شذى خليل*
ترجع الاطماع الفارسية في العراق إلى زمن البابليين ، وربما أبعد ، حيث هاجم الفرس للمرة الأولى بلاد وادي الرافدين ، واحتلوا مدينة بابل عام (539) قبل الميلاد ، في عهد الإمبراطور الفارسي “كورش” ومنذ ذلك التاريخ والمحاولات الفارسية/الإيرانية للسيطرة على العراق وابتلاعه لم تتوقف .
ففي العصور القديمة ، اتسمت الطموحات الفارسية بطابعها الإمبراطوري ، وأخذت منهجية عقائدية ، لا تخفيها الزعامات الإيرانية بعد دخول الإيرانيين في الإسلام عام (637م) ، وتبلور هذا الاتجاه بصورة أكثر وضوحا ، بعد أن تسلم الحكم في إيران “إسماعيل الصفوي” عام (1510م) ، واتخاذه قرار “تشييع” الشعب الإيراني ، وحرص هو ومن جاء بعده ، على تكريس هذا التوجه في الحكم بين الإيرانيين أولا ، ومن ثم الانتقال به إلى العراق ، بحكم الجوار الجغرافي من ناحية ، وتداخل القبائل والعشائر القريبة من الحدود بين العراق وإيران التي تمتد لمسافة (1350 كم) من جهة أخرى .
واكد السفير العراقي لدى إيران قبل الغزو الأميركي للعراق “عبد الستار الراوي” أن التمثيل الدبلوماسي الرسمي بين العراق وإيران قد بدأ فعلاً منذ العام (1848م) في أعقاب معاهدة “أرض روم الثانية” ، مؤكداً أن إيران كنت الدولة الوحيدة التي امتنعت عن الاعتراف بالعراق عندما تأسست كدولة – المملكة العراقية – في العام (1921م) ، واستمرت إيران في موقفها الرافض هذا قرابة تسع سنوات قبل أن تعترف بالعراق كدولة في العام (1929م) ، وعلى إثر ذلك تأسست أول قنصلية إيرانية في بغـداد .
وفي فبراير/ شباط (1915م) ، وضمن الاتفاقيات الدولية المتعددة لتقاسم العالم بين القوى العالمية البارزة ، قدمت الحكومة الإيرانية من ضمن الشروط التي قدمتها للجانب الروسي الشرط الخامس الذي نص على “تقديم مقترح إلى بريطانيا من خلال روسيا على شكل عقد أسموه بـ”اتفاقية شكلية” بين إيران وإنجلترا تتنازل بموجبه الأخيرة – بريطانيا – عن منطقة بغداد والمدن المقدسة بها لإيران” .
والمقصود بمنطقة بغداد والمدن المقدسة بها – والمشار إليها آنفاً – من الناحية الجغرافية ، المساحة الجغرافية الممتدة من سامراء الواقعة على بعد حوالي مئة كيلو متر شمال بغداد ، نزولاً إلى محافظتي كربلاء والنجف ، مروراً بمدينة الكاظمية المحاذية لبغداد ، وانتهاءا بالمناطق الإدارية التابعة لبغداد آنذاك ، مما يعني قضم قلب العراق وضمّه لإيران.
وبعد العام (1929م) نشط المد الإيراني لبسط نفوذه في العراق ، فبلغ عدد القنصليات الإيرانية في العراق حتى عام (1934م) ثماني قنصليات ، موزعة على ثمان محافظات هي : “بغداد – البصرة – العمارة – كربلاء – ديالى/خانقين – أربيل – السليمانية – الموصل” .
