تحولت المحادثات حول مستقبل سوريا بصورة متزايدة نحو إعادة الإعمار و”اليوم التالي”، وتضاءلت الدعوات الدولية لإنهاء النظام السوري في وجه سنوات طويلة من الحرب والمعاناة. فخلال ندوة عُقدت في 2 تشرين الأول/ أكتوبر في السويد حول الوساطة في النزاعات، وصف مبعوث الأمم المتحدة الخاص لسوريا ستافان دي ميستورا مهمته هناك كطبيب “يكافح للحد من الألم” وغير قادر على تقديم أي علاج. وفي هذا الإطار، إنّ الوضع الجديد، المقبول على ما يبدو، والذي يسمح باستمرار النظام السياسي الذي كان سائدًا قبل عام 2011 مع الإضافة السامّة المتمثلة بروسيا وإيران، لا يعتبر وصفةً فعّالة لإعادة بناء سوريا بشكل فعلي. وإذا فقدت الأمم المتحدة الأمل في التوصل إلى حل سياسي وتوقفت عن بذل أي جهد جاد لتنفيذ هذا الحل، فهذا يعني أننا نحن – أي الشعب السوري والنفوذ الغربي والقانون الدولي – قد خسرنا.
فقد أمضيتُ عقودًا وأنا أعارض النظام السوري، وقد احتُجزت في سجونه لمدة تقارب العشر سنوات. كما شاركت في العديد من حركات المعارضة السورية من عام 1976 حتى عام 2014، عندما استقلتُ من “المجلس الوطني السوري” وهيئات تحالف المعارضة بسبب الفساد والعلاقات القائمة مع الجهات الحكومية الأجنبية والمجموعات الإرهابية. وبالنظر إلى هذه الخلفية التاريخية، لدي وجهة نظر تم استئصالها مع الوقت من الرواية الدولية، ولكنها مع ذلك مهمة لإعادة بناء سوريا، وطني السابق الذي خسرته والذي ما زلت أهتم لأمره.
في هذه المرحلة، يبقى أي نظام سياسي أفضل من الفوضى أو حكم أسياد الحرب، أو بالطبع سيطرة الإرهاب. ولكن عندما نتحدث عن النظام السوري الحالي، لا يمكن الاعتراف به كنظام اجتماعي أو سياسي، لأنه يعمل كنظام إجرامي يستخدم تكتيكات الجريمة المنظمة بدلاً من تلك الخاصة بالجهات الفاعلة السياسية. كما يجب أن تكون الخطة الانتقالية الهادفة إلى نظام سياسي ونظام جديد أولويةً دوليةً حاسمةً ومهمة، إذ من غير المعقول بالنسبة لأغلبية السوريين أنه، بعد كل ما حدث، يمكن إعادة تأهيل النظام الحالي ليكون جهةً سياسيةً معيارية. وبالتالي، لا يمكن للنظام ولا للمعارضة المنظمة – التي تعاني من مسائل خطيرة فيها من حيث التمثيل – التوصل إلى حلّ. لذلك، يحتاج الشعب السوري إلى العدالة من المجتمع الدولي، وليس إلى إعادة تمثيل من الهيئات نفسها التي قمعته. وفي حين يتم تقديم هذا الخيار بصورة متزايدة باعتباره الخيار الوحيد الذي لن يزعزع الاستقرار، الطريقة الوحيدة لضمان عدم حدوث انتفاضة أخرى هي البدء بصفحة بيضاء – لأن استمرار سيطرة النظام السوري على سوريا ليس سوى الخطوة التالية في دوامة من الانتفاضات والقمع والإرهاب.
وبالفعل، وصف معظم الخطاب الأخير النظام كبديل للإرهاب، فالواقع هو أن الديكتاتورية والإرهاب وجهان لعملة واحدة، حيث يعتمد كل من نظامي السيطرة على القسوة لقمع الحياة السياسية الطبيعية. وفي ظل غياب الأحزاب القانونية والتمثيل الصحيح، يمكن أن يزدهر أي من نسختَي القمع، وسيتم التحكم بها بواسطة المصالح الاستراتيجية الخاصة بالدول الأجنبية، كما هو الحال الآن، بدلاً من المثل العليا التي تؤكد الأمم المتحدة دعمها لها.
