أدى الانقلاب الفاشل الذي وقع في 15 تموز/يوليو 2016 إلى تغيير السياسة التركية بشكل لا رجعة فيه. وعلى الرغم من إحباط محاولة الانقلاب لحسن الحظ، إلا أن المسار الذي اختاره أردوغان بعد الانقلاب – باستخدامه سلطات حالة الطوارئ التي مُنحت له لملاحقة مدبّري الانقلاب على وجه التحديد، ولكنه شرع بدلاً من ذلك في شن حملة أوسع نطاقاً بكثير ضد جميع المعارضين، والعديد منهم لم تكن له أي علاقة بالانقلاب بأي شكل من الأشكال – يسلّط الضوء على حقيقة مؤسفة بشأن البلاد: تركيا تتخبط في أزمة كبيرة.
فالبلاد منقسمة بين مؤيدين ومعارضين لأردوغان الذي فاز في دورات انتخابية متتالية في تركيا منذ عام 2002 على أساس برنامج شعبوي يميني. وقد قام أردوغان بتشويه صورة الناخبين الذين لن يصوتوا له على الأرجح وقمعهم، في إستراتيجية فاقمت إلى حدّ كبير الاستقطاب في تركيا، التي أصبحت الآن منقسمة بشكل كبير بين معسكر موالٍ لأردوغان وآخر مناهض له: ويتمثل الأول بائتلاف محافظ يميني من القوميين الأتراك يرى أن البلاد هي جنة؛ والثاني، وهو مجموعة فضفاضة من اليساريين والعلمانيين والليبراليين والأكراد، يعتقد أنه يعيش في الجحيم.
والأمر الأكثر مدعاة للقلق هو أن الجماعات الإرهابية على غرار «حزب العمال الكردستاني» اليساري المتطرف وتنظيم «الدولة الإسلامية» الجهادي تستغل هذا الانقسام في تركيا لتزيد إراقة الدماء وتعمق حدة الانقسام حتى بدرجة أكبر. فبين صيف عامي 2015 ونهاية 2016 وحده، واجهت تركيا 33 هجوماً إرهابياً كبيراً لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» و«حزب العمال الكردستاني»، مما أسفر عن مقتل ما يقرب من 550 شخصاً. ولجعل الأمور أكثر سوءاً، تتطلع الجهات الفاعلة الدولية، بدءاً من نظام الأسد في دمشق، التي حاولت أنقرة الإطاحة به أثناء الحرب الأهلية السورية، وإلى روسيا وإيران، اللتان تدعمان الأسد، إلى رؤية سقوط أردوغان وانزلاق تركيا في دوامة من الفوضى.
باختصار، تعيش تركيا في أزمة. هل يمكنها أن تنفجر في ظل هذه الضغوط؟ لا شك في ذلك، وإذا ما انفجرت، سيكون الأمر بمثابة كارثة حتماً. [وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن] تركيا تحتل موقعاً حاسماً – جغرافياً وأيديولوجياً – بين أوروبا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وهي من أقدم الديمقراطيات ومن أكبر الاقتصاديات بين إيطاليا والهند؛ لذا فإن انهيارها قد يغرق العالم في فوضى أكبر بكثير من تلك المستعرة حالياً في سوريا والعراق.
لكن هل تستطيع تركيا الابتعاد عن مثل هذا المستقبل المؤسف؟ من المستحيل إعطاء أي إجابة على هذا السؤال دون فهم كامل لارتقاء أردوغان السلطة وتطلعاته السياسية. فالرئيس التركي هو أحد أكثر رجال الدولة نفوذاً في عصرنا. وقد فاز هو والحزب الذي يتزعمه – في البداية بحكم القانون، وحالياً بحكم الأمر الواقع – بخمس انتخابات برلمانية، وثلاث دورات من الانتخابات المحلية على الصعيد الوطني، واثنان من الانتخابات الرئاسية بالاقتراع الشعبي، واستفتاءان بين عامي 2002 وأوائل 2018.
