لندن – خلال العقود الثلاثة الأخيرة، عرفت هوليوود موجة أفلام تتركّز قصصها حول نهاية البشرية وفناء الأرض بسبب التلوث والتغيرات المناخية التي يتسبب فيها الإنسان. في البداية، صنّفت هذه الأفلام ضمن قسم الخيال العلمي، ثم ظهر مصطلح الخيال المناخي مع الكاتب والناشط الأميركي في قضايا المناخ، دان بلوم، الذي يعرّف هذه التسمية بأنها عمل خيالي يستكشف التغيرات المناخية وظاهرة الاحترار العالمي في قالب قصصي.
وبعيدا عن المؤثرات الهوليوودية تعكس هذه الأفلام هاجسا حقيقيا، وحتى تلك الأفلام التي يعود تاريخها إلى الثمانينات والتسعينات، أي قبل أن استفاد الناشطون في مجال المناخ من الثورة في مجال وسائل التواصل، لم تكن قصصها من وحي خيال الكتاب والمخرجين، بل بنيت على تسريبات أو معلومات.
تؤكد ذلك وثائق عثر عليها حديثا يعود تاريخها إلى ثمانينات القرن الماضي، وتكشف أن شركات كبرى في مجال النفط والوقود الأحفوري قامت بطمس حقائق حول المناخ والبيئة بعد أن تبين لها تأثير ما توصلت إليه أبحاث حول الغازات الدفيئة على منتجاتها.
ونشرت صحيفة الغارديان مؤخرا تحليلا لبنيامين فرانتا، زميل باحث في مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية في كلية هارفارد كينيدي للإدارة الحكومية، يكشف بعض تفاصيل هذه الحقائق المخفية والدور الذي لعبته شركات مثل شل وإكسون موبيل في الدفع نحو عدم الكشف عن معلومات هامة في مجال أبحاث المناخ.
المقامرة بمصير البشرية
في ثمانينات القرن الماضي، أجرت شركات النفط مثل إكسون وشل تقييمات داخلية لثاني أكسيد الكربون المنبعث من أنواع الوقود الأحفوري، وتنبأت بحدوث عواقب كثيرة لهذه الانبعاثات؛ فعلى سبيل المثال، تنبأت إكسون في عام 1982، أنه بحلول عام 2060 تقريبا، قد تصل مستويات ثاني أكسيد الكربون إلى حوالي 560 جزءا في المليون، وهو ضعف المستوى الذي كان موجودا قبل الثورة الصناعية، وسيؤدي هذا بدوره إلى ارتفاع معدل درجات الحرارة على كوكب الأرض بحوالي درجتين مئويتين أعلى من المستويات الحالية (أو أكثر بالمقارنة بمستويات ما قبل الثورة الصناعية).
وفي وقت لاحق من هذا العقد، وتحديدا في عام 1988، توقّع تقرير داخلي أجرته شركة شل حدوث آثار مماثلة لكن التقرير خلص إلى أن ثاني أكسيد الكربون قد يتضاعف بحلول 2030، أي قبل التوقيت الذي حددته إكسون. وعلى نحو سري، لم تجادل هذه الشركات بوجود صلات بين منتجاتها من جانب، والاحتباس الحراري وتلك الكارثة البيئية من جانب آخر. بل على العكس، أكدت الأبحاث التي أجرتها الشركتان وجود صلات.
وتنبأ تقرير شل بارتفاع مستوى البحر مترا، وأشار إلى أن ارتفاع درجة الحرارة يمكن أن يؤدي إلى تفكك وقود للغطاء الجليدي لغرب القارة القطبية، مما ينتج عنه ارتفاع مستوى سطح البحر في أنحاء العالم “خمسة أو ستة أمتار”. وهذا كاف لإغراق الدول المنخفضة بالكامل.
كما حذر محللو شل من “اختفاء أنظمة بيئية محددة أو تدمير موائل” وتنبأوا أيضا بحدوث زيادة في “جريان الفيضانات المدمرة، وإغراق الأراضي الزراعية المنخفضة”. وقالوا “ستكون هناك حاجة إلى وجود موارد جديدة للمياه الصالحة للشراب” لتعويض التغييرات التي ستحدث بهطول الأمطار. كما ستشهد درجات حرارة الجوّ تغييرات عالمية أيضا وستؤدي هذه التغييرات إلى حدوث “تغير جذري في طريقة عيش وعمل الناس”.
وقال الجميع إن “التغييرات قد تكون الأكبر التي يتم تسجيلها على مرّ التاريخ المدون”، وهذا ما توصلت إليه أبحاث شل.
من جانبها، حذرت إكسون من “أحداث كارثية محتملة يجب وضعها في الاعتبار”. ومثلهم مثل خبراء شل، تنبأ العلماء العاملون في إكسون بارتفاع مستوى سطح البحر إلى مستويات مدمرة، وحذروا من أن الغرب الأوسط الأميركي وأجزاء أخرى من العالم يمكن أن تكون قاحلة مثل الصحراء. وبالنظر إلى الجانب المضيء، فإن الشركة قد أعربت عن ثقتها من أن “هذه المشكلة ليس لها تأثير كبير على البشر مثل تأثير الإبادة النووية أو حدوث مجاعة عالمية“.
