن تمكّن “سويفت” من فك ارتباطها بالمصارف الإيرانية التي تتجاهل السلطة الدولية باعتبارها مسألة “ملزمة من الناحية التنظيمية”. وعلى وجه الخصوص، لم يتمكن “بنك صادرات إيران” من إعادة الارتباط بنظام “سويفت”، وفقاً لصحيفة “فاينانشال تريبيون” الإيرانية اليومية. فقد تمّ حذف “بنك صادرات إيران” من لوائح عقوبات الاتحاد الأوروبي في تشرين الأول/أكتوبر 2016، على الرغم من كونه أحد المصارف الإيرانية الثلاثة التي كانت لتبقى ضمن هذه اللوائح بعد تطبيق الاتفاق النووي. ومع ذلك، لا تزال العقوبات الثانوية ساريةً على المصرف لأن الولايات المتحدة فرضت عليه عقوبات في إطار صلاحيات مكافحة الإرهاب.

النظر في التهرب

ستبحث إيران من دون شك عن فرص للتهرب في ظل ضغوط العقوبات الجديدة. فلأكثر من 30 عاماً، استحدث النظام والمؤسسات الفردية وسائل متطورة للالتفاف على العقوبات الأمريكية والمتعددة الأطراف المتباينة الشدة، وواصلت على ما يبدو استخدام هذه الشبكات خلال فترة الإعفاء من العقوبات. ومن هذا المنطلق، واجهت الشركات الإيرانية موقفاً لا مفرّ منه. فقد شعرت أنها لا تستطيع الإفلات بشكل كامل من شبكات التهرب طالما أنها غير قادرة على إقامة علاقات مع المصارف العالمية، ومع ذلك، كان هذا السلوك المخادع هو الذي جعل المصارف تحجم عن استئناف العمل معها في المقام الأول.

فعلى سبيل المثال، في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، تمّ تجميد حسابات الشركات الإيرانية في الصين ودبي وماليزيا بعد أن تمّ اكتشاف أمر شركات البتروكيماويات التي كانت تزوّر سندات الشحن لتخفي الأصل الإيراني للسلع من أجل تأمين التمويل التجاري. وفي هذا السياق، أوضح مسؤول إيراني في قطاع البتروكيماويات للصحافة المحلية أنه “لا يزال يتحتم علينا تحويل أموالنا عبر وسائل استخدمناها خلال فترة العقوبات”. ورداً على ذلك، عززت الصين تطبيق القيود على مصارفها استعداداً للتقييم الذي تجريه “فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية” (“فاتف”) [التي هي هيئة المراقبة المالية الدولية] في منتصف عام 2018.

إلا أنه في هذه المرة، قد تكون الوسائل التقليدية الإيرانية للتهرب أقل ملاءمة. وفي هذا الصدد، يمكن التطرق إلى العمل المشترك بين الهيئات التنظيمية في دولة الإمارات ووزارة الخزانة الأمريكية في الشهر الماضي لوقف عمل شبكة «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني التي كانت تستغل مكاتب الصيرفة في الإمارات لتوفير الدولار الأمريكي لجماعات وكيلة إقليمية. وقد يكون القطاع المالي التركي أقل ملاءمةً أيضاً بعد أن حُكِم على مسؤول مصرفي تركي بارز الشهر الماضي بالسجن لمدة إثنين وثلاثين شهراً في أحد السجون الأمريكية. فوفقاً لوكالات إنفاذ القانون الأمريكية كان المسؤول التنفيذي في “بنك خلق” حقان عطا الله متورطاً في مخطط تهرب إيراني يهدف إلى تبييض “عائدات النفط الإيراني بقيمة مليارات الدولارات، مما أدى في النهاية إلى توافر أموال سرية تستخدمها إيران كما ترغب”.

مشاكل على صعيد الموارد

منذ إعلان الحكومة الأمريكية انسحابها من «خطة العمل الشاملة المشتركة»، أطلقت سبع مجموعات من العقوبات الجديدة التي تستهدف النشاط الإيراني غير النووي المحظور. ومن الواضح إذاً أن الإدارة الأمريكية ستواصل التركيز على سلوك إيران المزعزع للاستقرار في المنطقة، وجهودها لتطوير الصواريخ وانتشارها، وانتهاكاتها لحقوق الإنسان، ودعمها للإرهاب، وغير ذلك من السلوكيات المؤذية الأخرى، حتى في ظل قيام الإدارة الأمريكية بإعادة فرض العقوبات النووية.

وقد استغرق إعداد معظم الإجراءات الأخيرة، إن لم نقل جميعها، عدة أشهر. وبناء على ذلك، سيتعين على فريقي العقوبات في وزارتي الخزانة والخارجية الأمريكيتين موازنة جهودهما لتجديد قائمة الإجراءات الإضافية مع صياغة أنظمة جديدة، والإجابة على الأسئلة المتكررة، وتطوير الأساس الجوهري لإعادة إدراج بعض من الـ 200 هيئة التي تمّ إعفاؤها من العقوبات بموجب «خطة العمل الشاملة المشتركة». ومن خلال القيام بذلك، يجدر بهما منح الأولوية للإجراءات التي سيكون لها الأثر الأكبر مع إظهار رغبة في التوصل إلى حل وسط حول تلك التي ستؤثر بشكل هامشي فقط على نفاذ إيران إلى الخدمات المالية وعوائد النفط. ومن شأن هذه المقاربة أن تؤدي إلى زيادة الموارد المحدودة للحكومة الأمريكية إلى أقصى حد ممكن، مع عرضها في الوقت نفسه غصن الزيتون [أي توفيرها الفرصة المنتظرة للتوافق] إلى الشركاء في أوروبا وأماكن أخرى، مما يعزز احتمال تقديمهم المساعدة لواشنطن للفت الانتباه إلى الانتهاكات الإيرانية الفاضحة جداً للمعايير الدولية.