ولكن ماذا سيكون الإرث الدائم لأردوغان؟ فحيث يرزح سجله تحت جميع الانتقادات، إلّا أنه يتضمن العديد من العناصر الإيجابية، وعلى وجه التحديد، نجاحه في تحقيق النمو الاقتصادي وتحسين مستويات المعيشة. وهذا هو الجانب المشرق لأردوغان. فعندما جاء «حزب العدالة والتنمية» الذي ينتمي إليه أردوغان إلى السلطة في عام 2002، كانت تركيا دولة معظمها من الفقراء. إلّا أنها الآن بلد معظم مواطنيه من ذوي الدخل المتوسط . فقد تحسنت الحياة في جميع أنحاء البلاد، ويتمتع المواطنون ببنية تحتية وخدمات أفضل بشكل عام. في عام 2002، كان معدل وفيات الأمهات في تركيا مشابهاً إلى حد ما لنظيره في سوريا ما قبل الحرب؛ والآن هو قريب من المعدل في اسبانيا. بعبارة أخرى، اعتاد الأتراك العيش كالسوريين، بينما يعيشون الآن كالأسبان. وهذا هو السبب في استمرار تمتع أردوغان بشعبية كبيرة وفوزه بالانتخابات، على الرغم من أن دخل الفرد في تركيا لم يرتفع إلا بشكل تدريجي منذ تلك الزيادة “المعجزة” بين عامي 2002 و 2008. وفي المستقبل، سيكون الاقتصاد نقطة ضعف أردوغان. فإذا استمرت تركيا في النمو، فسوف تستمر قاعدة أردوغان في دعمه.
وعلى أي حال، فباستثناء الانهيار الاقتصادي، سيدخل أردوغان التاريخ باعتباره أحد قادة تركيا الأكثر شهرةً وكفاءةً ونفوذاً، ليصطف على الأرجح إلى جانب أتاتورك الذي آمن بأن النظام السياسي العلماني المتأثر بالثقافة الغربية الذي بناه في القرن العشرين لن ينهار أبداً.
كانت العلمانية سمة مميزة لإصلاحات أتاتورك وإرثه في تركيا. فأتاتورك، الضابط في الجيش العثماني، كان نتاجاً للإمبراطورية العثمانية بعد سقوطها: وكان علمانياً تماماً وموالياً للغرب. وجاءت محاولته التي تمثلت بإضفاء الطابع الغربي والأوروبي على تركيا بشكل جذري كردّ على انهيار الإمبراطورية، التي أطلق عليها اسم “رجل أوروبا المريض”. وكان يعتقد أن العثمانيين فشلوا لأنهم لم يصبحوا علمانيين ولم يتأثروا بأوروبا بدرجة كافية. فلو استطاعت تركيا أن تصبح قوية على غرار الدول الأوروبية – في تلك الأيام – التي ضمت العديد من القوى العظمى في العالم، فربما كانت ستتجنب المصير المظلم للإمبراطورية العثمانية، التي مزقتها الدول الأوروبية في نهاية الحرب العالمية الأولى. لقد أراد أتاتورك أن يجعل تركيا أوروبيةً تماماً كي تصبح دولة لا تقهر من جديد.
وقد تم انتقال موضوع استعادة عظمة تركيا إلى الأجيال اللاحقة من الزعماء الأتراك، وآخرهم أردوغان. ومن أجل تحقيق هذه الغاية عمد إلى جعل تركيا دولة شرق أوسطية قوية قادرة على منافسة الأوروبيين وقوى عظمى أخرى.
ولا يزال انهيار الإمبراطورية العثمانية يرسم معالم نظرة تركيا حول مكانتها في العالم، مما يخلف أساطير وأهداف يتردد صداها في العقلية التركية. فالدول التي كانت سابقاً إمبراطوريات عظمى لا تنسى أبداً هذا الواقع، وغالباً ما تتمتع بإحساس مرن ومبالغ فيه لأيام المجد، وتاريخ عن سبب عدم كونها إمبراطورية بعد [انهيارها السابق] – وهو مزيج حارق من الفخر بماضٍ مثالي، وشكوى من عظمة مفقودة أو مسروقة، واستعداد للتأثر (بمقدار أقل من التملق والعرضة للتلاعب) بسياسيين فعالين.