وينعكس ذلك من خلال الواقع التاريخي بأن سوريا هي دولة مصطنعة أنشأتها القوى الاستعمارية والدولية في القرن الماضي. ومنذ ذلك الحين، تغيب إمكانيات الشعب السوري لتطوير شعور موحد بالوطنية. وبالتالي، يحتاج الشعب السوري إلى مساعدات وجهود دولية لإنشاء عقد وطني جديد لإعادة بناء وطن حقيقي. إلا أن بعض الدول المحلية والدولية لا تحترم قوانين الإنسانية ومسؤوليتها، فهي لسوء الحظ تتصرف بطريقة وحشية، وفي رأيي تتحمل المسؤولية الرئيسية لما حدث في سوريا. كما لا تتوافق منافعها الوطنية مع منافع الشعب السوري، أقلّه على المدى القصير، لذا فهي تدعم قاتل هذا الشعب. أمّا الدول الأخرى فتختار عادةً أرخص الحلول (وهو الأسوأ).
وبالرغم من ذلك، يبرز العديد من العناصر الواضحة والضرورية لإعادة بناء سوريا بشكل فعلي. إذ تتطلب الدولة دستورًا جديدًا، ونظامًا قانونيًا من شأنه أن يسهّل صياغته – والأهم من ذلك، إجراء انتخابات ديمقراطية. ومن أجل التفكير في تيسير الانتخابات، تحتاج البلاد إلى الاستقرار. وتجدر الإشارة إلى أن الأمم المتحدة قد شعرت بالثقة من تشكيلها لبنية سوريا بواسطة قرارها الذي منح سوريا استقلالها عام 1947. واليوم، يتعين على الأمم المتحدة أن تستأنف هذا الدور بإعلانها أن سوريا دولة فاشلة، والطلب من روسيا وإيران احترام اتفاقيات جنيف بشأن وضع الحرب والاحتلال، وتحديد خارطة طريق للسلطة الانتقالية الجديدة، وذلك باستخدام العدالة لاستبعاد الزعماء المجرمين الحاليين من كلا الجانبين، ووضع حد لاحتلال الميليشيات والجيوش الأجنبية.
ففي غياب هذه الخطوات، لن يؤدي اهتمام المجتمع الدولي الحالي بتوفير المال لإعادة بناء سوريا إلاّ إلى تعزيز أنظمة الفساد والإرهاب والدكتاتورية التي تسود سوريا حاليًا، وبالتالي دفع الصراع حتى العقد القادم. وتجدر الإشارة إلى أن النظام السوري ينتهك بشكل واضح عددًا من مفاهيم الأمم المتحدة لحقوق الإنسان والحوكمة الشرعية.
أمّا من حيث البنية السياسية الانتقالية الملائمة، فمن الواضح أن النظام السياسي الرئاسي المركزي لا يصلح لبنية المجتمع السوري. كما تتوفر لسوريا فرصة أفضل للحفاظ على الديمقراطية كدولة فدرالية تقوم على التمييز الثقافي، وليس الجغرافي. وفي هذا الصدد، يجب احترام حقوق الأقلية والأغلبية من خلال هوية الدولة والعاصمة واللغة والتحالفات الخارجية. علاوةً على ذلك، ينبغي على الحكومة إتاحة الفرص أمام كل من المجتمع التقليدي (الذي يشمل المكونات الوطنية والطائفية وفق حصص معينة) والمجتمع المدني للمساعدة في تشكيل الحكومة، على أن يقوم النظام السابق بتشكيل وظائف الدولة السيادية ومن بينها وزارة الخارجية والدفاع والعدالة والاقتصاد، وعلى أن تقوم هذه الوزارات بدورها بتشكيل وظيفة الخدمة للدولة المنتخبة بواسطة نظام نسبي. وبموجب هذا الهيكل، ينبغي أن تكون الرئاسة منصبًا فخريًا، وليس منصبًا شاملاً.
ليست الخطوات المذكورة أعلاه بالحلول السهلة، ويخفي ضرورتها إحساسٌ بالإرهاق من الحرب السورية وشعور خاطئ بأن النظام السوري سيكون قادرًا على الحفاظ على الاستقرار. بدلاً من ذلك، سوف يستمر القمع المتواصل الذي يقوم به النظام السوري، إلى جانب الاحتلال الوحشي لروسيا وإيران، في إثارة النزاعات في العقود القادمة. وإذا كان المجتمع الدولي مهتمًا فعليًا بإنهاء هذه الدوامة، فسيتعيّن عليه تشكيل حكومة جديدة في سوريا، سواء في الوقت الحاضر أو عندما يتدهور وضع البلاد من جديد في المستقبل.
معهد واشنطن