فلسطين: حالة اختبار لخطة ترامب لتمزيق النظام الدولي القائم على القواعد

فلسطين: حالة اختبار لخطة ترامب لتمزيق النظام الدولي القائم على القواعد

يكشف قرار واشنطن تكثيف التخفيضات القاسية في المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة للفلسطينيين -وتشمل أحدث الأهداف مرضى السرطان ومجموعات السلام- عن أكثر من مجرد تصميم بسيط على ليِّ ذراع القيادة الفلسطينية وجلبها بالقوة إلى طاولة المفاوضات.

تحت غطاء الجهود لجلب سلام مفترض، أو ما تُدعى “صفقة القرن”، تأمل إدارة ترامب في حل مشاكل أقرب إلى الوطن. إنها تريد في النهاية أن تنفض عن كاهلها عبء القانون الإنساني الدولي، وإمكانية عقد محاكمات عن جرائم الحرب التي طغت على الأعمال الأميركية في أفغانستان والعراق وليبيا وسورية -والتي ربما تثبت أنها غادرة أيضاً في التعاملات مع إيران.

لقد تم دفع الفلسطينيين إلى مركز هذه المعركة لسبب وجيه. فهم الإرث الأكثر إثارة للقلق في النظام الدولي القائم على قواعد لما بعد الحرب، والذي تبدو الولايات المتحدة الآن عاكفة على إلغائه. قم ببتر القضية الفلسطينية، وهي مكمن الظلم المتقيّح لأكثر من سبعة عقود، وسوف تصبح يد أميركا طليقة وستكون أكثر حرية في العمل في أي مكان آخر. وسوف تكون القوة هي الحق مرة أخرى.

ثمة اعتداء بدأ على النظام الدولي الهش من حيث صلته بالفلسطينيين بشكل جدي مسبقاً في الشهر الماضي. فقد أوقفت الولايات المتحدة جميع المساعدات للأونروا، وهي وكالة الأمم المتحدة للاجئين التي تساعد أكثر من خمسة ملايين فلسطيني يعيشون في المخيمات في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

ثم ازدادت الضغوط في الأسبوع الماضي عندما تم حجب 25 مليون دولار من المساعدات التي كانت ستذهب إلى المستشفيات في القدس الشرقية التي توفر شريان حياة للفلسطينيين من غزة والضفة الغربية، الذين تلاشت خدماتهم الصحية تحت الاحتلال الإسرائيلي العدواني.

ثم في نهاية الأسبوع، كشفت الولايات المتحدة أنها لن تستمر بعد الآن في تسليم أكثر من 10 ملايين دولار كانت تعطيها لمجموعات السلام التي تعمل على محاولة تعزيز العلاقات بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

وبذلك، يكون التحويل المالي المهم الوحيد الذي ما تزال الولايات المتحدة ملتزمة بدفعه هو الـ60 مليون دولار التي تدفعها سنوياً لأجهزة الأمن الفلسطينية، التي تقوم فعلياً بتعزيز الاحتلال بفعالية نيابة عن إسرائيل. وباختصار، تعود هذه الأموال بالنفع على إسرائيل، وليس على الفلسطينيين.

وفي الوقت نفسه، ألغت إدارة ترامب تأشيرة دخول الولايات المتحدة للسفير الفلسطيني في واشنطن، حسام زملُط، بعد فترة وجيزة من إغلاق مكتب بعثته الدبلوماسية هناك. وبذلك، تم إلقاء الفلسطينيين بالكامل في العراء.

يفترض معظم المراقبين -خطأ- أن الخناق يُشدَّد ببساطة لإجبار الفلسطينيين على الانخراط في خطة سلام ترامب، على الرغم من أن هذه الخطة ليست في أي مكان قريب. ومثل علبة قصدير غير مرغوب فيها، تم ركلها على طول الطريق خلال العام الماضي. وثمة افتراض معقول بأنه لن يتم كشف النقاب عنها أبداً. ففي حين أن الولايات المتحدة تبقي الجميع مشتتي الانتباه بالحديث الفارغ، ستواصل إسرائيل حلولها أحادية الجانب.

ومع ذلك، يقف العالم مشاهداً محايداً فحسب. ويبدو أن المجتمع الفلسطيني في قرية الخان الأحمر، خارج القدس، على بعد أيام فقط من مواجهة الهدم. وتعتزم إسرائيل تطهير سكان القرية عرقياً لتمهيد الطريق أمام بناء المزيد من المستوطنات اليهودية غير القانونية في منطقة رئيسية، وهو ما سيكون من شأنه القضاء على أي أمل في قيام دولة فلسطينية.