وبعد أن حَكَمَ تركيا لمدة 16 عاماً، منذ عام 2002، جمع أردوغان ما يكفي من النفوذ لتقويض إرث أتاتورك، وجعل “الكماليين” الأصليين – لو كانوا على قيد الحياة – يشككون في ثقتهم التامة بنظامهم. لقد قام بتفكيك علمانية أتاتورك خلال فترة تزيد قليلاً على عقد من الزمن، ونجح بذلك دون رحمة كبيرة لخصومه. وجعل شكلاً محافظاً ومتصلّباً من الإسلام يطغى على الأنظمة السياسية والتعليمية في البلاد وأبعد تركيا عن أوروبا والغرب. وللمفارقة، إن هذا هو جانب “أتاتورك” من أردوغان. وبالطبع، لا يشارك أردوغان قيم أتاتورك بل فقط أساليبه. وكما رسم أتاتورك معالم تركيا على صورته الخاصة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، يقوم أردوغان برسم دولة جديدة، ولكن تلك التي ترى نفسها إسلامية بشكل عميق في الأمور السياسية والسياسة الخارجية – لجعلها قوة عظمى من جديد.
وأردوغان هو بمثابة “أتاتورك” معادٍ لأتاتورك. كونه ترعرع في تركيا علمانية وواجه استبعاداً اجتماعياً في سن مبكرة بسبب تديّنه وآرائه المحافظة، يتحرّك أردوغان انطلاقاً من عدائه المتأصل لأساليب أتاتورك. ومع ذلك فقد قام بتفكيك نظام أتاتورك مستخدماً الأدوات ذاتها التي وفّرتها له النخبة المؤسسة في البلاد: مؤسسات الدولة وهندسة اجتماعية من المستويات العليا إلى المستويات الدنيا، وكلاهما من السمات المميزة لإصلاحات أتاتورك. وقد استخدم أردوغان وسائل أتاتورك وأساليبه لاستبدال حتى أتاتورك نفسه. والنتيجة النهائية هي قيام تركيا حالياً بالتمييز ضد المواطنين الذين لا يُعرّفون أنفسهم في المقام الأول من خلال الإسلام، وتحديداً الإسلام السني المحافظ، المذهب الذي ينتمي إليه أردوغان.
ومع ذلك، يواجه أردوغان مشكلة: ففي حين وصل أتاتورك إلى السلطة كجنرال عسكري، يتمتع أردوغان بتفويض ديمقراطي للحكم. وما هو أكثر من ذلك، أن تركيا تنقسم مناصفة تقريباً بين معسكرات مؤيدة لأردوغان وأخرى معادية له. وعلى الرغم من هذه الحقائق، يريد أردوغان بشدة تغيير تركيا على صورته بنفس الطريقة التي قام بها أتاتورك، وهنا تكمن أزمة تركيا الحديثة، وهي أن نصف البلاد تحتضن النسخة السياسية التي يتبعها اردوغان، لكن النصف الآخر يعارضها بشدة. وطالما تبقى تركيا ديمقراطية حقاً، فلا يمكن لأردوغان إكمال ثورته.
وقد أدى ذلك إلى ولادة الجانب غير الليبرالي الأظلم لأردوغان: فمن أجل أن يمضي قدماً في برنامجه للتغيير الثوري ضد مجتمع منقسم، قام بتخريب الديمقراطية في البلاد. فمن خلال استغلال شعبيته، تخلّى عن الضوابط والتوازنات الديمقراطية، بما فيها وسائل الإعلام والمحاكم. وبدلاً من تقديمه المزيد من الحريات للجميع، قام بقمع خصومه واعتقال المعارضين، وتوفير الحريات غير المتكافئة لقاعدته المحافظة والاسلامية. وعلى الرغم من فوزه بصورة ديمقراطية، إلا أن أردوغان أصبح أكثر استبداداً بمرور الوقت، وضمن عدم وجود تساوي في حقل العمل السياسي من أجل منع السلطة من الإفلات من يديه.