من يتحمل المسؤولية
يشير بنيامين فرانتا إلى أن هذه الوثائق تجعل القراءة مخيفة. والتأثير المخيف الأكثر خطورة هو وجهة نظر رفض شركتي النفط العملاقتين تحذير العامة بالمخاطر التي اكتشفها الباحثون. وكشفت منظمة إخبارية هولندية في وقت سابق من العام الجاري لأول مرة عن تقرير شل الذي حمل صفة “سري”. أما الدراسة التي أجرتها إكسون لم تكن هناك نية لتوزيعها خارجيا، لكن تم تسريبها في عام 2015. ولم تتحمل أي من الشركتين المسؤولية قط عن منتجاتهما. ففي دراسة شل، جادلت الشركة بأن “العبء الرئيسي” لمواجهة التغيّر المناخي لا يقع على عاتق صناعة الطاقة، لكن يقع على عاتق الحكومات والمستهلكين. ويبدو هذا الجدال منطقيا إذ لم يكذب المديرون التنفيذيون العاملون في شركات النفط، بمن فيهم أولئك الذين يعملون في إكسون وشل، عن تغير المناخ، وعملوا بنشاط لمنع الحكومات من سن سياسات الطاقة النظيفة.
وعلى الرغم من أن تفاصيل التغير المناخي كانت غريبة على أغلب الناس في الثمانينات من القرن الماضي، فإن الشركات التي تساهم بالجزء الأكبر في التغير المناخي كانت من بين أولئك القلائل الذين كانت لديهم فكرة أفضل عن التغير المناخي. وتشير تقارير إلى أن المنظمات التي تروج للمعلومات المغلوطة عن المناخ تلقى دعما ماليا كبيرا من هذه الشركات.
وينتقد بنيامين فرانتا ما قامت به شل وإكسون بقوله “على الرغم من الشكوك العلمية، فإن النقطة الرئيسية كانت أن شركات النفط تُدرك أن منتجاتها تُضيف ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي، وتفهم أن هذا سيؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة، وقامت بحساب العواقب المحتملة. ثم اختارت الشركات قبول هذه المخاطر بالنيابة عنا، على حسابنا، ودون أن نعرف هذا“.
التهديد النووي
في أحد أيام عام 1961، عثر عالم الاقتصاد الأميركي دانيال إلسبيرج على قطعة من الورق ذات مضامين كارثية. واكتشف إلسبيرج، الذي كان يقدم النصيحة للحكومة الأميركية في ما يتعلق بخططها السرية لشن حرب نووية، وثيقة تحتوي على تقدير رسمي لعدد القتلى في “أول ضربة” وقائية على الصين والاتحاد السوفيتي: 300 مليون شخص في الصين والاتحاد السوفيتي سيموتون بالإضافة إلى ضعف هذا العدد عالميا.
وكان إلسبيرج يشعر بالانزعاج من وجود مثل هذه الخطة، وبعد مرور سنوات، حاول تسريب تفاصيل الإبادة النووية للعامة. وعلى الرغم من فشل محاولته، فقد اشتهر إلسبيرج بدلا من ذلك بتسريب ما عرف بأنه أوراق البنتاغون– التاريخ السري لتدخل الحكومة الأميركية في فيتنام.
ويرى بنيامين فرانتا أن التخطيط العسكري غير الأخلاقي للولايات المتحدة خلال الحرب الباردة يُحاكي الغطرسة التي أبداها عدد من الشخصيات الأخرى التي كانت تقامر بمصير البشرية. ومؤخرا، كشفت وثائق سرية عن تفاصيل ما كانت تعرفه شركات صناعة الطاقة عن الصلات بين منتجاتها والاحتباس الحراري. لكن، على عكس الخطط النووية الحكومية، فإن ما كتبت عنه الصناعة بالتفصيل قد دخل موضع التنفيذ.
ويضيف قائلا إن خطط الحرب النووية الكارثية التي اكتشفها إلسبيرج في ستينات القرن الماضي كانت تمثل تهديدا مستمرا لم يحدث لحسن الحظ. لكن تنبؤات التغير المناخي السرية التي أجرتها صناعة النفط أصبحت حقيقة، ولم يحدث هذا عرضا. ويرى أن منتجي الوقود الأحفوري قادوا البشرية عن عمد نحو مستقبل قاتم يخشونه عن طريق الترويج لمنتجاتهم، والكذب حول تأثيرات هذه المنتجات، ودفاعهم بشكل حازم عن نصيبهم في سوق الطاقة.
ويخلص بنيامين فرانتا بأنه “كلما ارتفعت درجة حرارة العالم، فإن لبنات التغير في كوكبنا -الغطاء الجليدي، والغابات، وتيارات الغلاف الجوي وتيارات المحيط- تتغير بصورة غير قابلة للإصلاح. وعلى الرغم من أن مخططي الحرب وشركات الوقود الأحفوري كانت لديهم الغطرسة لتقرير مستوى الدمار المناسب للإنسانية، فإن شركات النفط الست الكبرى هي من لديها الجرأة لإنجاز هذه المهمة”.
العرب