سلطت العروض الروسية المتكررة لدعم الجيش اللبناني، الضوء على رغبة موسكو في إيجاد موطئ قدم ثابت لها في لبنان، بعد أن ظلت هذه الساحة غير مدرجة في سلم أولوياتها في المنطقة طيلة السنوات الماضية، وإن حرصت على الإبقاء على علاقات جيدة بمؤثثي المشهد السياسي في هذا البلد.
وتقول أوساط سياسية لبنانية إن التدخل الروسي المباشر في سوريا في العام 2015، الذي قلب معطيات الصراع هناك رأسا على عقب، باستعادة حليفها نظام الرئيس بشار الأسد زمام الأمور بعد أن كان قاب قوسين من الانهيار، أعطى موسكو دفعة قوية لتثبيت هذا التحول الذي لن يبقى تأثيره حبيس الجغرافيا السورية بل ستكون له امتدادات تطال الجار لبنان بالدرجة الأولى.
وتشير الأوساط إلى أن روسيا تحاول اليوم بشكل واضح مزاحمة النفوذ الأميركي والإيراني في لبنان وبدرجة أقل النفوذ الفرنسي، وترجم ذلك في الدعوات الرسمية التي وجهت للعديد من قيادات هذا البلد من مختلف التوجهات والمشارب العقائدية والسياسية لزيارة موسكو، فضلا عن تحركات سفيرها النشط في لبنان ألكسندر زاسيبكين.
وعلى خلاف إيران التي تراهن على ذراعها حزب الله في فرض سطوتها على الساحة اللبنانية عسكريا كان أو سياسيا فإن روسيا تفضل تنويع علاقاتها مع مختلف اللاعبين السياسيين المحليين، وقد استقبلت هذا العام كلا من رئيس الوزراء سعد الحريري (في أبريل)، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ورئيس الحزب الديمقراطي طلال أرسلان (في أغسطس).
ولا تقتصر محاولات روسيا لتحقيق اختراق نوعي في لبنان على تعزيز علاقاتها مع الفاعلين السياسيين فقط، بل تضع نصب عينيها الجيش اللبناني، حيث عرضت في أكثر من مناسبة التعاون مع المؤسسة العسكرية اللبنانية وتقديم الدعم لها.
ونشرت وكالة تاس الروسية للأنباء في فبراير الماضي مسودة اتفاق عسكري بين روسيا ولبنان. وتضمن الاتفاق، القابل للتجديد كل خمس سنوات، أهدافا عامة تتعلق بتحسين مستوى تبادل المعلومات وتطوير التدريب العسكري ومكافحة الإرهاب.
وفي أوائل العام الحالي، قالت وسائل إعلام محلية ودبلوماسي غربي إن روسيا عرضت تقديم خط ائتمان بقيمة مليار دولار على الجيش اللبناني لصالح الأسلحة وغيرها من المشتريات العسكرية.
ويقابل لبنان هذه العروض الروسية بتردد شديد، خشية أن يؤثر ذلك على العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، التي تنظر للنفوذ الروسي المتزايد في المنطقة كتهديد مباشر لمصالحها.
والولايات المتحدة هي أكبر جهة مانحة للجيش اللبناني تليها فرنسا، إذ منحته ما يزيد على 1.5 مليار دولار من المساعدات منذ عام 2006.
وتقول واشنطن إن دعمها يهدف إلى تعزيز الجيش بصفته القوة العسكرية “الوحيدة” المدافعة عن لبنان، حيث يتمتع حزب الله بنفوذ كبير، ومواجهة التهديدات القادمة من سوريا.
ويحاول لبنان الاحتماء بالمنطقة الرمادية، حيث أنه لا يريد رفض المساعدات العسكرية الروسية خشية فقدان طرف أضحى رقما صعبا في المعادلة الدولية، ومن جهة ثانية يحرص قادته على عدم إغضاب الحليف الاستراتيجي الولايات المتحدة.
