ساحة المعركة القادمة مع “الارهاب”: القتال ضد “داعش” ينتقل إلى أفريقيا

ساحة المعركة القادمة مع “الارهاب”: القتال ضد “داعش” ينتقل إلى أفريقيا

بشعرهما المضفور بإحكام، تنام الطفلتان الصغيرتان متعاكستان، رأس كل منهما عند أقدام الأخرى، في فساتين زهرية متطابقة بإطارات مذهبة –وهو مشهد يُبهج القلب، لولا الضمادات البيضاء المفزعة الملتفة حول أذرعهما وسيقانهما. وتفيض الأسرة في هذا الجناح من العيادة بالمرضى الذين تشير جذوع أطرافهم المستديرة المبتورة نحو السقف. وتتعلق علامات مرمَّزة بالألوان على الأبواب لتصنيف الإصابات: الأحمر للحالات الأكثر إلحاحاً وحاجة إلى العناية؛ والأسود لتلك التي تجاوزت إمكانية المساعدة. وتشهد هذه العلامات على فعالية الجراحين من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي اكتسبوها من التعامل مع السيل الذي لا ينضب من ضحايا القنابل والطلقات. وربما تكون عيادتهم هي الشيء الوحيد الذي يعمل بشكل جيد في مايدوغوري.
تقع المدينة النيجيرية الشمالية الشرقية الرئيسية في مركز سلسلة من الحملات الجهادية، التي تمتد في حزامين عريضين عبر إفريقيا على كل من جانبي منطقة الصحارى. ويحتضن الحزام الشمالي ساحل المتوسط، من مصر، وعبر ليبيا وتونس، وإلى الجزائر. ويمتد الحزام الجنوبي من الصومال إلى كينيا في الشرق، وإلى الشرق عبر نيجيريا والنيجر وإلى مالي، ثم إلى بوركينا فاسو والسنغال في الغرب. وتفصل هذه المسافات الشاسعة بين ساحات قتال مختلفة، بحيث تكون داكار في السنغال، قريبة من ميامي بقدر قربها من مقديشو في الصومال.
بالكاد يحظى الكثير من هذا الصراع بتغطية إعلامية، حتى مع أنه حصد في العام الماضي أرواح أكثر من 10.000 شخص، كلهم تقريبا من المدنيين. كما أنه يتضمن أيضا معركة ضد ما يصفها الجنرال مارك هيكس، قائد القوات الخاصة الأميركية في أفريقيا، بأنها “ربما أكبر مجموعة تملك بطاقة” من أعضاء تنظيم “داعش” خارج العراق وسورية. وقد جرّت هذه الحرب إليها قوات من أميركا، وفرنسا، وبريطانيا وألمانيا، وهي تجذب بقايا “داعش” أيضاً.
الحرب تنتشر
على نحو مقلِق، تبدو هذه حربا يكسبها الجهاديون. ويدعي الجنرال برونو غويبيرت، الذي يقود جهود قوات مكافحة الإرهاب الفرنسية في المنطقة، “عملية بارخان”، والتي يشارك فيها نحو 4.500 جندي، بأن حملته تحرز تقدماً كبيراً: “لا أستطيع أن أقول أن الوضع يصبح أسوأ، بل إنه يصبح أفضل في الحقيقة”. ومع ذلك، تقترح الإحصائيات خلاف ذلك: فقد ازداد عدد الحوادث العنيفة التي تتورط فيها المجموعات الإرهابية في أفريقيا بنسبة تزيد على 300 في المائة بين العامين 2010 و2017؛ كما ارتفع عدد الدول الأفريقية التي تختبر نشاطاً متشدداً مستداماً بأكثر من الضعف لتصل إلى 12 دولة في نفس الفترة، وفقاً للمركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية، وهو جزء من وزارة الدفاع الأميركية. ويبدو العديد من المسؤولين الغربيين يائسين. ومن دون نشر المزيد من القوات “ما من شك في أننا سنخسر”، كما يقول مسؤول فرنسي كبير.