وبذات الشأن ، يذكر الدكتور “حافظ عواد خلف العزاوي” في كتابه “النفوذ الاستراتيجي الإيراني في العراق” ، عن محاولات إيران المتكررة والمستميتة للسيطرة على العراق ، منذ العام (1915م) ، ويذكر اللعبة الإيرانية الروسية بخصوص الأطماع الفارسية في العراق ، ويشير إلى أن اهتمام الروس بالعراق وعتباته الدينية المقدسة ، ازداد أكثر وبرز بصورٍ جلية خلال عامي (1915-1916م) وذلك في إطار الضغوط التي مارسها الحلفاء من أجل إبعاد إيران عن ألمانيا والدولة العثمانية ، واستجابة لمناورات الحكومة الإيرانية الرامية لاستغلال ظروف الحرب لتحقيق مكاسبها التوسعية الخاصة على حساب الآخرين ، وفي مقدمتهم العراق .
وأضاف العزاوي، بان أطماع إيران لم تتوقف عند هذه الحدود ، بل رفعت من سقف مطالبها التي ضمنتها ورقتها المقدمة إلى مؤتمر الصلح بباريس عام (1919م) بعد انتهاء الحرب الأولى ، لتشمل هذه المرة الموصل في شمالي العراق .
وفي الثالث من تشرين الأول/أكتوبر من عام (1932م) وبعد اعتراف بريطانيا وأغلب دول العالم بالعراق كدولة مستقلة ، وعلى مضض اعترفت إيران باستقلالية العراق كدولة ذات سيادة ، وانضم العراق إلى عصبة الأمم المتحدة تبعاً لتلك المتغيرات ، ليباشر بعدها ملك العراق “فيصل الأول” بترميم العلاقات مع إيران ، الدولة الجارة التي طالما تحسست السلطة الحاكمة في العراق ، عمق أطماعها ، ولؤم تدخلاتها السافرة في الشؤون الداخلية والخارجية للعراق ، فبادر العراق إلى عقده مع إيران ميثاق “سعد آباد” ضمن معاهدة ثلاثية ضمت إلى جانب العراق كل من إيران وأفغانستان .
إلى أن شهية إيران التي لا زالت مفتوحة تجاه التهام العراق ، أو على الأقل ابتلاع أجزاء منه تشبع بعضاً من شره أطماع إيران في الجارة إيران ، ساهمت في تفاقم الأزمات بين العراق وإيران ، خصوصاً بعد سيطرة الثورة الإيرانية على زمام الحكم في إيران عام (1979م) ، فازداد التحرك الإيراني ليشمل العديد من الدول العربية والإسلامية في مختلف بقاع العالم .
إن الخلاف العراقي الإيراني لم يكن يوماً خلافاً حدودياً / جغرافياً وحسب ، فلو كان كذلك لكانت اتفاقية (1975م) تكفلت بحله ، فبموجبها مُلِّكَتْ إيران ما لا تمتلك ، وبها مُنِحَتْ إيران ما لا تستحق ، إلا أن الخلاف بينهما – أي العراق وإيران- خلافٌ متشعب الأطراف ، ومتعدد الجذور ، وله أبعاد عدة “تاريخية ، دينية ، ديموغرافية ، .. إلخ” .
أن النفوذ الإيراني لم يقتصر على العراق وحسب – وإن نال الحصة الأكبر- بل تجاوز ذلك ليشمل المحيط العربي والأفريقي ، وذهب لأبعد من ذلك ليشمل العديد من دول العالم الإسلامي في مختلف بقاع العالم ، وفي مقدمتها أفغانستان وباكستان والدول الإسلامية الخمسة التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي السابق ، فضلاً عن تحركات إيران الحثيثة لبسط نفوذها في الهند والدول الإسلامية في جنوب شرق آسيا ، وهو ما تبرزه بصورٍ جلية ، الوجود الواضح للجالية الإيرانية في بعض الدول الأوروبية ذات الأغلبية الإسلامية بصفةٍ عامة ، والبوسنة والهرسك بصفةٍ خاصة .
