يواجه الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ توليه إدارة البلاد في 20 يناير 2017، الكثير من الصعوبات في ما يتعلق بتحقيق التوافق والتناغم بينه وبين أركان حكومته، وكذلك بينه وبين مستشاريه داخل البيت الأبيض وخارجه، وعلى رأس تلك العقبات كثرة الاستقالات والإقالات بين المسؤولين رفيعي المستوى. وكشفت موجة الاستقالات المستمرة عن تصدع داخل البنتاغون حيث يسيطر الجنرالات على قراراته خاصة في قضايا الأمن القومي والسياسة الخارجية ووقع تجاهل المسؤولين المدنيين وتقويض نفوذهم على القطاع العسكري.
واشنطن – ثبطت عزيمة المسؤولين المدنيين في وزارة الدفاع الأميركية منذ تولي الرئيس الأميركي صاحب التوجهات اليمينية المحافظة دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة، ودفعت شخصية ترامب وقراراته الغريبة والمثيرة للجدل خاصة في توجهات السياسة الخارجية الأميركية، إلى ترك هؤلاء مناصبهم الرئيسية في وزارة الدفاع “البنتاغون” للضباط العسكريين الذين يعملون بالخدمة أو المتقاعدين.
ويعتبر مكتب وزير الدفاع هو الذراع المدنية للوزارة، ويقوم بدوره الهام في مساعدة الوزير في تطوير السياسات وتخطيط العمليات وإدارة الموارد، ورغم أن مكتب وزير الدفاع هو في حد ذاته مكان تقليدي يقضي فيه الموظفون تقريبا حياتهم المهنية بالكامل، إلا أنه بدأ يفقد قيمته على جميع المستويات.
وكشفت المقابلات التي أُجرتها لارا سيليغمان الصحافية بمجلة فورين بوليس الأميركية مع العديد من موظفي وزارة الدفاع الحاليين والمتقاعدين عن وجود قوى عاملة محبطة بشكل متزايد، حيث يشعر الموظفون أنهم لم يعد لديهم أي نفوذ وأن حالة التصدع بلغت ذروتها في البنتاغون، وتكهنت بأن نزيف الاستقالات لن يتوقف ومن المرجح انسحاب وزير الدفاع الحالي جيمس ماتيس من فريق ترامب.
وقال مسؤول سابق في وزارة الدفاع طلب عدم الكشف عن هويته إن الرقابة المدنية على الجيش “كانت ضعيفة بالفعل في الإدارة السابقة، وأعتقد أنها فقدت مكانتها في الآونة الأخيرة. إنه لشيء مخز أن تعمل في مكتب حيث لا أحد يستمع إليك”.
موجة الاستقالات
غادر ما لا يقل عن تسعة من كبار المسؤولين الإدارة الأميركية في العام الماضي، بمن في ذلك سالي دونيلي كبيرة مستشاري وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، وألبريدج كولبي الذي شارك في قيادة تطوير الخطة الإستراتيجية الأولى للإدارة، وهي إستراتيجية الدفاع الوطني.
وفي أكتوبر الماضي، غادر ثلاثة من كبار القادة العاملين في السياسة الدولية: وهم مساعد وزير الدفاع للشؤون الدولية روبرت كارم، ونائب وزير الدفاع للشؤون الأفريقية آلان باترسون، ونائب وزير الدفاع لشؤون أوروبا وسياسة حلف الناتو توماس غوفوس، كما استقالت نيكي هايلي من منصبها كمندوبة أميركية دائمة في الأمم المتحدة إحدى أشرس المدافعات عن تصورات ترامب، في خطوة أثارت صدمة داخل البيت الأبيض.
وبقيت الوظائف الرئيسية الأخرى في مكتب وزارة الدفاع شاغرة أو مملوءة بالقائمين بالأعمال، بما في ذلك مساعد نائب الوزير.
المسؤولون المدنيون الذين جاؤوا إلى العمل في البنتاغون فعلوا ذلك بدافع خوفهم من الرئيس ترامب ولكن أيضاً بدافع ثقتهم الهائلة وإعجابهم بالوزير جيمس ماتيس
وأبرز استعراض مستقل أجراه الكونغرس لإستراتيجية الدفاع الوطني صدر هذا الأسبوع “عدم التوازن النسبي بين الأصوات المدنية والعسكرية” حول قضايا الأمن القومي الحاسمة، وحث الإدارة على محاولة علاج هذا الاتجاه “غير الصحي”.