لقد أنجز ذلك من خلال لعبه دور “المستضعف المتسلط”. فمن خلال الاعتماد على روايته القائمة على الاستشهاد السياسي في ظل النظام العلماني في التسعينيات، يصوّر أردوغان نفسه الآن كضحية يضطر على مضض إلى قمع أولئك المتآمرين لتقويض سلطته. فقد أرهب وسائل الإعلام ومجتمع الأعمال من خلال عمليات تدقيق ضريبية ذات دوافع سياسية وسَجَن المنشقين والعلماء والصحفيين. وفي ظل حكمه يقوم رجال الشرطة بانتظام بقمع مسيرات المعارضة السلمية. ووفقاً لذلك، فعلى الرغم من استمرار حرية الانتخابات التركية، إلّا أنها غير عادلة على نحو متزايد. وقد أحدثت إستراتيجية أردوغان الانتخابية استقطاباً راسخاً في تركيا: فقد احتشدت قاعدته المحافظة، التي تشكل حوالي نصف البلاد، بحماسة حوله للدفاع عنه. أما النصف الآخر من البلاد، الذي تعرض للوحشية من قبل أردوغان، فيشعر باستياء عميق تجاهه. وعلى نحو متزايد، هناك القليل من القواسم المشتركة بين هذين الكيانين.
ومع ذلك، يرغب أردوغان في رسم معالم كامل تركيا على صورته. فقد جعل إظفاء طابعه الشخصي على السلطة وهيمنته على المؤسسات السياسية والمدنية إلى جعل تركيا دولة هشة من الناحية السياسية، وفي حالة أزمة دائمة. وقد حقق نجاحاً هائلاً في الانتخابات من خلال تشويه صور مجموعات سكانية مختلفة لم تكن لتصوّت له ومهاجمتها سياسياً. وإذا ما جمعناها معاً، تمثّل هذه الفئات ما يقرب من نصف الناخبين الأتراك، ولا يزال هناك الكثير من الأعداء الذين ينتظرون سقوطه من السلطة. ويدرك أردوغان أن أفعاله لم تترك له أي طريقة لائقة للخروج من المشهد [السياسي]. والأكثر من ذلك، أنه عندما يترك أردوغان منصبه – وسوف يفعل ذلك يوماً ما – لن يتبقى سوى عدد قليل من المؤسسات الدائمة للحفاظ على وحدة البلاد.
ولن تستطيع تركيا الخروج من أزمتها إلّا من خلال سن دستور جديد يوفر حريات واسعة لجميع المواطنين. يجب التذكر أن النظام العلماني الذي أوجد أردوغان هو النظام الذي عمل على حماية الحرية من الدين، ولكن لم يعمل على حماية الحرية الدينية. لقد عكس أردوغان هذه المواقف. وفي المرحلة القادمة، من أجل التأكد من احترام حقوق كل من تركيا التقية والعلمانية، يجب أن يضمن الدستور كلا شكلي الحرية الدينية. ومن شأن قيام ميثاق ليبرالي جديد أن يسمح لتركيا أيضاً بحل قضيتها مع الأكراد من خلال ضمان حقوق واسعة للجميع، بمن فيهم الأكراد. وإذا كان بوسع تركيا تحقيق السلام مع الأكراد، فبإمكانها أيضاً تحقيق السلام مع الأكراد الموالين لـ «حزب العمال الكردستاني» في شمال سوريا، وهو تطور مرحب به سيؤدي بدوره إلى منح أنقرة حاجز وقائي ضد عدم الاستقرار، والجهادية، والصراع الطائفي، والحرب الأهلية، التي من المحتمل أن تنحدر جميعها من سوريا وتهدد تركيا لعقود من الزمن.
وإذا قاد أردوغان تركيا بموجب دستور جديد يجمع معاً النصفين المتباينين في البلاد وفَتَحَ الطريق أمام السلام مع الأكراد، فقد يترك وراءه إرثاً سياسياً إيجابياً أيضاً. على أردوغان الإقرار بأن وقت الثورات بأسلوب أتاتورك – التي تتضمن الهندسة الاجتماعية في إطار تنازلي في تركيا (أو، في هذه الحالة، في أي دولة أخرى) – قد انتهى. وتجدر الإشارة إلى أنه في عشرينيات القرن الماضي كان معظم سكان تركيا – التي رسم أتاتورك معالمها على صورته – من الفلاحين الذين كانت نسبتهم حوالي 75 في المائة. وبالكاد كان 11 في المائة من الأتراك متعلمين، كما أن العديد من أولئك الأشخاص الأكثر تثقيفاً كانوا يدعمون أجندة أتاتورك. أما تركيا المعاصرة، التي يأمل أردوغان في رسم معالمها على صورته، فإن 80 في المائة من سكانها هم من الحضريين و97 في المائة من شعبها متعلّم.
لذا من غير المحتمل، وربما من المستحيل، أن يتمكن أردوغان من فرض رؤيته المتمثلة بإسلام محافظ متشدد على المجتمع التركي بأكمله، وهو مزيج من المجموعات الاجتماعية والسياسية والعرقية والدينية التي يعارض الكثير منها أجندة أردوغان. وعلى الرغم من جهوده الرامية إلى خلق طبقة من الرأسماليين الإسلاميين المحسوبين، إلّا أن الجزء الأكبر من أصحاب الثروة في البلاد لا يزال منحازاً إلى “جمعية الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك” [“توسياد”]، التي تُعتبر نادي “فورتشن 500” التركي، المتمسكة بالقيم العلمانية والديمقراطية والليبرالية الموالية للغرب. إن تركيا بكل بساطة دولة متنوعة جداً ديموغرافياً، وكبيرة جداً اقتصادياً، ومعقدة للغاية سياسياً من أن يتمكن شخص واحد من رسم معالمها على صورته الخاصة على خلفية نظام ديمقراطي وقوى سياسية متنافسة. وطالما أنّ تركيا دولةٌ ديمقراطية، لن يتمكّن أردوغان من الاستمرار في الحكم كما يريد. بعبارة أخرى، يمكنه الاستمرار في تشكيل تركيا بشكل تنازلي فقط من خلال وضع حدّ للديمقراطية. صحيح أن أردوغان فاز في انتخابات 24 حزيران/يونيو، لكن فقط بعد إدارته حملة غير عادلة كلياً، وكان فوزه بهامش ضئيل بواقع 4 نقاط فقط. وهو يعرف تمام المعرفة أنه إذا ما تُرك الأمر للأدوات الديمقراطية، لن يقوم المجتمع التركي بانتخابه. لذا من “المنطقي” أن يصبح أردوغان أكثر استبداداً في المستقبل ليتجنب الإطاحة به، بغض النظر عما إذا كان في ما مضى “ديمقراطياً ملتزماً”.
يتعين على أردوغان تجنّب هذا السيناريو من أجل مصلحته الخاصة. فالرئيس التركي يرغب في جعل بلاده قوة عظمى. لقد جعل تركيا دولة مؤلفة من الطبقة الوسطى، ولديها الآن فرصة التحوّل إلى اقتصاد متقدّم إذا قام ببناء مجتمع معلومات يقوم على اعتماد القيمة المضافة، بما فيها البرمجيات وتكنولوجيا المعلومات. بعبارة أخرى، بإمكان تركيا التي يريدها أردوغان مواصلة صعودها إذا حوّلت نفسها من دولة تصدّر السيارات (تصديرها الرئيسي) إلى مركز لموقع “غوغل”. فرأسمال تركيا وطبقاتها الإبداعية ستترك البلاد إذا ما استمرت الحكومة في مسارها الحالي، كما أن رؤوس الأموال والمواهب الدولية ستتجنب دخول البلاد إذا لم يتمكن قادتها من توفير نفاذ غير مقيّد إلى الإنترنت وضمان حرية التعبير ووسائل الإعلام والتجمعات والاتحادات واحترام حقوق الأفراد والمخاوف البيئية والمساحات الحضرية والمساواة بين الجنسين – وهي جميعها مطالب رئيسية عبّر عنها المحتجون في “منتزه جيزي” ومنتقدو أردوغان في اليسار واليمين السياسي. وإذا بقيت تركيا مجتمعاً منفتحاً، ستواصل تقدّمها. أما إذا لم تعد ديمقراطية، فسيتوقف هذا التقدّم.
إن نمو تركيا والحظوظ السياسية لأردوغان مترابطة بشكل وثيق. كما أنها مرتبطة بالاقتصاد العالمي وبالحريات المتوافرة للمواطنين في معظم البلدان المتقدمة. وفي الواقع، يمثّل الاقتصاد نقطة ضعف أردوغان. فعلى الرغم من نمو اقتصاد تركيا بشكل ملحوظ من حيث الحجم منذ عام 2002، إلا أنه لا يزال صغيراً بما يكفي لكي ينكشف بشكل يرثى له على الصدمات الدولية المحتملة. لا بدّ من الاتعاظ من التباطؤ العالمي الذي كاد يدمّر اقتصاد كوريا الجنوبية في عام 1997، في وقت كان فيه اقتصاد ذلك البلد قابلاً للمقارنة تقريباً مع اقتصاد تركيا في أوائل عام 2017. لقد كان انهيار اقتصادي السبب الذي أتى بأردوغان إلى السلطة عام 2002، ويمكن لانهيار اقتصادي مماثل أن يعني نهاية حكمه.
إذا لم يستمع أردوغان إلى هذه النصيحة، سيعرّض بلاده لنزاع بين الكتلتين، تلك المؤيدة لـ «حزب العدالة والتنمية» والأخرى المناهضة له، كما أن هجمات تنظيم «الدولة الإسلامية» و«حزب العمال الكردستاني» والأعداء الأجانب لن تؤدي إلا إلى تفاقم الأزمة الناشئة. وفي هذا المسار المؤسف، سيعزز أردوغان أكثر فأكثر القومية الاستبدادية. إنه سيناريو “تدبير الأمور” الذي ستبقى بموجبه تركيا في حالة دائمة من الأزمات والصراع الاجتماعي. وللأسف، قد تتدهور الحالة حتى إلى ما هو أسوأ. وفي حين يسعى أردوغان إلى رسم معالم تركيا على صورته الخاصة، قامعاً في طريقه نصف سكان البلاد الذين يعارضونه، فإن معارضيه سيعملون بلا كلل من أجل تقويض أجندته: فالعنف سيولد العنف. ومن شأن الاستقطاب المحلي في تركيا أن يجعلها منكشفة على مكائد أعدائها الأجانب: موسكو، التي ستعمل وراء الكواليس لتقويض ثورة أردوغان؛ دمشق، التي ستستفيد من روابطها مع اليساريين الأتراك المتطرفين لإيذاء أردوغان؛ وأخيراً وليس آخراً، الجهاديون الذين سيعارضون في نهاية المطاف طابع الإسلام السياسي الذي يفرضه أردوغان من اليمين المتطرف. وإذ تترافق أزمة البلاد مع هذه التهديدات الخارجية، فيمكنها أن تقذف تركيا إلى آتون حرب أهلية خطيرة. وفي ظل هذا السيناريو، سيتمّ ذكر أردوغان باعتباره “السلطان الفاشل” الذي تسبب في انهيار تركيا الحديثة. والكرة الآن في ملعب أردوغان.
سونر جاغايتاي
معهد واشنطن