سياسة الهدم الإسرائيلية: الخان الأحمر مجرد فصل في قصة إبادة جماعية أكبر

سياسة الهدم الإسرائيلية: الخان الأحمر مجرد فصل في قصة إبادة جماعية أكبر

كان هدم إسرائيل الكثيف لمنازل الفلسطينيين في غزة، وفي كل مكان آخر، سابقاً على ظهور حماس بعقود، وليست له علاقة بطريقة المقاومة التي يستخدمها الفلسطينيون في كفاحهم ضد الاحتلال. إن هدم إسرائيل لفلسطين -سواء كان ذلك يتعلق بالهياكل المادية الفعلية أو الفكرة، والتاريخ، والسرد، وحتى أسماء الشوارع- هو قرار إسرائيلي بكل ما في الكلمة من معنى.
*   *   *
مثل الطيور الجوارح، هبط الجنود الإسرائيليون على الخان الأحمر في 14 أيلول (سبتمبر)، معيدين عرضَ نفس المشهد المهدِّد، الذي يألفه تماماً سكان هذه القرية الفلسطينية الصغيرة الواقعة شرقي القدس.
يروي الموقع الاستراتيجي الذي تحتله قرية الخان الأحمر القصة الكامنة وراء الهدم الإسرائيلي الوشيك للقرية المسالمة الفريدة، وسط التدمير المتواصل لمنازل الفلسطينيين وأرواحهم في غزة المحاصرة والضفة الغربية المحتلة.
على مر السنين، كانت قرية الخان الأحمر، التي كانت ذات مرة جزءاً من مشهد فيزيائي فلسطيني متصلٍ غير منقطع، تصبح أكثر عزلة بشكل متزايد. وقد تركت عقودُ من الاستعمار الإسرائيلي للقدس الشرقية والضفة الغربية قرية الخان الأحمر محاصرة بين المشاريع الاستعمارية الإسرائيلية الكثيفة التي يتم توسيعها بشكل هائل: معالي أدوميم، كفار أدوميم، وغيرهما من المستعمرات.
والآن، تشكل القرية سيئة الحظ، مع المدرسة المجاورة و173 شخصاً العقبة الأخيرة التي تواجه مشروع “المنطقة إي-1″، وهو خطة إسرائيلية تهدف إلى ربط المستعمرات اليهودية غير القانونية في القدس الشرقية المحتلة بالقدس الغربية، وبالتالي قطع القدس الشرقية بالكامل عن ضواحيها الفلسطينية في الضفة الغربية.
مثل قرية العراقيب في النقب، التي هدمتها إسرائيل وأعاد سكانها بناءها 133 مرة، يواجه سكان الخان الأحمر جنود الاحتلال المدججين بالسلاح والجرافات العسكرية بصدورهم العارية، وبأي تضامن محلي ودولي يمكنهم الحصول عليه.
مع ذلك، وعلى الرغم من الظروف الخاصة والسياق التاريخي الفريد للخان الأحمر، فإن قصة هذه القرية ليست سوى مجرد فصل في رواية مطوِّلة لمأساة امتدت على مدار سبعين عاماً.
سيكون من الخطأ مناقشة تدمير الخان الأحمر أو أي قرية فلسطينية أخرى خارج السياق الأكبر لممارسة الهدم التي وقفت في القلب من عقيدة إسرائيل الاستعمارية الاستيطانية.
صحيح أن القوى الاستعمارية الأخرى استخدمت تدمير المنازل والممتلكات، ونفي مجتمعات بأكملها كتكتيك لإخضاع السكان الثائرين. وقد استخدمت حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين هدم البيوت كتكتيك لـ”الردع” ضد الفلسطينيين الذين تجرأوا على الثورة ضد الظلم على مدى عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، إلى أن تولت إسرائيل السيطرة في العام 1948.
لكن الاستراتيجية الإسرائيلية أكثر تعقيداً بكثير من مجرد “الردع”. وقد أصبح منقوشاً الآن في النفسية الإسرائيلية أن فلسطين يجب أن تُدمَّر حتى توجَد إسرائيل. ولذلك، تنخرط إسرائيل في حملة لا نهاية لها على ما يبدو لمحو كل شيء فلسطيني، لأن الأخير، من وجهة نظر إسرائيلية، يمثل تهديداً وجودياً للأولى.
هذا بالضبط هو السبب الذي يجعل إسرائيل ترى في النمو الديموغرافي الطبيعي بين الفلسطينيين “تهديداً وجودياً” لـهوية إسرائيل اليهودية”.
لا يمكن تبرير هذا السلوك إلا بوجود درجة غير معقولة من الكراهية والخوف التي تراكمت عبر الأجيال، إلى درجة أنها أصبحت تشكل الآن ذُهاناً جماعياً إسرائيلياً، والذي يستمر الفلسطينيون في دفع ثمن باهظ له.
ويشكل التدمير المتكرر لقطاع غزة أحد أعراض هذا الذهان الإسرائيلي. وكان التفسير الرسمي الذي قدمته تسيبي ليفني، وزيرة الخارجية الإسرائيلية في كانون الثاني (يناير) 2009 لتبرير الحرب التي شنته إسرائيل على قطاع غزة المحاصر، أن إسرائيل هي “بلد عندما تطلِقُ النار على مواطنيه، فإنه يستجيب بأن يصبح جامحاً – وهذا أمر جيد”. وقد أدت استراتيجية إسرائيل “الجامحة” إلى تدمير 22.000 منزل ومدرسة ومرفق آخر خلال واحدة من أشد حروب إسرائيل على القطاع قتلاً.
وبعد بضع سنوات، في صيف العام 2014، أصبحت إسرائيل “جامحة” مرة أخرى، مما أدى إلى إحداث قدر أكبر من الدمار والخسائر في الأرواح.
كان هدم إسرائيل الكثيف لمنازل الفلسطينيين في غزة، وفي كل مكان آخر، سابقاً على ظهور حماس بعقود، وليست له علاقة بطريقة المقاومة التي يستخدمها الفلسطينيون في كفاحهم ضد الاحتلال. إن هدم إسرائيل لفلسطين -سواء كان ذلك يتعلق بالهياكل المادية الفعلية أو الفكرة، والتاريخ، والسرد، وحتى أسماء الشوارع- هو قرار إسرائيلي بكل ما في الكلمة من معنى.
يظهر مسحٌ سريع للحقائق التاريخية أن إسرائيل هدمت المنازل والمجتمعات الفلسطينية في سياقات سياسية وتاريخية متنوعة، حيث لم يكن “أمن” إسرائيل عاملاً بأي حال من الأحوال.
وقد تم تدمير ما يقرب من 600 بلدة وقرية وموقع فلسطيني بين العامين 1947 و1948، وتم نفي نحو 800.000 فلسطيني من أجل إفساح المجال لإنشاء إسرائيل.
ووفقاً لمسوحات “مركز أبحاث الأراضي”، فقد دمرت إسرائيل 5.000 منزل فلسطيني في القدس وحدها منذ أن احتلت المدينة في العام 1967، مما أدى إلى النفي الدائم لما يقرب من 70.000 شخص. وإلى جانب حقيقة أن ما يقرب من 200.000 من المقدسيين كانوا قد طردوا من ديارهم خلال النكبة في العام 1948، وبالإضافة إلى التطهير العرقي البطيء المستمر، كانت المدينة المقدسة خاضعة لحملة من التدمير المتواصل منذ تأسيس إسرائيل.
في الحقيقة، تم في الفترة بين العامين 2000 و2017 هدم أكثر من 1.700 منزل فلسطيني، وهو ما أدى إلى نزوح ما يقرب من 10.000 شخص. وهذه ليست سياسة “ردع”، وإنما سياسة محو -القضاء على الثقافة الفلسطينية ذاتها.
وليست غزة والقدس مثالين فريدين أيضاً. فوفقاً لتقرير اللجنة الإسرائيلية لمكافحة هدم المنازل (ICAHD) الذي صدر في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، تم منذ العام 1967 “هدم ما يقرب من 50.000 منزل فلسطيني -مما أدى إلى تشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين وأثر على سبل عيش آلاف آخرين”.
وإذا ما أضيف ذلك إلى تدمير القرى الفلسطينية عند إقامة إسرائيل، وهدم منازل الفلسطينيين داخل إسرائيل نفسها، تقدر لجنة مكافحة هدم المنازل إجمالي عدد المنازل الفلسطينية التي دمرت منذ العام 1948 بأكثر من 100.000 منزل.
في الحقيقة، يبقى الرقم المذكور أعلاه، كما تعترف المجموعة نفسها، متحفظاً تماماً. وهو كذلك بالتاكيد. ففي غزة وحدها، في السنوات العشر الأخيرة التي شهدت ثلاث حروب إسرائيلية رئيسية، ذُكِر أنه تم تدمير ما يقرب من 50.000 منزل ومرفق.
وإذن، لماذا تمارس إسرائيل كل هذا التدمير بثبات، وحصانة، وبلا ندم؟
إنه لنفس السبب الذي تم لأجله تمرير القوانين لتغيير أسماء الشوارع التاريخية من العربية إلى العبرية. ولنفس السبب الذي مُرر لأجله قانون الدولة القومية العنصري مؤخراً، والذي يعلي من شأن كل شيء يهودي ويقلل تماماً من شأن وجود الفلسطينيين الأصليين ولغتهم وثقافتهم التي تعود إلى آلاف السنين.
تمارس إسرائيل الهدم والتدمير والتمزيق، لأنه، في العقلية العنصرية للحكام الإسرائيليين، لا يمكن أن يكون هناك متسع بين البحر والنهر سوى لليهود؛ بينما لا يُؤخد الفلسطينيون –المظلومون والمستعمَرون والذين تُمتهن إنسانيهم- بأي قدر من الاعتبار في حسابات إسرائيل الوحشية.
ليست خطة الهدم الجديدة مسألة تخص قرية الخان الأحمر وحدها. إنها مسألة تتعلق ببقاء الشعب الفلسطيني نفسه، الذي تهدده دولة عنصرية سُمِح لها بأن تظل “جامحة” على مدى سبعين سنة، من دون ترويض ولا خوف من عواقب.

الغد