يواجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أحد أصعب التحديات الاقتصادية منذ وصوله إلى السلطة في 2003 بعد فرض الولايات المتحدة عقوبات على اثنين من كبار وزرائه بسبب احتجاز القس الأميركي أندرو برانسون، على غرار فرض رسوم إضافية على واردات الصلب والألمنيوم من تركيا. وكانت النتيجة المباشرة لهذا التوتر تراجعا سريعا في سعر الليرة التركية التي فقدت الجمعة الماضي 16 المئة من قيمتها مقابل الدولار الأميركي. وللخروج من مأزقه استخدم أردوغان لغة الاستعداد للمعركة في حديث عن “حرب اقتصادية” ضد بلاده، وقدم برنامج المئة يوم لإنقاذ الاقتصاد، لكن لم يتحمس له الأتراك بسبب افتقاره إلى مشاريع جديدة، كما يبدو أنه من الصعب هذه المرة أن يستجيب المواطنون لتصريحاته الشعبوية بالتوجه إلى البنوك وبيع ما لديهم من دولارات، لفقدانهم الثقة في عملتهم التي تتهاوى بسرعة مقلقة.
إسطنبول- أفصح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخرا عن برنامج المئة يوم؛ في مناخ جعل طموحاته للوصول إلى “المعجزات الاقتصادية في تركيا الجديدة” تلامس السماء؛ وسط تأييد مذهل من وسائل الإعلام الموالية للنظام.
مرة أخرى تتجسد صورة نظام الحكم الجديد بوزاراته ووزرائه؛ فها هو رئيس الجمهورية، وقد تراص خلفه الوزراء قابعين في مقاعدهم لم يحرك أي منهم ساكنا، أو ينبس ببنت شفة طيلة ساعتين، كان أردوغان هو المتحدث الوحيد عن إجراءات المئة يوم، التي من المفترض أن يقوم الوزراء الستة عشر بتنفيذها.
صرح أردوغان أنه سينفذ ألف مشروع؛ منها 400 مشروع على درجة كبيرة من الأهمية، وذلك في مدة لن تتجاوز المئة يوم، وأن الدولة ستنفق من أجل هذه المشروعات ما يعادل 46 مليار ليرة تركية خلال المئة يوم، لكن عندما ننظر إلى الاستثمارات التي يزعم رئيس الجمهورية أنها ستحدث نقلة كبيرة في الاقتصاد التركي، لا نرى بين هذه المشروعات شيئا جديدا؛ باستثناء مشروعات إنشاء حدائق قومية في تركيا، التي قيل إن العمل في خمسة منها سينتهي في خلال مئة يوم، وبدأ الإعداد ﻟ22 مشروعا آخر، ربما نعتبرها من المشروعات الجديدة. عدا ذلك، لا نعرف مشروعات جديدة ينفذونها.
لهذا السبب، لم تلق تصريحات أردوغان، التي عدَّدَ فيها المئات من الأسماء الخاصة بالمشروعات والتي وصفها ﺒ”الإجراءات الجديدة”، الحماس المطلوب في وسائل الإعلام في اليوم التالي.
الالتجاء إلى الصين
من المعروف أن الرئيس التركي قد وجه رسالة إلى الرئيس الصيني شي جين بينغ، في قمة مجموعة بريكس التي عقدت في جنوب أفريقيا؛ طالبه فيها بإضافة حرف التاء (أول حروف كلمة “تركيا”) إلى نهاية كلمة بريكس، التي تتكون من الأحرف الأولى للدول المنضمة لهذا التحالف، وأنه وعد جين -في المقابل -بأن يسند لبلاده تنفيذ عدد من المشروعات الكبيرة في البنية التحتية والطاقة ومشروعات الاتصالات في تركيا.
كان من الضروري لدولة مثل الصين تخوض حربا تجارية مع الولايات المتحدة أن تفتح لنفسها مسارا سريعا نحو تركيا يعوضها عن خسائرها. وتتمحور الوعود التي منحتها تركيا إلى الصين في الآونة الأخيرة، في أن تسند إلى الشركات الصينية بالأمر المباشر، ودون عمل “مناقصات”، استثمارات مباشرة في تركيا في مجال البنية التحتية بالتعاون مع القطاع الخاص والقطاع العام، بالإضافة إلى التعاون في بعض المشروعات الخاصة بالصناعات الدفاعية؛ كي تقوم على تنفيذها بالتمويل الذي سيوفره الجانب الصيني.
وبالتأكيد ستكون سلطة اتخاذ القرار النهائي في المجلس الأعلى للتخطيط -في ما يخص المشروعات والاستثمارات العامة الضخمة -في يد الرئيس أردوغان وحده.
لهذا السبب، ربما نشهد في الأيام القليلة القادمة المزيد من التصريحات من جانب الرئيس التركي، والتي سيُكثر فيها -بطبيعة الحال- من استخدام كلمة “صديقي شي”، وقد نشهد كذلك المزيد من القرارات والمناقصات غير المسبوقة لصالح الصين.
ومع ذلك فمن الخطأ أن ظن أن الصين ستتصرف بسخاء مع تركيا، وأنها ستغض الطرف عن كافة المخاطر التي تحف بالاقتصاد التركي، الذي بلغ معدل مخاطر الائتمان والاستثمار به الصفوف الأولى بين دول العالم، بالإضافة إلى احتلاله المركز الثاني بعد الأرجنتين بين الاقتصادات غير المستقرة، التي ترتفع بها نسبة التضخم بشكل مطرد، وتتناقص احتياطيات البنك المركزي بها بشكل سريع. لذلك من المتوقع أن يفرض الرئيس الصيني شي على أردوغان وتركيا بعض المطالب؛ كالحصول على امتيازات وإعفاءات غير مسبوقة في مقابل الدعم الذي ستقدمه الصين.
الثقة في الاقتصاد وفي الليرة التركية وصلت إلى الحضيض، بعد أن تخطى سعر صرفها الخمس ليرات مقابل الدولار، على خلفية أزمة القس برانسون مع الولايات المتحدة
ويعود السبب وراء هذا أن مصدر الأموال التي سينفذ بها أردوغان برنامج الإجراءات الذي أعلن عنه، والذي يبلغ 46 مليار ليرة في مئة يوم؛ أي بمعدل 460 مليون ليرة في اليوم الواحد، لا يزال مجهولاً. من أجل هذا، لن يتردد أردوغان في أن يقدم أي تنازلات للصين، خاصة وأن علاقته بواشنطن قد ساءت على خلفية قضية القس برانسون. وعلى الجهة الأخرى، لن يضيع الرئيس شي فرصة يفرض مطالبه من خلالها على أردوغان وتركيا.
انهيار الليرة
مع تصاعد أزمة انهيار سعر صرف الليرة التركية، لجأت الحكومة إلى اتخاذ بعض الإجراءات، التي دخلت حيز التنفيذ في 13 يناير من العام الماضي، والتي لا يمكن وصفها إلا بالفاشلة؛ وذلك من أجل زيادة دخلها من العملات الأجنبية؛ من قبيل منح الجنسية التركية إلى أي أجنبي يشتري عقارات في تركيا، أو يودع أموالا بالعملات الأجنبية. وستُمنح الجنسية التركية -بموجب نظام الجنسية الجديد-إلى الأجانب المعنيين ببيان الوزارات الموضح أدناه، بعد تقديم الوزارة المختصة اقتراح منح الجنسية، وصدور قرار من مجلس الوزراء بهذا الصدد:
◘ أعلنت وزارة المالية أنها حققت استثمارا في رأس المال الثابت بما لا يقل عن 2 مليون دولار أميركي.
◘ أعلنت وزارة البيئة وتخطيط المدن عن شراء مستثمرين أجانب عقارات في تركيا بما لا يقل عن مليون دولار، وأنها اشترطت في عقود التمليك عدم بيع العقار لمدة ثلاث سنوات.
◘ أعلنت وزارة العمل والضمان الاجتماعي أنها وظَّفت ما لا يقل عن 100 شخص.
◘ أفادت لجنة مراقبة الأعمال المصرفية وتنظيمها أنها وضعت وديعة في البنوك العاملة في تركيا بقيمة 3 مليون دولار أميركي، محدودة بمدة ثلاث سنوات.
◘ أعلنت وزارة المالية عن بيع عدد من سندات دين حكومي للأجانب بقيمة 3 ملايين دولار أميركي، محدودة بمدة ثلاث سنوات.
لكن على الرغم من كل هذا، فقد قل الطلب خلال العام ونصف العام الماضي على طلب الجنسية التركية، وانخفضت مبيعات الوحدات السكنية بنسبة 30 بالمئة، بل وسارع الأجانب إلى الخروج من تركيا، بعدما قاموا بإفراغ محافظهم الاستثمارية في سوق الأوراق المالية والبورصة.
وعلى الرغم من وصول فائدة الخزانة إلى 22 بالمئة، ومنح البنوك أسعار فائدة تتراوح بين 25 و30 بالمئة على الودائع، فقد تم سحب ما يقارب 4 مليار دولار خلال أسبوع واحد من حسابات العملات الأجنبية الخاصة من المقيمين المحليين في تركيا، وقد تبخرت هذه الأموال.
ووصلت الثقة في الاقتصاد وفي الليرة التركية إلى الحضيض، بعد أن تخطى سعر صرفها الخمس ليرات مقابل الدولار، على خلفية أزمة القس برانسون مع الولايات المتحدة. لهذا فمن الصعب أن تؤتي دعوة رئيس الجمهورية المواطنين بالتوجه إلى البنوك وبيع ما لديهم من دولارات ثمارها هذه المرة.
وفي نهاية اجتماعه الخاص ببرنامج المئة يوم تحدث أردوغان قائلا “يستطيع كل مواطنينا الذين يسافرون خارج البلاد سواء للتجارة أو للسياحة أن يرفعوا رؤوسهم عاليا في كل مكان يذهبون إليه حول العالم، وأن يشعروا بالفخر لكونهم يحملون جواز السفر التركي، وأن يعيشوا تحت راية العلم التركي.
بات كل واحد من مواطنينا ينظر بأمل إلى المستقبل”، والحقيقة أن المواطنين أصبحوا -على العكس من ذلك- لا يثقون بعملتهم التي تتهاوى بسرعة بسبب التضخم في مواجهة العملات الأجنبية الأخرى.
لا أحد يستطيع التنبؤ بمستقبل هذا البلد. لا أقول في ستة أشهر، بل في الأشهر الثلاثة المقبلة، حتى البنك المركزي نفسه لا يمكنه ذلك. ومن المتوقع -في ظل تلك الظروف -أن تنهار أهداف البرنامج متوسط المدى 2023-2019 بعد عدة أشهر من الإعلان عنه، كما حدث في أمور مشابهة من قبل؛ وهو البرنامج الذي حدد له وزير المالية، بيرات ألبيراق، تاريخ “منتصف سبتمبر”، ثم خرج أردوغان ليكذِّب صهره بعد ذلك بقوله “سيعلن عنه في نهاية أغسطس”.
العرب