في 17 أيلول/سبتمبر، أسقطت قوات الدفاع الجوي السورية طائرة استطلاع روسية من طراز “إليوشن 20” في أعقاب الضربة الأخيرة التي نفّذها “سلاح الجو الإسرائيلي” ضد مواقع إنتاج الصواريخ الإيرانية الدقيقة في اللاذقية، مما أسفر عن حدوث أزمة في العلاقات بين روسيا وإسرائيل. وما حدث ببساطة هو أن القوات السورية بدأت بإطلاق النار بعد فترة من وقوع الهجوم الإسرائيلي، بإطلاقها عشرات الصواريخ في اتجاهات مختلفة وعلى مسافات مختلفة – ليصيب أحدها الطائرة الروسية ويؤدي إلى مقتل جميع أفراد طاقمها الخمسة عشر. وفي الواقع أن هذا النوع من الرد السوري ليس استثنائياً، والدليل هو ما حدث في أعقاب القصف الصاروخي الذي قادته الولايات المتحدة ضد أهداف سورية بعد الهجوم بالأسلحة الكيميائية الذي شنّه النظام السوري في نيسان/أبريل.
وفي حملة الترويج الدعائية التي أعقبت الحادثة، سعت موسكو إلى إبعاد اللوم عن الجيشين السوري والروسي. ورغم عدم ذكر سوريا، إلا أن وزارة الدفاع الروسية ألقت اللوم بالكامل على إسرائيل متجنبة حتى ذكر سوريا. لكن الأكثر دلالة في هذا الشأن هو الدقائق الأربع والعشرون التي مرّت – وفقاً للجدول الزمني المزعوم لروسيا نفسها – بين الإخطار الذي وجّهته إسرائيل لروسيا لتنبيهها بالضربة الموشكة على اللاذقية (في الساعة 21:39) ووابل الصواريخ المضادة للطائرات الذي أطلقته سوريا ردّاً عليها (في الساعة 22:03). وبالنظر إلى إمكانيات التقاط الصور الجوية، والسيطرة الجوية، والاتصالات، والاستشارات، والإشراف التي تتحلى بنسبة معقولة من الأداء الفعال، فإن هذا يعني أن الوقت كان كافياً لتغيير مسار الطائرة الروسية بعيداً عن منطقة الخطر.
وفي 24 أيلول/سبتمبر، أي بعد مرور أسبوع على الحادثة، تعهدت روسيا بتزويد سوريا بصواريخ أرض-جو متطورة (على الأرجح من طراز “إس-300 بي. إم. يو”، أو “فافوريت”، المعروف في حلف “الناتو” بتسمية “Gargoyle B“)، وقدرات حربية إلكترونية ( من المرجح أنها “Krasukha-4“) في غضون أسبوعين، ونُظم للتحكم والسيطرة والاتصالات والحوسبة (معروفة بمنظومات C4). وأثار هذا الإعلان موجةً من التكهنات الإعلامية حول العمليات الإسرائيلية المستقبلية في سوريا. أما على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، فيبدو أن بوادر الانقسام بدأت تتبلور بين مؤيدي رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذين يؤكدون أن الوضع تحت السيطرة، وبين معارضيه الذين يردّون بأن “اللعبة قد انتهت” وسيتعين على إسرائيل وقف جميع العمليات الجوية في سوريا. وفي هذا الحالة هناك عدة جوانب تستحق نظرة أكثر تفحصاً.
سلوك روسيا
هناك القليلون الذين يشكّون بأن الحادثة التي أودت بحياة خمسة عشر جندياً روسياً من نيران دولة حليفة، وما كشفه ذلك عن الإخفاقات العسكرية الروسية، يمكن أن يكون لها وقعاً سلبياً على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمؤسسة الدفاعية لبلاده. بيد، يملك بوتين خبرة واسعة في محاولة قلب مثل هذه المواقف لصالحه. والمبدأ الذي يسترشد به عند الردّ يتضمن على ما يبدو تعظيم إمكانية استغلال الأزمة مع محاولة جعل جميع الأطراف المعنية، بما فيها جهات محلية، مدينةً له. وانطلاقاً من هذه الحسابات، تصبح إسرائيل مدينةً لبوتين بسبب مسؤوليتها المزعومة، ولحمايتها من غضب الجنرالات الروس، ولسماحها بإشعال الأزمة. ومن ناحية نظام الأسد في سوريا فسيكون مديناً له بسبب مسؤوليته الفعلية [عن وقوع الحادث] ومقابل الأسلحة الجديدة التي قُدِّمت له. وإيران مدينة له على جهوده في ضبط إسرائيل، وربما ستدفع تكاليف ذلك (مليار دولار؟). أما وزارة الدفاع الروسية فهي مدينة له على تغطية إخفاقاتها.