توسع الاطماع الإيرانية في العراق بعد عام 2003:
وفيما يخص توسع الاطماع الإيرانية في العراق بعد عام 2003م ، يشير الدكتور “حافظ عواد خلف العزاوي” في كتابه السابق ذكره ، إلى الفرصة الذهبية التي حصلت عليها إيران ، لبسط نفوذها ، وزيادة هيمنتها على العراق بعد غزوه عام 2003م ، حينما تم تقديم العراق إليها على طبقٍ من ذهب ، ما جعل إيران تدفع وبكل قوتها كل ما من شأنه تثبيت أركان العملية السياسية في العراق ، فلم تتردد الحكومة في طهران في مباركتها لأول شكل حكومي بعد الغزو الأميركي ، والمتمثل بمجلس الحكم الانتقالي الذي شكله الأميركي “بول بريمر” منتصف يوليو/ تموز (2003م) ، على الرغم من الانتقادات الكثيرة ، وعلامات الاستفهام العديدة التي أثارها ذلك الدعم ، بسبب عداء إيران المعلن بالمطلق للولايات المتحدة ، والتي تسميها إيران منذ تولي آية الله الإمام الخميني الحكم فيها في فبراير/ شباط (1979م) ، بـ”الشيطان الأكبر” في تأكيد على معاداتها لها.
ليس هذا وحسب ، فقد حرصت الحكومة الإيرانية على دعم الحكومات المتلاحقة في العراق بعد العام (2003م) ، فضلاً عن دعمها الدستور العراقي الذي تم الاستفتاء عليه في الخامس عشر من تشرين الأول/أكتوبر عام (2005م) ، في الوقت الذي لم يتردد الرئيس الإيراني وتحت حماية القوات الأميركية من زيارة بغداد المحتلة من قبل القوات الأميركية في الثالث من آذار/مارس (2008م) ، ولقاءه المسؤولين الحكوميين في بغداد ، بحجة دعم الأحزاب العراقية الحاكمة والمدعومة من إيران .
كيف استفادت إيران من أوضاع العراق اقتصاديا بعد 2003 .
تعددت صور وأوجه وأشكال استفادة إيران من الأوضاع الاقتصادية للعراق بعد احتلاله عام (2003م) ، ولعل أهمها ما يأتي :
• التبادل التجاري : إذ ارتفع حجم التبادل التجاري الإيراني مع بغداد ، خاصة بعد توقيع الحكومة اتفاقيات تصب في خدمة النشاط الاقتصادي الإيراني فقط ، ففي أيلول/سبتمبر (2014م) عُقد اتفاق خفضت بموجبه بغداد تعرفتها الجمركية أمام السلع الإيرانية لتتراوح بين (صفر و 5%) ، وفي شباط/فبراير (2015م) اتفقت طهران مع بغداد على إلغاء عمليات الرقابة على الصادرات الإيرانية من السلع عند المنافذ الحدودية ، لتيسير حركة التجارة بين البلدين ، ولترتفع بهذه الإجراءات نسبة استيرادات العراق من السلع الإيرانية إلى حوالي (72%) ، ليحتل العراق بهذه النسبة المرتبة الأولى في استيراده لتلك السلع من إيران .
• الهيمنة الإيرانية على قطاع الطاقة : إذ سعت إيران كذلك إلى حضور أكبر في قطاع الطاقة العراقي ، وهو ما صرح به وزير الطاقة الإيراني “حميد شت شيان” في تموز/يوليو (2014م) حين أكد أن إيران تشارك في سبع وعشرين مشروعا لتوليد الكهرباء ، وبقيمة تتجاوز مليار وربع المليار دولار أميركي ، متوقعا استحواذ إيران على نسبة تتراوح بين (5-10%) من المشروعات التنموية في العراق ، التي ستتجاوز تكلفتها الإجمالية (275) مليار دولار حتى عام (2017م) .
• العراق سوق استهلاكي للمنتجات الإيرانية : إذ تحول الاقتصاد العراقي إلى سوق استهلاكي للسلع الإيرانية ، ما أدى إلى اختلال الميزان التجاري العراقي – الايراني ليصب في صالح إيران ، فضلاً عن انحسار التنمية الاقتصادية ، وضعف المنتج الوطني ، وإهمال الزراعة ، وانعدام الصناعة ، وتوقف المشاريع الاقتصادية ، والاتجاه نحو المنتج المستورد عموما ، وهذا كله انعكس بشكل سلبي على الاقتصاد العراقي وتبعيته ، وعلى مجمل مفاصل الدولة العراقية وسياساتها ، وأثر على توفر الدخل اللازم والعيش الكريم للشعب العراقي .