تهدف التصرفات العقابية الأخيرة التي صممها ترامب إلى خنق السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، تماماً مثلما فرضت إسرائيل سراً في وقت ما على الفلسطينيين في غزة “حمية” بهدف تجويعهم لجعلهم أكثر خضوعاً. والآن، يتم استكمال العقوبة الجماعية التي فرضتها إسرائيل على الفلسطينيين منذ أمد بعيد -والتي تشكل جريمة حرب في حد ذاتها بموجب اتفاقية جنيف الرابعة- بأنواع مماثلة من العقاب الجماعي الذي تمارسه الولايات المتحدة ضد اللاجئين ومرضى السرطان الفلسطينيين.

اعترف جاريد كوشنر، صهر ترامب ومستشاره، بهذا القدر في عطلة نهاية الأسبوع. وقال لصحيفة “نيويورك تايمز” إن التخفيضات في المساعدات كانت عقاباً للقيادة الفلسطينية “التي تشوه سمعة الإدارة (الأميركية)”.

وفي إشارة مشفرة إلى القانون الدولي، أضاف كوشنر أن الوقت قد حان لتغيير “الحقائق الزائفة”. ومهما أثبتت المؤسسات الدولية أنها الضعيفة، فإن إدارة ترامب، مثلها مثل إسرائيل، تفضل أن تعيش من دونها.

بشكل خاص، تكره الولايات المتحدة وإسرائيل القيود المحتملة التي يمكن تفرضها المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، والتي تتمتع بالسلطة اللازمة لمقاضاة الدول والأفراد عن جرائم الحرب. وعلى الرغم من أنها أنشئت في العام 2002، فإنها تعتمد على مجموعة من القوانين الدولية ومفاهيم حقوق الإنسان التي تعود إلى الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية مباشرة.

حدثت الجرائم التي ارتكبها القادة الصهاينة لدى إقامة إسرائيل على أنقاض وطن الفلسطينيين في العام 1948، تماماً بينما كان القانون الدولي في طور الولادة. وكانت حالة الفلسطينيين من بين الأوائل، وما تزال، التي تشكل الانتهاك الأكثر وضوحاً لهذا النظام العالمي الجديد القائم على القواعد.

سوف يكون تصحيح تلك الأخطاء التاريخية أكبر اختبار لما إذا كان القانون الدولي يمكن أن يرقى إلى ما هو أكثر من مجرد سجن الديكتاتور الإفريقي غريب الأطوار.

تم تأكيد أهمية القضية الفلسطينية هذا الشهر من خلال اثنين من التحديات التي تم التعامل معهما في منتديات دولية. فقد ناشد المشرِّعون من الأقلية الفلسطينية الكبيرة في إسرائيل الأمم المتحدة فرض عقوبات على إسرائيل بسبب تمريرها مؤخراً القانون الأساسي للدولة الشبيهة بنظام الأبارتيد. ويضفي هذا القانون دستورية على التمييز المؤسسي ضد خُمس السكان غير اليهود في إسرائيل.

وفي مناسبة أخرى، لفتت السلطة الفلسطينية انتباه محكمة لاهاي إلى تدمير إسرائيل الوشيك لقرية الخان الأحمر. وتقوم المحكمة الجنائية الدولية الآن بدراسة ما إذا كانت ستقيم دعوى ضد إسرائيل بشأن المستوطنات المبنية على الأراضي المحتلة.

وفي هذا الإطار، قالت وزارة الخارجية الأميركية إن التخفيضات في المساعدات وإغلاق السفارة الفلسطينية كانت مدفوعة جزئياً “بمخاوف” بشأن إحالة لاهاي المذكورة. وفي الأثناء، تعهد جون بولتون، مستشار ترامب للأمن القومي، بحماية إسرائيل من أي محاكمات عن جرائم حرب.

وسط كل ذلك، كان الأوروبيون واقفين غالباً على الحياد. وفي الأسبوع الماضي، أصدر البرلمان الأوروبي قراراً يحذر فيه من أن تدمير قرية الخان الأحمر و”النقل القسري” لسكانها سوف يشكلان “انتهاكاً خطيراً” للقانون الدولي. وفي خطوة غير اعتيادية، هدد الاتحاد أيضاً بمطالبة إسرائيل بتعويض عن أي ضرر يلحق بالبنية التحتية التي أنشِئت بتمويل من أوروبا في الخان الأحمر.

لا شك أن الدول الرائدة في أوروبا تريد التمسك بمظهر وجود نظام دولي تعتقد أنه حال دون انزلاق منطقتها إلى حرب عالمية ثالثة. ومن الناحية الأخرى، تبدو إسرائيل والولايات المتحدة مصممتين على استخدام فلسطين كورقة اختبار لتفكيك هذه الحمايات.

سوف تكون الجرافات الإسرائيلية التي أرسلت إلى الخان الأحمر بصدد بشن هجوم أيضاً على أوروبا وعزمها على الدفاع عن القانون الدولي والفلسطينيين. ولكن، عندما يحين الوقت للعمل، هل سيصمد تصميم أوروبا على الرد؟

الغد