ويقول المفوضون “يجب أن ترتكز المقاربات البناءة لأي من القضايا السابقة على العلاقات المدنية-العسكرية الصحية، غير أن الأصوات المدنية كانت ضعيفة نسبيا في القضايا التي كانت تتمحور حول سياسة الدفاع والأمن القومي الأميركي، مما أدى إلى تقويض مفهوم السيطرة المدنية على القطاع العسكري”.
ويعود تدهور أوضاع القيادة المدنية في وزارة الدفاع إلى إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، إذ حسب براين ماكيون الذي شغل منصب نائب الامين العام لوزارة الدفاع للسياسة من 2014 وحتى 2017، أدى تخفيض الميزانية بموجب قانون مراقبة الميزانية لعام 2011 إلى حدوث سلسلة من حالات التجميد والتخفيضات في تعيينات موظفي الخدمة المدنية، مما أدى إلى استنزاف القوى العاملة الموجودة بالفعل وساهم في تدني الروح المعنوية.
وأدى تجميد تعيينات موظفي الخدمة المدنية داخل الوزارة إلى إلحاق الضرر بإدارة الخدمة المدنية ككل، مما أدى إلى تمديد القوى العاملة الموجودة، مع قلة الموارد اللازمة للحفاظ على الخبرة العميقة في قضايا محددة.
وقالت كاثلين ماكينيس العضو في المجلس الأطلسي ومؤلفة كتاب “ذا هارت أوف وور” “يتم التعامل مع الناس على أنهم أدوات قابلة للتغيير، بدلا من ترسيخ الخبرات العميقة في بعض المجالات، ونتيجة لذلك يشعر البعض أن المؤسسة بأكملها بدأت بالفعل تفقد مصداقيتها”.
وبينما بدأ هذا الاتجاه منذ سنوات، يقول المسؤولون إنه تسارع في ظل إدارة ترامب. حيث يعتبر معدل حركة تغيير الموظفين خلال أول عامين لأي إدارة أميركية أمرا طبيعيا جدا، لكن المراقبين والخبراء يؤكدون أن عدد الأشخاص الذين يغادرون مكتب وزارة الدفاع بعد أقل من عام ونصف العام من الخدمة أمر غير معتاد.
تقول كوري شاك نائبة المدير العام للمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، إن المغادرة الجماعية، خاصة في المكاتب التي تركز على السياسة الإقليمية، مرتبطة بسياسة ترامب الخارجية المتقلبة وانتقاده لمعاملته الحلفاء وفق مبدئه الانعزالي “أميركا أولا”.
وقالت شاك، مستشهدة بتصريحات ترامب المثيرة للقلق خلال قمة الناتو الأخيرة في يوليو، “إن الموظفين الذين يعملون في قضايا الحلفاء، خاصة في أوروبا، يعانون من انزعاج شديد بسبب سلوك الرئيس”. وقد خدمت شاك في العديد من المناصب في إدارات متعددة طوال التسعينات والألفينات، بمن في ذلك رؤساء الأركان وسياسة مكتب وزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية.
أما المشكلة الأخرى التي أدت إلى الاستقالات فهي خطاب ترامب المعادي تجاه الخدمة المدنية الأميركية بشكل عام. وقالت لورين ديغونغ شولمان نائب مدير الدراسات في مركز الأمن الأميركي الجديد والتي عملت في مجلس الأمن القومي وفي وزارة الدفاع بين عامي 2006 و2014 “في كل من البنتاغون ووزارة الخارجية، يشعر المسؤولون بالإحباط بشكل لا يصدق بعد سماعهم الرئيس يتحدث عن الخدمة المدنية ويصفها بالدولة العميقة، أو عن أنهم خصوم وأعداء، وهم يستيقظون صباح كل يوم ويحاولون فعلا بذل ما في وسعهم من أجل قضية الأمن القومي”. وشددت قائلة “هذا تحد هائل للروح المعنوية”.
وعزا أحد المسؤولين في الإدارة الحالية هذه المغادرات إلى جون رود، المسؤول الأعلى في السياسة في البنتاغون ومدير تنفيذي سابق في شركة لوكهيد مارتن. وقال المسؤول “إنه مدير سيء”، مضيفا أن نفوذه يؤدي إلى حدوث “خلل وظيفي كامل في مكتب وزير الدفاع حيث يغادر الناس ولا يمكنك بعد ذلك توظيف أشخاص مؤهلين”.
وهناك مشكلة أخرى متكررة، وهي العلاقة السيئة بين مكتب وزير الدفاع ورؤساء الأركان المشتركة، وهو اتجاه يقول المسؤولون إنه بدأ في إدارة أوباما ولكنه تسارع في ظل إدارة ترامب، حيث في البداية واجهت إدارة ترامب صعوبات في شغل المناصب العليا في مكتب وزير الدفاع.
وكانت وظيفة رود، وكيل وزارة الدفاع لشؤون السياسة، على سبيل المثال، شاغرة لمدة عام بعد تنصيب الرئيس، بسبب تجمع الجمهوريين من معارضي ترامب، وسياسة الفحص الصارمة التي ينتهجها البيت الأبيض. لذلك قام أعضاء هيئة الأركان المشتركة، بما في ذلك الجنرال جوزيف دانفورد، الذين عملوا عن كثب مع ماتيس خلال فترة وجودهم في سلاح مشاة البحرية، وغيرهم من الضباط الكبار بالتحرك بسرعة لسد هذا الفراغ.
وقال أحد المسؤولين في البنتاغون، الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، “إن هيئة الأركان المشتركة وقادة الجنود لا تربط بينهم علاقات جيدة. إنهم لا يجيبون على أي طلبات، ويتحلّون بالجرأة”.
وقالت مصادر للفورين بوليسي إن دون فورد رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، حاول تركيز عملية اتخاذ قرار توزيع القوة العسكرية في هيئة الأركان المشتركة. وقد دعم الاستعراض المستقل لإستراتيجية الدفاع الوطني هذا الادعاء وحث وزارة الدفاع على ضمان أن يكون هناك رأي للأصوات المدنية.
لكن جون رود رفض توصيف التوتر بين مكتب وزير الدفاع والأركان المشتركة. ويقول “تربط بين مكتب وزير الدفاع وهيئة الأركان المشتركة علاقة قوية. وتابع البنتاغون مكان كبير، لكنك لن تستطيع أن تدرك العلاقة الوثيقة بيننا بسبب التفاعلات المتكررة التي نعيشها. إننا نعمل معا جنبا إلى جنب في مجموعة متنوعة من المواضيع بما في ذلك إدارة القوة العالمية.
تكهنات باستقالة ماتيس
تكهنت مجلة فورين بوليس بأن وزير الدفاع جيمس ماتيس في طريقه لترك منصبه، الأمر الذي قد يثير قلق الموظفين داخل البنتاغون ويحرّض آخرين على الاستقالة.
وأشارت شاك إلى أن الخوف من استقالة ماتيس أو إقالته سيشجع أيضا كبار الموظفين المدنيين في الوزارة على المغادرة. وتضيف “معظم المسؤولين المدنيين الذين جاؤوا إلى العمل في البنتاغون فعلوا ذلك بدافع خوفهم من الرئيس، ولكن أيضا بدافع ثقتهم الهائلة وإعجابهم بالوزير ماتيس. ومن البديهي أنهم سيقلقون كونهم آخر الأشخاص الذين سيبقون في الوزارة”.
وقد ألمح ترامب في مقابلة تلفزيونية في أكتوبر الماضي إلى أن وزير دفاعه جيمس ماتيس ربما يغادر منصبه، مشيرا إلى أنّ الأخير “ديمقراطي بشكل أو بآخر”. ويعتبر ماتيس إحدى الشخصيات الموثوقة في إدارة ترامب، لكنه أيضا شخصية مستقلة قادرة على إحداث التوازن للتخفيف من وطأة طريقة تعامل ترامب الفظة مع حلفاء واشنطن.