وأعلن مكتب رئيس الوزراء اللبناني المكلف سعد الحريري الاثنين أن لبنان قبل عرض المساعدات الروسي الذي شمل الملايين من الأعيرة النارية التي ستوجه إلى الشرطة، نافيا تقارير إعلامية أشارت إلى رفض لبنان ذلك العرض.
وأضاف في بيان “يهم المكتب الإعلامي للرئيس الحريري أن يؤكد أن خبر رفض العرض عار من الصحة وأن الجانب الروسي قد تبلغ الموافقة على تسلم الهبة التي ستذهب لقوى الأمن الداخلي في وزارة الداخلية”.
على خلاف إيران التي تراهن على ذراعها حزب الله في فرض سطوتها على الساحة اللبنانية عسكريا كان أو سياسيا فإن روسيا تفضل تنويع علاقاتها مع مختلف اللاعبين السياسيين المحليين
وأوضح مستشار الحريري جورج شعبان، في تصريح لـ”أم.تي.في” أنه “في سبتمبر علمنا أن قيادة الجيش ليست بحاجة إلى الهبة الروسية فطلب مني الرئيس الحريري تحويل المساعدة إلى وزارة الداخلية وطلبت هذا الأمر من روسيا ولكن منذ 10 أيام تبلغت أنه لا يمكن تحويل الهبة لأن الأمر يتطلب قرارا رئاسيا”.
وأضاف “عندما تبلغنا بأنه لا يمكن تحويل الهبة من وزارة الدفاع إلى الداخلية، تم إبلاغ الروس أن وزارة الدفاع اللبنانية ستستلم الهبة وتقوم هي بتسليمها للداخلية”.
وكانت وكالة رويترز قد نقلت عن مصدر سياسي لبناني كبير رفض لبنان العرض الروسي “بذريعة أن لبنان لا يحتاج إلى هذه الأنواع من الأسلحة والذخيرة لكن السبب (الحقيقي) وراء ذلك ربما كان الضغط من الولايات المتحدة”.
وهناك نص قانوني صدر في العام 2017 يجيز للولايات المتحدة فرض عقوبات على البلدان التي تنخرط في “تعاملات مهمة” مع الجيش الروسي.
ويرى مراقبون أن التحفظ الأميركي على دعم روسيا للجيش اللبناني لا ينحصر فقط لجهة الخشية من أن يكون ذلك مدخلا رئيسيا لتعزيز موسكو نفوذها في لبنان، بل وأيضا لجهة وجود هواجس إسرائيلية أيضا.
ويوضح المراقبون أنه رغم وجود علاقات جيدة نسبيا بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والكرملين، وهناك تقاطعات في أكثر من ملف وعلى رأسها سوريا، تتسم هذه العلاقة في واقع الأمر بالهشاشة، وخير مثال على ذلك الأزمة التي نشبت في سبتمبر الماضي بين الجانبين على خلفية إسقاط الطائرة الروسية “إيل 20″ في سماء اللاذقية شمال سوريا، وقد سارعت موسكو إلى تحميل إسرائيل مسؤولية ذلك.
وردّا على الأمر أقدمت موسكو على تسليم النظام السوري منظومة “آس 300″ الدفاعية المتطورة في ظرف أيام، ومنذ ذلك الحين لم يسجل أي قصف إسرائيلي على مواقع في سوريا، وهو ما عزاه البعض إلى أن إسرائيل لا تريد استفزاز موسكو أكثر، وتراهن على التوصل إلى تفاهم جديد بشأن التنسيق معها.
وعلى ضوء هذه العلاقة التي تحكمها حسابات دقيقة فإن تل أبيب بالتأكيد لن تنظر بارتياح إلى دعم موسكو للجيش اللبناني الذي لطالما اعتبرته تحت وصاية حزب الله أحد ألد أعدائها في المنطقة.
وتفضل إسرائيل أن تبقى الولايات المتحدة أبرز داعم للجيش، رغم تحفظاتها المعلنة، لأن من خلال ذلك تبقى المتحكم في نوعية ترسانته من الأسلحة حيث تحرص على ألا تشكل أي تهديد فعلي بالنسبة إليها.
العرب