في هذا الخليط من الجماعات الجهادية، تتعهد الكثير منها بالولاء لتنظيم القاعدة أو تنظيم “داعش”. وتشمل هذه المجموعات حركة الشباب في الصومال، وبوكو حرام وفصائلها في نيجريا، وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين في مالي. وفي كل بلد، قد يكون الصراع مدفوعاً إلى حد كبير بالمظالم المحلية. لكن المتمردين يشتركون في بعض السمات الأيديولوجية. وقد تعززت الكثير منها بسبب الانهيار الذي أصاب ليبيا بعد سقوط نظام معمر القذافي في العام 2011، وهو ما أدى إلى تسرب الأسلحة من مخازن السلاح الليبية، كما تطورت شبكات التهريب التي تعمل في كل شيء، من البشر إلى المخدرات، عبر منطقة الصحارى. وهناك إشارات على أن الجهاديين يتعلمون من بعضهم البعض ويمتصون الأموال والدعم من الجماعات المتطرفة في الشرق الأوسط. وقد حذر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، فقال: “التحدي الماثل أمامنا هو إدارة الصراعات… ومنعها من الانضمام معا”.
لعل الأهم من بين المعارك الجارية هناك تلك الحملة التي تشنها نيجيريا ضد مجموعة بوكو حرام. وبمساحة كبيرة من الأرض بحجم فرنسا وألمانيا مجتمعتين، تعد نيجيريا أكثر بلدان أفريقيا سكاناً (بنحو 180 مليون نسمة)، وأكبر اقتصاد في القارة. وإذا لم يكن بلد بمثل هذه الموارد قادرا على احتواء الفيروس الجهادي، فأي أمل يتبقى لدول أفريقيا الأفقر والأقل قدرة؟ ويلخص جنرال متقاعد كان قد شغل ذات مرة منصباً رفيعاً في “أفريكوم”، قيادة الجيش الأميركي في أفريقيا، الوضع كما يلي: “إذا سقطت نيجيريا فإنها ستصنع حفرة تصريف عملاقة، والتي ستمتص إليها ستة أو سبعة بلدان أخرى”. وبالإضافة إلى ذلك، فإن صعوبات نيجيريا تقدم دروساً واقعية للعديد من الدول الأفريقية الأخرى، وللحلفاء الغربيين لهذه الدول.
تصر الحكومة النيجرية على أن الحرب ضد الجهاديين قد كُسِبت فعلاً. ويقول توكور بوراتاي، كبير الجنرالات النيجيريين: “لقد هُزمت بوكو حرام”. ومع ذلك، يتردد صدى إعلانه أجوفَ في قرية كيريبيري، الواقعة على بعد نحو 20 كيلومتراً (12 ميلاً) من مايدوغوري، حيث يُعلَّم حد المناطق التي تسيطر عليها الحكومة بخندق ضحل. ويشير رجل شرطة إلى المدى وراء الخندق ويقول: “الأمنُ منعدم هناك، هذه منطقة بوكو حرام”.
كانت بلدة مايدوغوري هي مسقط رأس بوكو حرام، التي تمتاز فصائلها بكونها أكثر المجموعات الإرهابية فتكاً وقتلاً في العالم. وهي متطرفة جداً بحيث أن وحشيتها ربما تثير اشمئزاز “داعش” والقاعدة. وقد أسس المجموعة أتباع الداعية الإسلامي الكاريزمي، محمد يوسف، الذي كان قد أنشأ مدرسة دينية وجامعاً في مايدوغوري في العام 2002. و”كان شديد الإقناع”، كما يقول رجل كان يحضر عِظات يوسف كمخبر للشرطة. “لقد جعلني أتفق مع كل شيء يقوله”.
الإصابة بجنون بوكو
حرض محمد يوسف أتباعه على رفض الدولة (بما أنها من خلق الإنسان، وليس الله) و”أي نوع من المعرفة التي تتعارض مع الإسلام”، بما في ذلك الأفكار من نوع أن العالم مستدير، أو أن المطر يأتي من تبخر المياه. وعلى الرغم من أن ولايات نيجيريا الشمالية كانت قد فرضت قانون الشريعة الإسلامية منذ وقت طويل، فإن تأويلها للإسلام لم يكن صارماً بما يكفي بالنسبة ليوسف. ومن بين مطالبه كان فرض حظر على التعليم العلماني (اسم المجموعة، “بوكو حرام”، يعني “التعليم الغربي خطيئة”، بلغة الهوسا).
