مع شروق شمس الرابع عشر من أغسطس/آب 2013، كان الرصاص المنهمر وجرافات العسكر وقنابل الغاز تملأ الأفق في ميدان رابعة، وحين مالت الشمس إلى مغيبها كان الموت يهيمن على المكان، وكانت الدماء المسفوكة تمتزج بالدموع المنهمرة.
وبانتهاء ذلك اليوم، طويت صفحة رابعة من الميدان، لكنها ظلت تقرع بيد مضرجة كل أبواب التاريخ بحثا عن حرية اختار لها قائد الانقلاب الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي أن تكون حمراء قانية.
في الساعات الأولى من ذلك اليوم، قامت قوات الشرطة المصرية مدعومة بقوات من الجيش بفض اعتصامي ميدان رابعة العدوية (شرق القاهرة) وميدان النهضة (غربا)، وقتلت وجرحت المئات من مؤيدي وأنصار الرئيس محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب في البلاد.
وصنفت المجزة من قبل هيئات حقوقية دولية باعتبارها أكبر مجزرة بمصر في التاريخ الحديث تحصل في يوم واحد، وبعد مرور خمسة أعوام على المجزرة ما زال “الجناة” أحرارا، بينما يلاحَق مئات من المشاركين في الاعتصام على خلفية الحادثة، ولا يزال سوط السيسي يدمي ظهور الناجين من المجزرة والمتعاطفين مع ضحاياها.
وقبيل فضّه، كان اعتصام رابعة هو التجمع الرئيسي والأكبر للرافضين للانقلاب العسكري والمطالبين بعودة الشرعية، بعد الانقلاب الذي قاده وزير الدفاع حينها المشير عبد الفتاح السيسي في الثالث من يوليو/تموز وأطاح فيه بالرئيس المنتخب محمد مرسي.
مذبحة القرن
ورغم مضي خمس سنوات على فض اعتصام رابعة وأخواتها، ما زالت الأمور غير واضحة بشأن الأعداد الفعلية للضحايا؛ فقد أكد التحالف الداعم للرئيس المعزول محمد مرسي -في بيان له- أن “إجمالي الوفيات في فض رابعة العدوية وحدها بلغ 2600 شخص، وهو نفس العدد الذي أصدره المستشفى الميداني في رابعة، بينما تضاربت الأرقام التي قدمتها السلطة ومؤسساتها، فذكرت مرة أن العدد هو 288، ثم رفعته مرة إلى 377، قبل أن توصله في تقرير آخر إلى ما هو أكبر من ذلك.
ولكن منظمة هيومن رايتس ووتش أكدت في تقرير لها أصدرته في أغسطس/آب 2014 نتائج تحقيق استمر لمدة عام في مذبحة رابعة وما أعقبها من حوادث قتل جماعية أخرى للمتظاهرين، استنادا إلى مقابلات مع أكثر من ألفي شاهد؛ أن قوات الأمن قتلت 817 متظاهرا على الأقل في غضون ساعات قليلة خلال ذلك اليوم.
ووصفت المنظمة الإنسانية ما حدث بإحدى أكبر عمليات القتل الجماعي في تاريخ مصر الحديث، وقالت إن “الاستخدام المتعمد، عديم التمييز للقوة المميتة، يشير إلى واحدة من كبرى وقائع قتل المتظاهرين في العالم في يوم واحد، في التاريخ الحديث”.
وخلصت استنادا إلى مجموعة أدلة أن عمليات القتل لا تشكل انتهاكات خطيرة للقانون الدولي لحقوق الإنسان فحسب، بل من المحتمل أنها تشكل جرائم ضد الإنسانية، لكونها ممنهجة وواسعة النطاق، ولوجود أدلة تشير إلى أن عمليات القتل كانت جزءا من سياسة متبعة.
حصانة للمتهمين
وفي الذكرى الخامسة، لا تزال يد القضاء المصري مغلولة عن محاسبة مرتكبي مذبحة رابعة -بحسب وصف منظمات حقوقية- وترى مديرة قسم الشرق الأوسط في هيومن رايتس ووتش سارة ليا ويتسن أنه “بعد خمس سنوات من مذبحة رابعة، كانت الاستجابة الوحيدة من السلطات هي محاولة كف يد العدالة عن المسؤولين عن هذه الجرائم”، بينما كان “ردّ حلفاء مصر على جرائم رابعة وعدم إنصاف الضحايا هو الصمت المطبق”.