ومع ذلك، يعتقد الكثيرون أن الخلل في القيادة المدنية مقابل تغول القيادة العسكرية في البنتاغون يضر بقدرة الإدارة على صياغة السياسة أمام تواصل الخلافات والانقسامات داخل المؤسسة العسكرية، حيث اعترف إيفان مونتغمري، الذي عمل كموظف مدني في هيئة الأركان المشتركة في آخر أشهر من ولاية أوباما وخلال السنة الأولى لإدارة ترامب، بأن التوتر في بعض الأحيان بلغ ذروته. وقال مونتغمري، وهو خبير في مركز التقييمات الإستراتيجية والمتعلقة بالميزانية، “أعضاء هيئة الأركان المشتركة يعتقدون أن أعضاء مكتب وزير الدفاع لا يقومون بواجبهم على أكمل وجه تجاه وزير الدفاع، لذلك حاولوا بقدر الإمكان أن يسدوا تلك الثغرة، وقد نجحوا بالفعل في بعض القضايا، الأمر الذي خلق التوتر”.
لكنّ مسؤولا سابقا في وزارة الدفاع طلب عدم الكشف عن هويته أشار إلى أن ماتيس ملأ مكتبه بمسؤولين عسكريين وقادة الجنود المحاربين. فعلى سبيل المثال، اختار ماتيس أدميرالا بحريا يحمل نجمتين، الأدميرال كريغ فالر الذي تم ترشيحه لرئاسة القيادة الجنوبية الأميركية، ليكون مستشارا عسكريا كبيرا له. كما اختار أيضاً ضابطا بحريا متقاعدا يحمل نجمتين، وهو كيفين سويني، ليكون رئيس هيئة الأركان المشتركة. عمل كلاهما مع ماتيس خلال فترة توليه منصب قائد القيادة المركزية الأميركية.
ولاحظ مراقبون أن صعود جون بولتون مستشارا للأمن القومي ومايك بومبيو كوزير للخارجية قد ساهم في تغيير آليات السلطة ضمن فريق الأمن القومي لدى ترامب. ويبدو أن الجنرالات الذين كانوا يهيمنون على السياسة الأمنية بدأ عددهم يتقلص مع ترامب. فقد حل بولتون مكان الجنرال إتش. آر. ماكمستر في أبريل، في حين تفيد تقارير إعلامية أن جون كيلي رئيس الأركان في البيت الأبيض وهو جنرال متقاعد مع أربع نجوم، فقد نفوذه لدى الرئيس الذي يتغير مزاجه بسرعة.
وقال أحد مسؤولي سياسة مكتب وزير الدفاع “شعرنا أن نفوذنا قد تقلص تدريجيا، وتم تجاوزنا بشكل كبير”. ووصف المسؤول الثاني السابق في وزارة الدفاع التصور العام بين المسؤولين المدنيين في البنتاغون بأن الوزير لا يثق أو يعتمد بشكل كامل على سياسة المدنيين في وزارة الدفاع.
ووفقا لما قاله أول مسؤول سابق في وزارة الدفاع “إن وزير الدفاع وموظفيه يرتاحون للعمل مع هيئة الأركان المشتركة، لكن يجب عليك، على الأقل في البداية، إفساح المجال للمدنيين لأنهم سيشاركون بخبرتهم المؤسسية”. وفي حين أن المسؤول أشار إلى أن المشكلة بدأت في عهد وزير الدفاع السابق آش كارتر “إلا أن الوضع أصبح أكثر سوءا الآن”. وتابع “أعتقد أن المدنيين يشعرون بأنهم غير مقدرين في هذه الإدارة عموما”.
والنتيجة النهائية لهذا التصدع، حسب مارا كارلين، الخبيرة في معهد بروكينغز، والتي خدمت في البنتاغون من 2004 إلى 2009، ثم مرة أخرى من عام 2012 حتى نهاية إدارة أوباما، هي أن السيطرة المدنية على الجيش يتم تقويضها.
هذا المفهوم الأساسي الذي يتطلبه القانون في الولايات المتحدة، يعود إلى الأيام الأولى للبلاد، عندما كتبه الآباء المؤسسون في الدستور. والهدف من السيطرة المدنية على الجيش هو تحقيق خدمة مدنية قوية، وتعمل بمثابة “العقل المدبر والذاكرة التاريخية لسياسة الأمن القومي” على مدار التغييرات في الإدارات، لكنها تتراجع تدريجيا أمام نفوذ الجنرالات وإحكام قبضتهم على البنتاغون.
العرب