بحلول العام 2009، أصبح رجال يوسف يهاجمون الشرطة والجيش، ويقتلون رجال الدين الذين يختلفون مع تأويله للإسلام. وقد اعتقلت الشرطة النيجيرية يوسف ثم قتلته أمام حشد من الناس خارج مقر الشرطة في مايدوغوري (أصرت الشرطة على أن النار أطلقت عليه أثناء محاولته الهرب). وذهب أتباع يوسف إلى الاختفاء قبل أن يظهروا ثانية تحت قيادة أبو بكر شيخو. وفي العام 2011، قاموا بتفجير مقر إدارة الشرطة النيجيرية ومبنى للأمم المتحدة في العاصمة، أبوجا. ومع نهاية العام 2014، كانوا قد اجتاحوا أجزاء واسعة من ثلاث ولايات في شمال شرق نيجيريا، وكسبوا سمعة دولية مخيفة بعد اختطافهم نحو 300 من طالبات المدارس من شبوك، وكانوا يشقون طريقهم بالقتال إلى مايدوغوري. وكان الجيش النيجيري، الذي أنهكه الفساد، في حالة من الفوضى. وقد امتلأت الوحدات بالجنود الأشباح الذين كانت أجورهم تذهب إلى جيوب قادتهم. ويتذكر مسؤول غربي كيف كانت الوحدة التي يجب أن تضم من 100 إلى 150 جنديا تتكون في الحقيقة من 20 رجلاً فقط.
على العكس من “داعش” في سورية والعراق، الذي أسس إدارات مدنية لتدير خلافته المعلنة ذاتيا، لم تحاول بوكو حرام في البداية أن تحكُم. كانت تفضل الفوضى. وفجرت المساجد والأسواق، وذبحت القرويين واختطفت النساء والأطفال. وقامت باسترقاق بعض الفتيات وبيعهن. وتم إجبار آخريات على أن يصبحن قنابل بشرية. وقد وجدت دراسة أجراها مركز مكافحة الإرهاب في ويست بوينت، الأكاديمية العسكرية الأميركية، أن أكثر من نصف هذه القنابل البشرية التي استخدمتها المجموعة في الفترة ما بين نيسان (أبريل) 2011 وكانون الثاني (يناير) 2017 كن من الإناث. وتقول منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة “يونيسيف” أن بوكو حرام ربطوا القنابل في العام الماضي على أجساد نحو 135 طفلا على الأقل.
ربما يعكس هذا الجوع للعنف الحالة العقلية للسيد شيخو، وهو شخص غامض يُعرف من أشرطة الفيديو بمونولوجاته غير المترابطة. وفي أحدها، يبرر بيع الفتيات المختطفات من تشبوك بعد استعبادهن: “يقول الله أن عليّ أن أبيع. إنه يأمرني بأن أبيع”. ويقول رجل حضر خطبه أن رفاق طفولته يتذكرونه كشخص منعزل متوحد ذي مزاج متفجر. ويقول: “حتى عندما يتلو القرآن، فإنه يصرخ به بأعلى صوته. كان شديد العدوانية ومسيئاً”.
أظهرت وحشية السيد شيخو أنها مفرطة حتى بالنسبة لـ”داعش” نفسه، الذي تعهد له شيخو بالولاء في العام 2015، وغير اسم المجموعة من “بوكو حرام” إلى “الدولة الإسلامية في منطقة غرب أفريقيا”. وفي العام 2016، عين “داعش” أبو مصعب البرناوي، زعيما لهذا التنظيم، وشق بذلك المجموعة إلى فصيلين.
في هذه الأثناء، حمل آلاف القرويين والسكان في مايدغوري المناجل أو البنادق المصنوعة يدوياً وانضموا إلى ميليشيا للدفاع عن النفس باسم “قوة المهمات المشتركة المدنية”، والتي حمت بوابات المدينة. كما أمر الرئيس النيجيري الجديد، محمدو بخاري، وهو شمالي ودكتاتور عسكري سابق، جنرالاته بنقل مقراتهم إلى مايدوغوري. وقد ساهمت الدول المجاورة، مثل تشاد والنيجر والكاميرون، في تشكيل قوة عسكرية متعددة الجنسيات. وفي غضون أشهر، استطاع الجيش استعادة معظم البلدات الكبيرة، ودفع المتمردين إلى الغابات أو إلى بحيرة تشاد، وهي مستنقع كبير حيث تلتقي حدود أربعة بلدان.
مع ذلك، سادت حالة من الجمود منذ ذلك الحين. ويسيطر الجيش على المدن الرئيسية وبعض الطرق بينها؛ بينما يحتفظ المتمردون بالسيطرة على الريف والقرى. ويعتقد الأميركيون بأن البرناوي يقود نحو 3.500 مقاتل (ربما لدى السيد شيخو نحو 1.500)، مما يعني أنه ربما يكون مسؤولاً عن أكبر قوة تابعة لتنظيم “داعش” في العالم، حيث يعتقد بأن بضعة آلاف من رجال “داعش” فقط هي التي تبقت الآن في سورية والعراق.
تعلَّم تنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا كيف يصنع قنابل جوانب الطريق، وأصبح أكثر مهارة في شن الهجمات. ويعتقد الكثيرون بأنه يحصل على التدريب والمشورة من مجموعات جهادية أخرى، بما فيها “داعش”. كما يُشاهد مقاتلون أجانب أيضا بين صفوفه. ويقول أبا كالي، قائد قوة المهام المشتركة المدنية التي تضم نحو 26.000 رجل: “إننا نرى أناسا من مالي، ونرى أناسا من ليبيا”. أما ما أصبح عليه تنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا، فهو ما ظهر في شباط (فبراير) عندما شن رجاله غارة بعيدة المسافة لاختطاف 110 من طالبات المدارس من دابشي، البلدة الواقعة في ولاية يوبي المجاورة. ويقول ضابط غربي: “لقد انتقلوا مسافة بلغت نحو 250 ميلاً لشن غارة والانسحاب مرة أخرى. وهذا شيء لا يستطيع حتى الجيش النيجيري أن يفعله”.
على الرغم من أن الجيش أصبح أكثر كفاءة بكثير مما كان في العام 2015، فإنه مفرط في التمدد ويعاني من انخفاض الروح المعنوية. وينتشر نحو نصف مجموع قواته من المشاة البالغ عددهم نحو 70.000 جندي في الشمال الشرقي من البلد. ولا يكشف الجيش عن أعداد خسائره، لكن الناس الذين على دراية بالعدد يقولون أن أكثر من 300 جندي نيجيري قُتلوا، وأن 1.500 جرحوا خلال العام الماضي. وبعد نشر هذه النسبة العالية من القوات، فإن الجيش لا يستطيع تدوير الرجال أو الوحدات بإخراجهم من القتال من أجل الراحة وإعادة التدريب. ويقول جندي في القوات الخاصة أنه ما يزال منخرطاً في العمليات بشكل متواصل منذ أربع سنوات. وتمكن رؤية الحصيلة العاطفية لهذا الواقع في العيون الحمراء المزججة لواحد من زملائه، الذي ينظر إلينا عبر سحابة من دخان الماريوانا. وعلى عكس بوكو حرام القديمة، التي لم تكلف نفسها عناء الحكم، يقوم تنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا بتعزيز سيطرته على القرى الحدودية. وهو يفرض “الضرائب” على السكان المحليين ويقيم الحواجز في الطرق لابتزاز الأموال من المارة. ويقدم التنظيم الأمن ونسخته الخاصة من العدالة في المناطق التي تقع خارج سيطرة الدولة. وعلى الرغم من أنه لا يستطيع الاحتفاظ بالأرض في قتال مباشر مع الجيش النيجيري، فإنه يقوم ببناء خلافة أوَّلية. ويقول ضابط في الجيش: “تستطيع أن ترى العلم الأسود (علم داعش) معلقا على الأكواخ في القرى”.
يتحدث جنرالات نيجيريا عن “كسب القلوب والعقول”، لكنهم يفعلون العكس بالضبط. فقد عمل الجيش بشكل منهجي على إخراج الناس من الريف، وقام بحرق قراهم وساقهم إلى مخيمات مزرية في مايدوغوري وغيرها من “البلدات الحاميات”. وفي المجموع، تم تشريد نحو 2.4 مليون شخص بسبب القتال في نيجيريا والدول المجاورة. ويقول الجيش أن من الضروري نقل الناس وإبعادهم عن القتال لحمايتهم وحرمان الجهاديين من الطعام والمأوى. ويقول السيد كالي من قوة المهمات المدنية المشتركة: “ليس هناك أناس أبرياء في الأدغال”.
يعتقد معظم المراقبين بأن عمليات القتل العشوائية التي يقوم بها الجيش وإجبار الناس على التجمع في البلدات التي جعلها بمثابة حاميات، تقوم بتغذية التمرد. ليست هناك وظائف تقريباً في المخيمات. ويمر الوصول منها وإليها عبر نقاط التفتيش التي يشغلها الجيش وأفراد قوة المهات المدنية المشتركة، الذين يطلبون الرشاوى. وتقول منظمة العفو الدولية (أمنيستي) أن الكثير من النساء والفتيات تعرضن للاغتصاب في المخيمات، وأن المئات، إن لم يكن الآلاف من الناس الذين وُضعوا فيها ماتوا من الجوع أو من نقص الرعاية الطبية. ويقول عامل في الإغاثة الطبية: “ذلك يغذي مباشرة استراتيجية التجنيد لدى تنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا، ولا تولي الحكومة النيجيرية هذا الوضع أي اهتمام. إنه مثل مصنع للجهاديين”.
يمتد فشل الحكومة النيجيرية إلى ما هو أبعد من المخيمات. ففي المناطق المتأثرة ببوكو حرام، لا يحصل أحد تقريبا على تعليم مدرسي، ولا عناية صحية أو أي من الخدمات العامة الأخرى. وفي باما، وهي بلدة كانت ذات مرة موطناً لنحو 250.000 شخص، أصبح المستشفى العام مخيماً للذين شردهم الصراع. ويعتقد عمال الإغاثة بأن الحكومة النيجيرية لم ترسل أكثر من اثنين من المدراء المدنيين إلى البلدة. ونتيجة لذلك، أصبح شمال شرق نيجيريا دولة فاشلة داخل دولة مختلة وظيفيا.
وجد “البرنامج الإنمائي” التابع للأمم المتحدة أن 71 في المائة من الناس الذين انضموا إلى الجماعات الجهادية في أفريقيا فعلوا ذلك كردة فعل على وحشية قوات الأمن. ومعظهم أناس غير متعلمين جاءوا من المناطق الفقيرة. وأي خدمات قليلة توجد هناك في المخيمات إنما تأتي من مجموعات إغاثة مثل “أطباء بلا حدود”، أو “برنامج الغذاء العالمي” الذي يساعد في إطعام نحو مليوني شخص. وليس هذا كافياً. وفي عيادة أطباء بلا حدود في مايدغوري، يمتلئ أكثر من نصف الأسرّة بأطفال نحيلين كالعصي، والذين أصبح لون شعر بعضهم برتقالياً ونحَل من شدة الجوع.
مع ذلك، وحتى وسط هذا العوز المطبق، ثمة بصيص من التنمية الاقتصادية. ففي باكاسي، وهو مخيم ضخم للمشردين، تبتسم الحاجة كالي محمد ابتسامة واسعة وهي تعرض حقيبة يدوية حيكت بواسطة ماكينة خياطة مشتراة بأموال منحة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وكانت السيدة محمد قد فرت من بوكو حرام مع أبنائها الأربعة قبل ثلاث سنوات. ولديها الآن عمل تجاري يُدر نحو 50.000 نايرا (139 دولارا) في الأسبوع، وهو مبلغ محترم فيه حد أدنى من الأجور لا يتجاوز 18.000 نايرا في الشهر. وفي الوقت الحالي، تقوم اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي خصصت في العام الماضي نحو 60 في المائة من مواردها في شمال نيجيريا لتوفير المساعدات الغذائية الطارئة، بتخصيص حصتها كاملة للتنمية الآن. ويحاول برنامج الغذاء العالمي بالمثل أن يساعد المزارعين وصيادي السمك في الوقوف على أقدامهم بإعطائهم حزماً من البذور وشباك الصيد. بل إن هذا النوع من العمل أخذ يكتسب اسماً جديداً طناناً: “الرابط الثلاثي”، الذي يعني تقديم المساعدات الطارئة؛ والمساعدة التنموية؛ والأمن كلها دفعة واحدة، على أمل أن يساعد كل من هذه العناصر في تعزيز الآخرَين.
الغائب الواضح تماما في كل هذا هو الحكومة النيجرية. وكانت الحكومة قد نشرت خطة مثيرة للاهتمام من خمسة مجلدات لإعادة بناء شمال الشرق في سنتين، لكنها تنازلت تقريبا عن كل العمل الإنساني والتنموي للمنظمات الدولية. ويقول أحد عمال الإغاثة: “لقد أعطونا الطفل، وأصبحنا الآن عالقين في حمله”.
يتسبب هذا التراخي في إثارة القلق لدى الجيوش الغربية التي تبدو خائفة من إمكانية جرها إلى حرب أخرى. وتقوم أميركا وبريطانيا بتدريب القوات النيجرية وتزودها بالمشورة والاستخبارات. كما تخرج القوات الأميركية الخاصة أيضاً في دوريات مشتركة مع الجيش في النيجر، وتجري فرنسا عمليات عسكرية كثيفة عبر منطقة الساحل. وتدفع القوى الغربية رواتب “جي-5″، وهي قوة إقليمية لمكافحة الإرهاب تضم قوات من بوركينا فاسو، وتشاد، ومالي، وموريتانيا والنيجر.
لكن هذه القوى لا تحب أن تلعب دورا مباشرا في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا في نيجيريا على النحو الذي يجري في الصومال، حيث لدى أميركا نحو 500 جندي على الأرض وحيث تشن غارات وضربات بالطائرات من دون طيار لقتل وأسر الجهاديين. (فقدت الولايات المتحدة جندياً في حزيران/ يونيو). ويعود هذا في جزء منه إلى أن تنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا يشكل، في الوقت الراهن على الأقل، القليل من الخطر المباشر على البلدان الغربية. وتبقى منطقة بحيرة تشاد عصية على الوصول، ولذلك يستطيع قلة من المقاتلين الغربيين الدخول أو الخروج. كما أنها فقيرة بطريقة فظيعة. وهي لذلك غير جذابة للجهاديين المولودين في الغرب الذين اشتكوا في السابق من أن الحياة في العراق وسورية تفتقر إلى وسائل الراحة المادية. وقد أثبتت الجماعات الجهادية الأخرى في المنطقة أنها قادرة على مهاجمة أهداف غربية محلياً، مثل الفنادق. لكن تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا فقط هو الذي تمكن من شن هجمات بنجاح في أوروبا في السنوات الأخيرة.
الآن، يعمل مصرع خمسة جنود أميركيين في كمين في النيجر في شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي مسبقاً على إثارة الشكوك حول حجم التورط الأميركي في أفريقيا. وكانت تلك الحادثة أكبر خسارة أميركية للأرواح في قتال في أفريقيا منذ مقتل 18 جندياً في مقديشو قبل 25 عاماً، وهي الحادثة التي دفعتها إلى سحب قواتها من الصومال.
ربما تكون إعادة نظر مماثلة لما حدث في الصومال تجري الآن بعد الكمين في النيجر. وقد تلقى الجنود الأميركيون في النيجر أوامر بتنفيذ مهمات ومخاطرات أقل. وفي وقت سابق من هذا العام، طلبت وزارة الدفاع الأميركية من قيادة قواتها في أفريقيا، “أفريكوم”، التخطيط لاحتمال خفض بنسبة 50 في المائة لعدد قواتها الخاصة في أفريقيا على مدى ثلاث سنوات. ولملء هذه الفجوة، سيكون على بريطانيا وفرنسا وحلفائهما وضع المزيد من قواتهم على الأرض.
خط في الرمال
يعتقد البعض بأنه بدلا من تقليص الجهد العسكري، فإنه يجب تعزيزه. سوف توقع حملة جوية غربية خسائر ثقيلة بتنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا وتعيق قدرته على تنظيم نفسه لسنة أو أكثر. لكن الضربات الجوية وحدها ربما لن تكون كافية لهزيمة المجموعة. ويتساءل ضابط بريطاني: “إننا نستطيع القضاء على القيادة. ولكن، هل سيجعل ذلك الأمور أفضل حقاً”؟ ويتحدث الضباط الغربيون عن الحاجة إلى التزام طويل الأمد بتقديم التدريب والمعدات والمساعدة للقوات المحلية، وتزويدها بالدعم الجوي عند الحاجة.
يقارن الجنرال هيكس صعود الجهادية في أفريقيا بصعود طالبان في أفغانستان في العام 1993. الآن، ما تزال التهديدات التي يشكلها الجهاديون على الغرب “في مرحلة جنينية، ويمكن التعامل معها بكلفة يمكن تحملها من الدم والمال”. لكن ترك الخطر يتفاقم قد يسمح له بأن يكبر حتى تصبح القوى الغربية مجبرة على التدخل مباشرة وعلى نطاق واسع. لكن خبرة الغرب في أفغانستان منذ العام 2001 تنطوي على درس آخر: إن التدخل العسكري وحده لا يستطيع أن يحل المشكلة. لكنه يمكن أن يعيق الجهاديين ويشتري الوقت لاستعادة ولاء الساخطين والمهمشين. وهذه، في الجزء الأكبر منها، وظيفة حكام أفريقيا المحاصرين بالمتاعب –إذا كانوا أهلاً للاطلاع بها.

الغد