والواقع أن “كف يد العدالة” عن محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم أخذ أنماطا متعددة، وشاركت فيها كبريات مؤسسات الدولة وأجهزتها القضائية والتشريعية والتنفيذية؛ فقد أقرّ البرلمان المصري مؤخرا قانونا يمنح قادة الجيش وكبار الضباط حصانة مفتوحة ومزايا واسعة، وذلك في مواجهة اتهامات واسعة من حقوقيين مصريين ودوليين لكبار ضباط الجيش والأمن المصري بارتكاب مجازر غير مسبوقة في تاريخ مصر.
وقُدم القانون المحصن “للمتورطين” في الجرائم -وفقا للمنظمات الحقوقية- من قبل الحكومة، وناقشته لجنتا الدفاع والأمن القومي، ثم قدم إلى جلسة برلمانية مفتوحة ليتم إقراره مبدئيا على عجل، دون مسار طويل في انتظار إقراره النهائي في جلسة لاحقة ينتظر ألا تتأخر طويلا.
ويهدف القانون -بحسب التصريحات الرسمية- إلى تكريم الضباط الذين قدموا أرواحهم فداء للوطن في مرحلة حساسة من تاريخه، ويمثل بالنسبة للمعارضين ونشطاء التواصل الاجتماعي “رشوة” من الرئيس عبد الفتاح السيسي لقادة المؤسسة العسكرية، وتمكينا لهم من الإفلات من العقاب.
وعلى المستوى القضائي واصلت المحاكم المصرية محاكمة المئات على خلفية مشاركتهم في اعتصام رابعة. ففي 28 يوليو/تموز الماضي أصدرت دائرة الإرهاب في محكمة جنايات جنوب القاهرة أحكاما بالإعدام على 75 متهما في قضية فض اعتصام رابعة، التي حوكم فيها أكثر من 739 متهما، نصفهم تقريبا محتجزون، ووجهت لهم “تهم القتل العمد، ومهاجمة المواطنين، ومقاومة السلطات، وتدمير الممتلكات العامة، وحيازة الأسلحة النارية وقنابل المولوتوف”. ووصفت هيومن رايتس ووتش تلك المحاكمة الجماعية بالجائرة.
وفي المجمل، هناك نحو ثماني قضايا متعلقة باعتصام رابعة على أجندة القضاء المصري وبعضها صدرت فيها أحكام وبعضها ما زال في الانتظار، ومن هذه القضايا ما يعرف بـ”خطف ضابط وشرطي واحتجازهما داخل المستشفى الميداني بميدان رابعة العدوية”، وقضية “غرفة عمليات رابعة”، وقضية أخرى تعرف بـ”أحداث المنصة”، كما وجهت اتهامات بالمسؤولية عن تدبير تجمهر مسلح والاشتراك فيه بميدان رابعة العدوية وقطع الطرق، وتقييد حرية الناس في التنقل، وتعمد تعطيل سير وسائل النقل لعدد من المشاركين في الاعتصام.
أصابع خليجية
وجد نظام السيسي دعما قويا من بعض الدول الخليجية (السعودية والإمارات والبحرين) التي أبدت تفهما للإجراءات التي قامت بها مصر لحماية “استقرارها”، بينما وقفت قطر وتركيا في الاتجاه المعاكس المندد بما حدث.
وقوبلت المجزرة برفض وتنديد غربي واسع سياسيا وحقوقيا، ولكن الدول الغربية التي نددت بالمجزرة سرعان ما سبحت فوق أنهار الدم وطبعت علاقاتها مع نظام السيسي وانخرطت معه في تعاون اقتصادي وسياسي رغم أن دماء المذبحة ما زالت تنزف وجراحها لم تندمل.
ويرى كثيرون أن الدعم الذي لقيه السيسي من بعض الدول العربية والصمت الغربي -رغم الإدانات اللفظية الأولية- الذي تحول لاحقا إلى تطبيع ثم تقارب، ساهم في عدم إنصاف الضحايا وذويهم وعدم جر المسؤولين عن الجريمة إلى قضاء مستقل نزيه.
رابعة.. ذكرى أخرى للدم ونيل فوار على شاطئ النيل، التقت فيها مصالح الشرق والغرب وإرادة الرصاص والصدور العارية، تمزقت الصدور وبقيت رابعة أيقونة للنضال.
المصدر : الجزيرة + وكالات,مواقع إلكترونية