وإذا نظرنا إلى حزمة الأسلحة الروسية إلى سوريا في سياقٍ تاريخي أوسع، نجد أنها تسير على خطى الاتحاد السوفيتي في منتصف الثمانينيات. ففي ذلك الوقت، وبعد أن دمّرت إسرائيل عشرات الطائرات السورية والعديد من بطاريات الدفاع الجوي في لبنان وأجوائه، زوّدت موسكو دمشق ببطاريات من نوع “أس-200” – تسببت إحداها بإسقاط طائرة “إليوشين-20” – وبنظم التحكم والسيطرة والاتصالات التي تعود لتلك الفترة. وحالياً، فبالإضافة إلى مبيعات الأسلحة المربحة نفسها، فإن تفعيل هذه الأنظمة سيضمن الاعتماد السوري على روسيا على مدى العقود القادمة. وفي الواقع، أتاحت الأزمة لروسيا بالمضي قدماً في مبيعات الأسلحة التي كانت متوقفة لسنوات، ربما بسبب الطلبات الإسرائيلية أو حتى الأمريكية. ولكن بعد أن أفادت التقارير في الأسبوع الماضي عن عدة رحلات شحن جوية لطائرات “أنتونوف -124” كانت متجهة إلى سوريا، أبلغ وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو الرئيس بوتين في 2 تشرين الأول/أكتوبر أن عملية تسليم الأنظمة قد اكتملت في اليوم السابق، وتضمنت أربع قاذفات و49 مكوّناً بالإجمال. وأضاف أن الطواقم السورية ستتدرب على تشغيل النظام في غضون ثلاثة أشهر. إن هذا الإمداد الفوري والنشر التدريجي (الذي ستتم مناقشتهما أدناه) قد فتحا الأبواب الروسية أمام طلبات متجددة من إسرائيل والولايات المتحدة، وهذا أمر تستطيع موسكو استغلاله لتعزيز نفوذها.
سلوك إسرائيل
بالنسبة لإسرائيل، كان تعاملها مع روسيا أثناء الأزمة رصيناً ومنظماً بشكل ملحوظ، على الرغم من أنه عكَس إدراكاً تاماً للتداعيات المحتملة. فقد تم تكليف مسؤولين في “الجيش الإسرائيلي” بالقيام بتقصي الحقائق والتواصل مع القيادة العسكرية الروسية العليا. وحين عرض هؤلاء المسؤولون الإسرائيليون استنتاجاتهم لزملائهم الروس، سلّطوا الضوء على السياق الاستراتيجي المخل بالاستقرار والمتمثل بالاستحكام الإيراني المهدِّد في سوريا، في الوقت الذي شرحوا فيه بالتفصيل الصورة الكاملة المتعلقة بالقنوات الجوية، والصاروخية، والتنسيقية خلال تلك الحادثة على وجه التحديد. وفي تناقض صارخ مع التهديد والوعيد الروسي، حاول “الجيش الإسرائيلي” ألّا يسترعي إليه الانتباه، وفقاً لتوجيهات واضحة على ما يبدو لمساعدة الكرملين على حفظ ماء الوجه وعدم تفاقم الأزمة. وقد أعرب رئيس الوزراء نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان بوقار ولكن باستمرار عن أسفهما للخسارة في الأرواح الروسية وقدما تعازيهما على ذلك، في حين ألقيا بهدوء اللوم على سوريا والتزما بمواصلة تقويض المساعي الإيرانية في سوريا والتنسيق مع روسيا حيثما أمكن.