• المنافذ الحدودية : المنافذ الحدودية كانت وسيلة إيران الأولى في إغراق الأسواق العراقية بالسلع الإيرانية ، والسيطرة على التجارة فيها ، حيث أعلن مساعد الشؤون التجارية بدائرة الصناعة والتجارة في محافظة إيلام الإيرانية “جميل شوهاني” عن تصدير بلاده بضائع إلى العراق بقيمةٍ تتجاوز مليار وسبعمئة وخمسين مليون دولاراً عبر منفذ مهران الحدودي خلال عام ألفين وسبعة عشر ، مقارنة بالعام ألفين وستة عشر ، وذلك في إطار هيمنة إيران على الاقتصاد العراقي ، عبر إغراق أسواقه بمنتجات وبضائع إيرانية رديئة ، وهو ما أشار إليه “شوهاني” من ارتفاع حجم الصادرات الإيرانية إلى نحو (78%) مقارنة مع نفس الفترة من العام (2015م) ، وأضاف شوهاني ، أن نصف مليار دولار تقريباً كانت قيمة البضائع التي تم تصديرها من محافظة إيلام الإيرانية فقط إلى العراق ، مما يشير إلى ارتفاع بلغ (4%) عما كان عليه سابقا ، موضحاً أن الصادرات شملت المواد الإنشائية والمنتجات المعدنية والزراعية والبلاستيكية والسيارات وقطع غيار السيارات والمواد البتروكيماوية ، وهو ما أكده أيضاً الملحق التجاري بالسفارة الإيرانية لدى العراق “محمد رضا زاده” حين أعلن من جانبه في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر (2016م) عن أن حجم التبادل بين بلاده والعراق ، بلغ ثلاثة عشر مليار دولار سنويا ، من منها ستة مليارات ومئتي مليون دولار صادرات سلع إيرانية غير نفطية إلى العراق ، وبذلك تضاعفت صادرات إيران إلى العراق بمعدل (17) ضعفاً خلال العقد الأخير ، وذات الأمر على الغزو الاقتصادي الإيراني للعراق ما أكده مدير عام مؤسسة الصناعات اليدوية الإيرانية “بويا محموديان” الذي أعلن عن استيراد العراق أكثر من نصف صادرات الصناعات اليدوية الإيرانية خلال عام (2016م) ، وذلك في سعيٍ حثيثٍ من الحكومة الحالية لدعم اقتصاد إيران المتدهور ، وبسماح إيران أيضا باستغلال المنافذ الحدودية بين البلدين لتهريب المخدرات ، دليل آخر على الغزو الاقتصادي الإيراني للعراق ، فقد ألقت مفرزة من الشرطة العراقية التابعة لمنفذ الشلامجة الحدودي الواقع في قضاء شط العرب القبض على متهم من سكنة محافظة النجف ، يقوم بتهريب المخدرات خلال دخوله العراق قادماً من إيران ، وهي حوادث تتكرر بكثرة ، ما أدى إلى نشاط تجارة المخدرات داخل العراق والقادمة من إيران .
• الشركات والمصارف : إيران تسيطر أيضا على الشركات والمصارف المالية العراقية ، فقد أكدت تقارير صحفية أن أكثر من (60%) من أسهم الشركات والمصارف العراقية تعود لإيرانيين ، وأنهم هم من يتحكمون في الأسواق المالية العراقية ، والهدف الرئيس لإيران يتمثل في نهب ثروات العراق ، وزيادة النفوذ الإيراني فيه ، وإضعافه ، وإدخاله في دوامة اقتصادية يصعب خروجه منها ، كل هذا وغيره جعل المواطن العراقي يتسائل عن متى وكيف سيتخلصون من هذا التوغل الإيراني السافر بحق العراق والعراقيين ؟!
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية