بروكسل – جاءت اجتماعات الأربعاء والخميس في بروكسل امتدادا لتك الصورة الشهيرة التي تداولها الإعلام غداة قمة مجموعة السبع، في لا مالابيه الكندية، وفيها يظهر الرئيس الأميركي، كالطفل العنيد بيديه المكتوفتين ونظرات التحدي والتمرد في عينيه، وتقابله أنجيلا ميركل بيديها الممدودتين على الطاولة وكأنها كانت تضرب عليها في تحد مماثل وبجانبها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحولهم رؤساء ومستشارون للدول السبع.
لم تظهر صورة مماثلة في ختام قمة الناتو، لكن الأجواء والتصريحات تشي بتوتر مماثل، خصوصا عند مناقشة قضية الإنفاق الدفاعي. ونقلت تقارير صحافية عن مصادر مطلعة أن الرئيس الأميركي هاجم مجددا شركاءه في ما يتعلق بالإنفاق والممارسات التجارية الأوروبية خلال جلسة مغلقة، اقتصرت على الحلفاء فقط، فيما طلب من الدول غير الأعضاء مثل أوكرانيا وجورجيا مغادرة القاعة، فيما كان شبح قمة هلسنكي بين دونالد ترامب ونظيره الروسي فلادمير بوتين حاضر بقوة، سواء في أسئلة الصحافة لترامب أو خلال النقاشات وفي تصريحات الرئيس الأميركي، الذي قال إن لقاءه ببوتين سيكون أسهل لقاء له خلال جولته الأوروبية، التي كانت محطتها الأولى بروكسيل، ومنها سافر الخميس إلى بريطانيا.
أزمة الإنفاق الدفاعي
حذر ترامب الحلفاء في الناتو من أن بلاده ستتولى شؤونها الدفاعية بمفردها إذا لم تعزز الدول الأعضاء إنفاقها الدفاعي. وسبق أن كشف ترامب، قبل وصوله إلى بروكسل، أنه سيطرح بقوة مسألة الإنفاق الدفاعي وسيطلب من الحلفاء أن “يدفعوا فواتيرهم”. وغرد ترامب وهو في طريقه إلى بروكسل قائلا إن “الولايات المتحدة تنفق على الناتو أكثر بكثير من أي دولة أخرى… هذا ليس عادلا أو مقبولا”، منتقدا مجددا ما اعتبره نفقات ضئيلة للغاية من جانب ألمانيا على الدفاع.
الرئيس الفرنسي يؤكد أن بلاده ستلبي الهدف المتفق عليه في حلف شمال الأطلسي بزيادة الإنفاق الدفاعي ليصبح 2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2024
وأضاف في تغريدة عقب الجولة الأولى من المحادثات في بروكسل، مغردا بأن “الولايات المتحدة تدفع ثمن الحماية الأوروبية، ثم تخسر المليارات في التجارة.
وألحقها بتغريدة أخرى في ذات السياق جاء فيها “تنفق دول حلف شمال الأطلسي المليارات من الدولارات الإضافية منذ زيارتي العام الماضي، بناء على طلبي، لكن هذا تقريبا لا يكفي. الولايات المتحدة تنفق مبالغ باهظة”.
لكن عاد ترامب ليقول بعد ذلك إن التزام الولايات المتحدة بحلف الناتو “لا يزال قويا للغاية”، وأعرب عن “سعادته البالغة بتعهد دول حلف شمال الأطلسي بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى مستويات غير مسبوقة”.
وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إثر جلسة طارئة لمناقشة الخلاف بين الأميركيين والأوروبيين في شأن الإنفاق العسكري، أن الدول الأعضاء بالناتو ”تعهدت بزيادة إنفاقها” وفقا لاتفاق تم التوصل إليه عام 2014، وقال ”لقد اتفقنا على استراتيجية موثوق بها تتعلق بالموازنة تفي باحتياجاتنا“.وقال ماكرون إن فرنسا ستلبي الهدف المتفق عليه في حلف شمال الأطلسي بزيادة الإنفاق الدفاعي ليصبح 2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2024 وإن التماسك داخل الحلف لن يكون ممكنا إلا إذا تم تقاسم العبء بشكل “منصف”.
وأعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن على ألمانيا بذل المزيد في ما يتعلق بالإنفاق الدفاعي. وقالت ميركل للصحافيين “عقدنا قمة مكثفة جدا”، مضيفة أن ترامب طالب بتغيير في تقسيم العبء داخل التحالف، لكن في النهاية قدم كل طرف التزاما واضحا تجاه الحلف.
وقالت ردا على سؤال عما إذا كانت ستزيد مرة ثانية من تعهدها الحالي ببلوغ نفقات الدفاع 1.5 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي حتى عام 2024 “سيتعين علينا التحدث حول إلى أي مدى سنقدم المزيد في العتاد؛ أقول بوضوح العتاد وليس التسلح”.
وفي موقف يكشف إلى أي مدى وصل الانقسام بين الحلفاء في الناتو، أعلنت شبكة سي إن إن الإخبارية، أن الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي “لم تتفق على مقترح للرئيس الأميركي دونالد ترامب، بزيادة حجم مساهمتها في ميزانية الحلف”.
ونقلت الشبكة الأميركية، عن مصدر دبلوماسي رفيع في حلف الناتو (لم تسمه)، أنه تم بالفعل مناقشة مسألة تقاسم الأعباء المالية للحلف، لكن قادة الناتو لم يتفقوا مع ترامب، بشأن زيادة حجم مساهمة دولهم في ميزانية الحلف من 2 بالمائة إلى 4 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة.
وفي السياق، تفادى الأمين العام للناتو، ينس ستولتنبرغ، تأكيد أو نفي موافقة الدول الأعضاء على زيادة مساهمتها في الحلف لتصل إلى النسبة التي يطالب بها الرئيس الأميركي. وأجاب ستولتنبرغ، عن سؤال رفع الإنفاق، في حوار أجراه مع شبكة سي إن إن ، بالقول “توصلنا إلى استنتاجات ما يعني أن القمة كانت جيدة، ونحن متحدون الآن أكثر مما كنا عليه قبل القمة”.
عقيدة أميركية متجددة
منذ حملته الانتخابية، تضمنت لغة حوارات وخطابات الرئيس الأميركي تشويها لصورة حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، حلفاء الولايات المتحدة منذ فترة طويلة، مقابل مدحه الدائم لحكام يعتبرهم الأوروبيون دكتاتوريين مثل زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي سيلتقي به في هلسنكي في 16 يوليو في قمة ستكشف الكثير عما سيكون عليه شكل النظام العالمي في المرحلة القادمة بناء على الاتفاقات التي ستعقد بين بوتين وترامب وما ستطرحه من ملفات وحلول لها، من سوريا إلى أوكرانيا وإيران.
أدت اللغة غير المسبوقة من قبل رئيس أميركي تجاه الحلفاء إلى شعورهم بالغضب، كما أثارت جدلا حول مستقبل المعسكر الغربي ومدى تماسكه، طالما ظل ترامب في البيت الأبيض. وقد سعى المسؤولون الأميركيون والأوروبيون إلى التقليل من أهمية تصرفات ترامب، مصرين على أن الأوتار التي تربط بين التحالف الأطلسي قوية ومتينة، ومشيرين إلى أن فترة رئاسة ترامب مؤقتة وسيذهب في يوم من الأيام بينما ستبقى المؤسسات الأمنية المتشابكة في الغرب وقيمها المشتركة.
ومع ذلك، بدأ بعض القادة الغربيين والمسؤولين الكبار يتساءلون عما إذا كان هذا التقييم لا يزال صالحا فعلا، لا سيما وأنهم يشيرون إلى أن ترامب لا يصيح في الفراغ، وأن السياسات الأميركية لم تكن يوما رهينة مزاج الرئيس وتوجهاته، حتى وإن كان شخصا مثل دونالد ترامب.