كما أوضح ليبرمان أن “إسرائيل لا تدير علاقاتها مع روسيا عبر وسائل الإعلام”، وبالفعل، عقد رئيس الوزراء ووزير الدفاع الإسرائيليين محادثات انفرادية مع نظيريْهما الروسييْن. ويساهم هذا الأسلوب، الذي يبدو منسقاً مع بوتين، في الحد من التوترات على مستوى الضباط المهنيين مع إتاحة المجال أمام المسؤولين للتصرف بطريقة منسقة وإن كانت غير مريحة. وفي 26 أيلول/سبتمبر، وعلى هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، ادعى نتنياهو أن جميع طلباته التي قدّمها إلى الرئيس ترامب بهذا الشأن قد مُنحت، على الرغم من أنه لم يذكر خطوات محددة. وبدوره قال ترامب إنه يقف وراء إسرائيل مائة في المائة.
مستقبل المجال الجوي السوري
كما هو معهود في مثل هذه الحالات، انجرفت العديد من المصادر الإعلامية بالرسائل الروسية واستخلصت نتائج قاطعة حول مستقبل الحملة الجوية الإسرائيلية في سوريا، فضلاً عن نشاط الولايات المتحدة والتحالف في البلاد. وهذا صحيح على المستوى التقني التكتيكي، فنظام “سام أس-300 “، مع صواريخه المتطورة البعيدة المدى وقدراته على الاشتباك مع أهداف متعددة، تزيد من الخطر على كافة القوات الجوية التي تعمل بالقرب من سوريا وفوق أراضيها، بما فيها إسرائيل. ولكن القوات الجوية المتطورة، وبالتأكيد القوات الجوية الأمريكية، قادرة على العمل في بيئة تنطوي على مثل هذا التهديد. ويستعد “سلاح الجو الإسرائيلي” بصوة فعالة لهذه التطورات منذ عقدين من الزمن – وقد استلم مؤخراً طائرات “الشبح” المقاتلة من الولايات المتحدة من نوع “أف-35” المصممة للتعامل مع مثل هذه التهديدات المتقدمة. بالإضافة إلى ذلك، فإن وجود هذا النظام بين أيدي المشغلين السوريين غير الأكفاء، والمتهورين، سيثير على الأرجح قلق أطراف أخرى خارج إسرائيل. فكل من يتذكر إسقاط طائرة “الخطوط الجوية الماليزية” في الرحلة رقم 17 بصاروخ روسي من نوع “سام” عام 2014 سوف ينتابه شعور محبط.
إن الأمر الأكثر أهمية من الإمكانيات التقنية التكتيكية التي يتمتع بها هذا النظام هو الدور الروسي في تشغيله. فهذا هو العامل الرئيسي في تقييم التغير المحتمل في مستوى التهديد والتداعيات على حرية التحرك الإسرائيلية. واعتباراً من عام 2015، كانت روسيا قد نشرت بالفعل نظام الصواريخ “أس-400” الأكثر تطوراً في سوريا، ولكنها امتنعت حتى الآن عن استخدامه ضد أهداف إسرائيلية أو أمريكية أو أخرى تابعة للتحالف. وفي حال قيام أطقم روسية بإدارة النظام الجديد “أس-300″، فمن المحتمل أن يتم تشغيله تحت رقابة موسكو وبموجب سياستها المسؤولة. ومع ذلك، عندما يصبح تحت السيطرة السورية، تصبح المخاوف أكثر جديةً، وقد يؤدي الاشتباك مع أهداف تابعة لـ “الجيش الإسرائيلي” أو “سلاح الجو الأمريكي” إلى زيادة خطر حدوث هجوم مضاد. ويمكن أيضاً توقّع تعرّض الطائرات الروسية إلى المزيد من “النيران الصديقة”. وقد يكون الوضع الأكثر تعقيداً وجود فريق مختلط من الطواقم أو الخبراء أو المستشارين أو المشرفين الروس والسوريين. ومن المرجح أن تسعى روسيا وإسرائيل والولايات المتحدة إلى تفادي مثل هذا الموقف الخطير، والذي قد تجد فيه موسكو نفسها مسؤولة عن إطلاق النار السورية ضد الطائرات الأمريكية، بكل ما لذلك من عواقب واضحة. وربما كان وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو يفكر في هذه السيناريوهات عندما وصف تسليم هذه النظام لسوريا بأنه “تصعيد خطير”.
