في سنة 1987 وخلال عهد الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان وآخر زعيم للاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشيف، أبرم البلدان معاهدة لحظر الأسلحة النووية متوسطة المدى بين 500 إلى 5500 كم، خلّصت أوروبا من 2700 صاروخ أرضي. وكانت تلك المعاهدة بمثابة نقطة افتراق كبرى عن سباق التسلح الذي خيم على عقود الحرب الباردة، وإيذاناً بابتداء عصر جديد من الوفاق بين واشنطن وموسكو.
لكن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أعلن مؤخراً أنه ينوي الانسحاب من هذه المعاهدة، بذريعة أن روسيا لم تكف عن انتهاكها وطورت الكثير من الأسلحة الجديدة التي تخالف بنود اتفاقية 1987، وكذلك لأن إدارته تملك أموالاً طائلة مخصصة للدفاع والتسلح وترغب في استثمارها لإنتاج أنواع جديدة من الصواريخ المتقدمة. ومن جانبها شددت موسكو على خطورة هذه الخطوة، واستقبلت أمس جون بولتون مستشار ترامب لشؤون الأمن القومي لتقف منه على حقيقة القرار الأمريكي وطبيعة الإجراءات التي تنوي واشنطن اتخاذها في هذا السبيل.
ومن المتفق عليه أن بولتون هو آخر مسؤول أمريكي رفيع يمكن أن يفيد موسكو في الحد من عواقب انسحاب واشنطن من المعاهدة، فهو ليس أحد أبرز الصقور المتشددين داخل إدارة ترامب فحسب، بل كان في طليعة الدافعين باتجاه اتخاذ هذه الخطوة تحديداً. ليس هذا فقط، بل إن عضو الكونغرس الجمهوري البارز بوب كوركر أشار إلى أن بولتون يعارض تمديد معاهدة «ستارت»، التي توصلت إليها أمريكا وروسيا في عام 2010 وخفضت إلى 1550 عدد الرؤوس النووية التي يمكن أن ينشرها أي من الطرفين. هذا عدا عن حقيقة أن بولتون كان من أشد المتحمسين لانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق الذي توصلت إليه مجموعة الدول الستّ الكبرى مع طهران في سنة 2015، حول برنامج إيران النووي.
ويرى مراقبون أن خطوة ترامب في الانسحاب من معاهدة الأسلحة متوسطة المدى تستهدف العودة بعقارب الساعة إلى زمن سباق التسلح، ليس لاعتبارات عسكرية تخص ردع الصناعة العسكرية الروسية في المقام الأول، وإنما لاستثمار المليارات المخصصة لوزارة الدفاع في تنشيط سوق العمل وتفعيل مصانع السلاح، بما ينعكس تلقائياً في زيادة شعبية ترامب لدى الشرائح المستفيدة من هذه الأشغال. وليس غريباً بهذا أن يتشبث الرئيس الأمريكي بعقد الـ110 مليارات مع المملكة العربية السعودية، وأن يضعه بمنأى عن أي إجراء عقابي ضدّ الرياض بعد افتضاح جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي.
ولكن البعض لا يستبعد، في المقابل، أن يكون التهديد بالانسحاب مناورة تكتيكية تضع واشنطن في موقع تفاوضي أفضل إذا فُتحت مجدداً أي مفاوضات حول معاهدة 1987 ذاتها، أو عند تمديد معاهدة «ستارت» في سنة 2021. ولقد سبق أن لجأ ترامب إلى تحايل مماثل حين هدد بالانسحاب من اتفاقية التجارة الحرة لشمال أمريكا، «نافتا»، ثم دخلت واشنطن في مفاوضات جديدة مع كندا والمكسيك انتهت إلى اتفاقية ثلاثية الأطراف.
لكن التشاطر في عقود التجارة أمر مختلف عن اللعب بنار الأسلحة النووية، بالطبع، خاصة حين تكون الصواريخ قاب قوسين أو أدنى من الخصم.