ويؤشر هؤلاء على وجود البعض من أفراد إدارة الرئيس السابق باراك أوباما ضمن فريق إدارة ترامب، رغم تصريحات الأخير المنتقدة لأوباما وسياساته. كما أن توجهات الإدارة الأميركية التي وإن بدت معاكسة تمام لتوجهات سابقتها في بعض الملفات مثل إيران، والعلاقات مع الحفاء التقليديين، الأوربيين كما العرب، إلا أن هناك نقاط تشابك والتقاء كثيرة كالدور الأميركي في سوريا والتوجه نحو آسيا والحرب مع الصين.
ويرى محلل الشؤون الخارجية في صحيفة الغادريان، جوليان بورغر، أن ترامب الذي فاز في انتخابات عام 2016 حافظ على نسبة تأييد بلغت 90 بالمئة بين الجمهوريين، لأنه استغل انعكاسا عميقا في السياسة الأميركية.
في هذه الحالة، يمكن القول إن ترامب ربما ليس استثناء، ولكن الاستثناء في الناتو. وينقل بورغر عن مسؤول أوروبي بارز “ما هو ظاهر الآن هو المشكلة الحقيقية التي لم يتسبب الرئيس الأميركي الحالي في حدوثها ولن تختفي في نهاية فترة رئاسته. إن العلاقة عبر الأطلسي التي يعتبرها جميعنا شيئا مسلّما به، لم تعد كذلك”.
مسؤولون أميركيون وأوروبيون قللوا من أهمية تصريحات ترامب مشيرين إلى أنه سيذهب يوما ما بينما ستبقى المؤسسات الأمنية المتشابكة في الغرب وقيمها المشتركة
لقد كانت العلامات، بحسب قول المسؤول الأوروبي، موجودة بالفعل في عهد إدارة باراك أوباما، فقد سعى أوباما أيضا إلى إعادة توجيه تركيز السياسة الخارجية الأميركية من أوروبا وباتجاه القارة الآسيوية، لكنه فقط لم يعرب عن تعبيره عن فك الارتباط بهذا الشكل الفاضح والفظ مثلما يفعل ترامب.
وقال المسؤول “معظم الأوروبيين يحلمون بأنه بعد فترة ترامب سنعود إلى ممارسة أعمالنا كالمعتاد، لكن لا أعتقد أن ذلك لن يحدث”. وأضاف المسؤول قائلا “بالنسبة للأوروبيين، تعتبر هذه دعوة لإيقاظهم ولا سيما بعد رؤيتهم لعالمهم وهو ينهار أمامهم”.
ويربط جوليان بورغر بين الحاضر والماضي في سياق تحليل التوجهات الأميركية الراهنة، مشيرا إلى أنه على مدار تاريخ الولايات المتحدة، سعى رؤساؤها إلى تجنب التدخل والتشابك مع أوروبا، ونجحوا في فعل ذلك بعد إعلان استقلالها في عام 1776 حتى عام 1917 وحين اضطروا إلى المشاركة في الحرب العالمية الأولى.
وحتى في ذلك الوقت، كان معظم الأميركيين حريصين على فك الروابط بين الولايات المتحدة وأوروبا، ولا سيما بعدما أدار الكونغرس ظهره للمثل الدولية للرئيس الأميركي آنذاك، وودرو ويلسون، ورفض التصديق على معاهدة سلام فرساي أو السماح للولايات المتحدة بالانضمام إلى عصبة الأمم الجديدة.
ثم قاوم الكونغرس بشدة التدخل الأميركي في الحرب العالمية الثانية، وكان بإمكان الولايات المتحدة أن تظل على الهامش لو لم تهاجم اليابان ميناء بيرل هاربور في عام 1941، ثم أعلنت ألمانيا الحرب على الولايات المتحدة بعد أربعة أيام فقط.
وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية في عام 1945، فكر الأميركيون مرة أخرى بالانسحاب وقاموا بتسريح حوالي 90 بالمئة من قواتهم. لكن على مدى العامين المقبلين أصبح من الواضح بشكل متزايد أن الدول الأوروبية لن تتعافى اقتصاديا دون مساعدة الولايات المتحدة وأن الاتحاد السوفييتي في عهد جوزيف ستالين يلوح في الأفق باعتباره تهديدا عالميا. لذا بقيت الولايات المتحدة في أوروبا، وقامت بإعادة بناء ألمانيا، وتشكيل حلف الناتو.
ويرى المؤرخ الأميركي، والتر راسل ميد أن ترامب ومؤيديه ليسوا إلا انعكاسا لمدرسة سابقة للسياسة الخارجية الأميركية، يجسدها أندرو جاكسون، الذي يُعتقد بأنه كان أول رئيس شعبوي في البلاد. لا يرى الجاكسونيون الجمهورية كمجموعة من المثل العليا، وإنما كدولة الأميركيين ذوي البشرة البيضاء. وتركز السياسة الخارجية لجاكسون على الدفاع عن تلك الدولة القومية ضد التأثيرات الخبيثة والدوافع العالمية لطبقات النخب، وهو تقريبا ما يتبناه ترامب اليوم وهو يرفع شعار “أميركا أولا”.
ويذكر جوليان بورغر أن ترامب، وفي غضون أيام من تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة في يناير 2017، علق صورة جاكسون، المعروفة باسم “القاتل الهندي” بسبب حملاته الوحشية ضد الأميركيين الأصليين، في المكتب البيضاوي.
لا يجادل ميد بأن انتصار ترامب الانتخابي واستعداده لإعادة صياغة مبادئ السياسة الخارجية الأميركية يعنيان أن تفكير جاكسون هو المهيمن الآن. لكن يقول دان دريزنر، أستاذ السياسة الدولية بجامعة تافتس بالولايات المتحدة، إن ما يوحد الولايات المتحدة وأوروبا في العالم الحديث سيثبت في النهاية أنه أقوى بكثير من تأثير ترامب ورغبته في تقسيم هذه الوحدة.
وأضاف دريزنر “تعتبر أوروبا والولايات المتحدة الدعامتين الرئيسيتين من أجل إرساء الديمقراطيات الليبرالية. هذه هي القارات والدول والمؤسسات التي تجمعها الكثير من القواسم المشتركة أكثر مما هي عليه الآن. إن الفكرة القائلة إن حلف الناتو معرض للانقسام، أمر سخيف حقا”.
قمة هلنسكي
مرت قمة حلف شمال الأطلسي بسلام، فيما يتطلع الأوروبيون إلى ما سينتج عن قمة هلنسكي الثنائية بين ترامب وبوتين، والتي سيكون من بين موضعاتها ملف ضم روسيا لشبه جزيرة القرم ورفض ترامب في تعليقات بعد قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) استبعاد احتمالية اعتراف الولايات المتحدة بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، الذي أثار موجة غضب واسعة النطاق ودفع دولا أوروبية إلى فرض عقوبات. وأضاف “ما سوف يحدث مع القرم من هذه اللحظة، لا أستطيع أن أقوله”، موضحا “ولكني غير سعيد بشأن القرم”.
ويقول المراقبون إن رفض ترامب إعادة تأكيد الموقف الأميركي المعارض لتدخل روسيا في أوكرانيا، سيتسبب في استياء الحلفاء الأوروبيين. وسيكون القبول بعدم إعادة القرم إلى السيادة الأوكرانية تنازلا كبيرا لروسيا، التي تتعرض لعقوبات تجارية دولية مرهقة بسبب ذلك.
وقال ترامب إنه سوف يناقش مع بوتين التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية التي أجريت عام 2016، بالإضافة إلى الصراعات في سوريا وأوكرانيا.
وأضاف “أتمنى أن نتفق، ولكن في النهاية هو منافس، شخص ما كان يسأل: هل هو عدو؟ هو ليس عدوا. هل هو صديق؟ لا، لا أعرفه بصورة كافية”. وأوضح “أتمنى يوما ما، ربما، أن يصبح صديقا”.
العرب