في أواخر التسعينات وأوائل العقد الأول من القرن الحالي، شهدت مصر فترةً من النمو الاقتصادي استمدت دفعها بالدرجة الأولى من الاستهلاك المحلي وليس من الصادرات. ونتيجة لذلك، واجهت البلاد صعوبةً في الحفاظ على ميزان مدفوعاتها وعانت نقصاً حاداً في العملات الأجنبية. ولطالما اعتمدت على عائدات السياحة والاستثمار الأجنبي المباشر لتغطية مثل هذا العجز، إلّا أن هذه المصادر من الإيرادات قد شحّت بشكل كبير.
وبخلاف المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج العربي، لا تُعتبر مصر دولةً ريعية تعتمد على سلعة واحدة. وفي الواقع، كانت أكبر متلق للمساعدات الأمريكية حتى حرب الأيام الستة، وربما كانت أكبر متلق للمساعدات الخارجية من الاتحاد السوفياتي. وبعد أن تولّى أنور السادات السلطة في عام 1970، زادت دول الخليج مساعداتها للقاهرة فساهمت جزئياً في التخفيف من وطأة مشاكل مصر في موازنة المدفوعات. وبعد حرب عام 1973 و”اتفاقيات كامب ديفيد” عام 1978، استأنفت واشنطن مساعداتها المالية إلى مصر.
وفي بداية السبعينات، كان “صندوق النقد الدولي” ينفّذ مشاريع في مصر بصورة متقطعة. ولكن بما أن هذه المشاريع تناولت بشكل رئيسي ميزان المدفوعات، فلم يحقق أي منها أي نمو اقتصادي كبير. أما اليوم فقد تحسن وضع القاهرة مع البرنامج الحالي لـ “صندوق النقد الدولي”، الذي تقوم بموجبه مصر بتنفيذ إصلاحات جديرة بالملاحظة. وقبل هذا البرنامج، انخفضت احتياطيات العملات الأجنبية إلى أقل من 15 مليار دولار بين عامَي 2014 و2015، أو أقل من ثلاثة أشهر من الواردات، وهي الحد الأدنى الموصى به من قبل “صندوق النقد الدولي”. ومنذ ذلك الحين، استقرت هذه الاحتياطيات بفضل الأموال النقدية التي ضختها دول الخليج.
وتشكل السياحة مصدر العائدات الرئيسي في مصر. ولكن في الوقت الذي كان فيه عدد السياح الوافدين شهرياً إلى مصر حتى عام 2015، قد ناهز الـ 900,000 سائح، فقد انخفض هذا العدد إلى النصف في أعقاب التفجير الإرهابي لطائرة ركاب روسية فوق شبه جزيرة سيناء في تشرين الأول/أكتوبر من ذلك العام. ولم ينتعش القطاع منذ ذلك الحين – الأمر الذي يشكل مشكلة كبيرة بالنظر إلى حاجة مصر إلى خلق700,000 فرصة عمل جديدة في السنة لمجرد مواكبة النمو السكاني.
وبالإضافة إلى هذه المشاكل المالية، يشكل مشروع “سد النهضة الأثيوبية الكبرى” مصدر قلق كبير للقاهرة. فمن المرجّح أن يؤدي السد إلى انخفاض كبير في منسوب المياه الذي تحصل عليه مصر، خاصة عندما يتم ملء الخزان ليصل إلى 70 مليار متر مكعب. ويستند تفسير القاهرة لحقوقها في مياه نهر النيل إلى معاهدات استعمارية لم توقّع عليها معظم دول حوض النيل الأخرى – وتحديداً معاهدة موقعة مع السودان عام 1959 التي توفر لمصر كمية دائمة تبلغ 55 مليار متر مكعب سنوياً بينما توفّر للسودان 18,5 ملياراً فقط. ووفقاً لـ “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” تتخطى كمية المياه التي تستخرجها مصر المعدل المنصوص عليه. لذلك، ومن أجل الحد من الوقع المترتب على إمدادات المياه السنوية في مصر، يجب على واشنطن أن تحث أثيوبيا على إعادة النظر في الجدول الزمني الذي وضعته لملء السد من أربع سنوات إلى سبع سنوات.