وفيما يتعدى إطار العملية المباشرة على ما يبدو حول توفير الأسلحة الروسية لسوريا، سيكمن الخطر الاستراتيجي في التفاصيل – ما هي الأسلحة المحددة التي سيتم تسليمها، وإلى مَن، ومتى، وأين. وكما سبق ذكره، ستدور التساؤلات الأخرى حول تقسيم العمل بين روسيا وسوريا عندما يتعلق الأمر بالسلطة المسؤولة والتشغيل، بالإضافة إلى سياسة إطلاق النار المتبعة من قبل كل من يمسك بزمام الأمور. فصواريخ “أس-200” التي مُنحت للسوريين منذ عقود، على سبيل المثال، كانت تُشغّل في البداية من قبل فرق روسية، ولم يستلم الطاقم السوري زمام التشغيل إلا بعد ذلك بسنوات. ووفقاً للشكليات الخاصة بالإمدادات الفعلية والأساليب والسلطة التنفيذية التي تعود لها قرارات إطلاق النار، تستطيع روسيا التوافق مع جميع الجهات الفاعلة مع الحفاظ على سيطرتها الضرورية. وقد يشمل ذلك دعماً واضحاً لسوريا، وتجنب الإخفاقات المهينة أو وقوع المزيد من الإصابات في صفوف الروس، ومعالجة بعض مخاوف إسرائيل، وكبح زخم التنامي الإيراني، والحفاظ على نفوذ روسيا ومكانتها المهمة عن طريق التدرج والتقدم على مراحل.
ومن الضروري استمرار الحوار بين كبار القادة الإسرائيليين والروس كوسيلة للخروج من الأزمة. وفي إطار هذه الدينامية، من المتوقع على الأرجح أن تستمر إسرائيل في ابتعادها الحالي عن الأضواء على المدى القريب، وبالتأكيد فيما يخص التصريحات العلنية. ويقيناً، أن كلاً من إيران وتنظيمها الوكيل «حزب الله» يتوقان إلى استغلال هذا التصعيد الأخير، الأمر الذي قد يضع جميع الأطراف قيد الاختبار في القريب العاجل. ولكن السؤال الأهم الذي لا يزال مطروحاً هو ما إذا كانت الحادثة قد أدّت حقاً إلى إعادة ترتيب الموقف الروسي حيال الترسيخ العسكري الإيراني في سوريا. هناك أسباب للشك في ذلك. ويمكن للمرء أن يفترض إلى حد ما، أن إيران لا تزال تقوّض أهداف روسيا من ناحية التنافس على النفوذ في سوريا ومن خلال زيادة خطر نشوب صراع إسرائيلي -إيراني واسع النطاق، مما يعرض إنجازات روسيا هناك للخطر. ونتيجة لذلك، قد تواصل روسيا القبول بترك المجال مفتوحاً أمام إسرائيل للقيام بعملياتها في سوريا على المدى المتوسط والبعيد.
وفي “الفاصل” ما بين التهديدات التقنية التكتيكية والاستراتيجية، يدرك صناع القرار الإسرائيليون جيداً المخاطر والتعقيدات المتزايدة للعمليات المستقبلية التي يوافقون عليها، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات على حجم الأنشطة العامة ومجملاتها. ولكن كلّما زاد التهديد الذي تراه إسرائيل في شحنات الأسلحة الإيرانية، كلما ارتفع [مستوى] استعداد قياداتها للموافقة على تحركات أكثر خطورة، بما فيها المخاطر التكتيكية الناشئة عن نظام “أس-300” والصعوبات الاستراتيجية مع روسيا. فضلاً عن ذلك، إذا شكلت تلك البطاريات تهديداً وشيكاً ومباشراً على الطائرات الإسرائيلية، فلن يبقى أمام “سلاح الجو الإسرائيلي” خيارٌ في النهاية سوى تدميرها. وحيث تدرك روسيا هذه الحقيقة، فقد تحتفظ بالسلطة على قرارات إطلاق النار وتبقي الأنظمة “السورية” تحت سيطرتها، بسعيها منع الحوادث التي قد يكون لها تداعيات استراتيجية ومحلية وانعكاسات على السمعة. ومع استمرار الضغط الإيراني، قد لا يكون العد التنازلي للضربة المقبلة في سوريا طويلاً.
معهد واشنطن