ولا يزال سجل القاهرة في مجال حقوق الإنسان مدعاة للقلق. فقد اتخذت حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي إجراءات صارمة ضد كافة أشكال المعارضة، وربما بصورة أكثر قمعية مما كانت عليه أثناء نظام جمال عبد الناصر. ففي الآونة الأخيرة، على سبيل المثال، ألُقي القبض على كاتب لمجرد انتقاده تخفيضات الدعم التي اتخذتها الحكومة في القاهرة. ولكن، حتى إذا كانت واشنطن مستعدة لاتخاذ المزيد من الإجراءات بهذا الشأن، فلن يكون الضغط على السيسي حول حقوق الإنسان فعالاً [كما يجب]. ولعل الأهم من ذلك، أن هذه القضية لا تشكل أولوية بالنسبة لمعظم المصريين، الذين يميلون إلى الاهتمام بصورة أكثر بالاستقرار والأمن والتحسينات الاقتصادية.
ويقيناً، أن القانون الجديد الذي أقرته الحكومة المصرية بشأن المنظمات غير الحكومية يطرح مشكلة كبيرة أمام المجتمع المدني. إلّا أن العديد من المصريين يعتبرون المنظمات غير الحكومية عبارة عن وكلاء أجانب يعملون على إضعاف الدولة، وذلك بالتماشي مع تزايد النزعة المعادية للأجانب في البلاد منذ عام 2011.
واليوم، هناك القليل من الأدلة على وجود دعم شعبي للمعارضة السياسية ضد السيسي باستثناء الإسلاميين. فأحزاب مصر اليسارية لم تعد تلقى تجاوباً منذ فترة طويلة، لتبقى الإسلاموية المعارضة الإيديولوجية الوحيدة للحركة الناصرية والحركات المماثلة. ولكن القضاء على جماعة «الإخوان المسلمين» لا يزال بعيداً بالرغم من وجود عشرات آلاف الإسلاميين في السجن. وفي الماضي، فشلت الأنظمة الاستبدادية في المنطقة كتلك التي ترأسها عبد الناصر ومعمر القذافي وحافظ الأسد في القضاء على هذه الحركة. واليوم لا يزال الفرع المصري لـ «الإخوان المسلمين» يتصرف كدولة داخل دولة ويقدّم خدمات الرعاية الاجتماعية للكثير من المواطنين. ووفقاً لأحد الباحثين، تُدير «الجماعة» ما بين 1500 و2000 عيادة طبية في مصر، بينما تنتمي إليها نحو 20 في المائة من المنظمات غير الحكومية البالغ عددها 5000 منظمة. وتبقى جماعة «الإخوان» منظمة من المهنيين من الطبقة المتوسطة، ومن المرجح أن تعاود الظهور عبر تشكيل جيل جديد من الأعضاء داخل حرم الجامعات، تماماً كما فعلت في سبعينات القرن الماضي. ومع ذلك، سيكون من الصعب جمع التبرعات لأن مموليها وداعميها التقليديين في الخليج نأوا بأنفسهم عن «الجماعة» في الوقت الحالي.
ميشيل دون
تُعد إدارة عدد السكان العامل الأهم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في مصر. وقد أحرزت البلاد تقدماً ملحوظاً في الحد من معدل النمو السكاني منذ سبعينات القرن الماضي وإلى مطلع العقد المنصرم. ولكن خلال السنوات العشر الماضية، ارتفع معدل الخصوبة إلى 3,5 طفل لكل أسرة. ويبلغ عدد سكان مصر حالياً أكثر من 96 مليون نسمة، ومن المتوقع أن يصل إلى 128 مليون بحلول عام 2030.
وتطرح هذه الأرقام مشكلة كبيرة، خاصة فيما يتعلق بنقص المياه. وبالتالي يُعتبر “سد النهضة” مسألة ثنائية جوهرية بين القاهرة وأثيوبيا. فإذا اكتمل المشروع ببطء كما هو متوقع، فلن تواجه مصر انخفاضاً سريعاً في كمية المياه المتوفرة لها. ولكن حتى لو لم يكن السد موجوداً أساساً، فستبقى مصر تواجه تحديات حقيقية في كمية المياه على المدى البعيد بسبب نموها السكاني وأساليب الريّ المختلّة.
ولا تبذل القاهرة جهوداً كافية لمعالجة هذه التحديات، بل تركز على المشاريع الضخمة والمعالم الباهظة كالعاصمة الإدارية الجديدة. ويشكك معظم المصريين في فائدة هذه الأنواع من المشاريع. فلا شك أن البلاد تضم نسبة كبيرة من اليد العاملة التي تحتاج إلى التوظيف، ولكن من خلال التركيز على مشاريع ضخمة مشكوكٌ فيها والسماح للجيش بالتوغل عميقاً داخل الاقتصاد، فإن الحكومة لا تترك أمام القطاع الخاص مجالاً كافياً للنمو مع أنه قادر على تأمين أعداد هائلة من الوظائف. وقد واصل المسؤولون الترويج للمزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر والسياحة. ومع أن هذه الأخيرة تؤمّن الكثير من الوظائف، إلا أنها تتطلب ظروفاً أمنية مواتية. أما قطاع الطاقة الذي يعتبر واعداً أيضاً فلا يوفر الكثير من الوظائف.
وتقدّم الدراسة الجديدة التي أجراها باراك بارفي لمعهد واشنطن الكثير من التفاصيل المهمة، ولكنها تفتقر إلى المداولات الكافية حول حرية التعبير وحرية التنظيم. فحالة القمع في مصر أكثر قتامة مما تشير إليه الدراسة، وأسوأ بكثير مما كانت عليه خلال عهد حسني مبارك. كما أن معظم ضحايا العنف الذي ترعاه الدولة هم من الشباب، بينما لم تعد وسائل الإعلام المستقلة قائمة. وبعد الثورة، استخدم السيسي مستويات عالية جداً من الوحشية لإعادة بناء جدار الخوف. ومن الصعب تحديد الآراء الحقيقية للسكان المحليين بسبب عدم وجود استطلاعات جيّدة في مصر. ومن المرجح أن تستمر سياساته القمعية لبعض الوقت، وتشير العديد من الدلائل إلى أنه يخطط لتعديل الدستور من أجل إلغاء الشروط التي تقيّد فترة الولايات الرئاسية لكي يبقى في منصبه إلى أجل غير مسمّى.
وتوصي دراسة بارفي بأن تعمل الولايات المتحدة على الضغط على السيسي لكي يتنحّى عام 2022. يجب على واشنطن أن تضع أيضاً سيناريوهات إذا لم يقم بذلك. ونظراً للشكوك المتنامية التي يبديها الرأي العام المصري بشأنه، فقد يتمكن المسؤولون الأمريكيون من ممارسة المزيد من النفوذ هناك في المرحلة المقبلة. وقد يقرر الكونغرس الأمريكي مجدداً وضع شروط على المساعدات، أو تغيير ميزان “التمويل العسكري الخارجي” و”صناديق الدعم الاقتصادي”. وعوضاً عن زيادة المساعدة الاقتصادية، يجب على الولايات المتحدة النظر في إمكانية تغيير وجهة المساعدات نحو المسائل المتعلقة بالمياه والتنمية البشرية والتعليم. وهناك خطوة مثمرة أخرى يمكن اتخاذها وهي تغيير وجهة المساعدات العسكرية من أنظمة الأسلحة القديمة الكبيرة إلى الأنظمة المتعلقة بمكافحة الإرهاب، وبالتالي تلبية أولويةً أكثر إلحاحاً.
معهد واشنطن