أثار تمكن تنظيم “داعش” من السيطرة على مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار في منتصف شهر مايو الجاري، المخاوف والشكوك إزاء استراتيجية واشنطن في العراق، وذلك بعد أن أصبح هذا التنظيم الإرهابي على بُعد 70 كيلومتراً فقط من العاصمة “بغداد”، وهو ما يُعد بمثابة ضربة موجعة لقوات التحالف الدولي التي تشن غارات جوية يومية بقيادة الولايات المتحدة ضد “داعش” منذ صيف العام الماضي.
كما يأتي هذا “الزحف الداعشي” على عكس ما كان يؤكده القادة العسكريون الأمريكيون الفترة الماضية بأن التنظيم الإرهابي في تراجع على الأرض، وإن كان “البنتاجون” قد أقر مؤخراً بأن سقوط الرمادي يشكل “انتكاسة” في حملة مكافحة الجهاديين.
في خضم هذه التطورات التي تشهدها الساحة الأمنية العراقية، نشر معهد بروكينجز مقالاً بعنوان: “العراق في أعقاب سقوط مدينة الرمادي: كيف يتم تجنب حدوث انهيار آخر للعراق” للكاتب “كينيث بولاك”، وهو زميل بارز في مركز سياسة الشرق الأوسط بمعهد بروكينجز، وخبير متخصص في الشؤون العسكرية والسياسية بمنطقة الشرق الأوسط وتحديداً العراق وإيران ودول الخليج.
وقد ركز “بولاك” في مقاله على الآثار السلبية الناتجة عن سقوط مدينة الرمادي في يد تنظيم “داعش” الإرهابي، والدروس المستفادة من ذلك، ورؤيته للمستقبل العراقي القريب.
انتكاسة سقوط مدينة “الرمادي”
استهل الكاتب مقاله بالتأكيد على أن سقوط مدينة الرمادي العراقية في أيدي “داعش”، يمثل انتكاسة للعراق والولايات المتحدة، إلا أنه لا يمثل كارثة، حيث يعد فرصة لإحداث صحوة أمريكية وعراقية فيما يتعلق بتغيير طريقة التعامل مع الحرب الأهلية الدائرة في العراق منذ سنوات.
ورأى الكاتب أن سقوط مدينة الرمادي لم يكن وليد الصدفة، وإنما هو نتاج حرب ممتدة قادتها قوات “داعش” منذ عدة شهور حتى تمكنت من إجبار قوات الأمن العراقية على التراجع لبعض المواقع الدفاعية خارج المدينة، معتبراً أن هذا السقوط سيحقق مكاسب “داعشية” كبيرة مثلما حدث في يونيو 2014، غير أنه لن يكون نقطة ارتكاز لاحتلال المزيد من المدن العراقية، خاصةً العاصمة “بغداد” التي يتولى الدفاع عنها عشرات الآلاف من الميليشيات الشيعية، والتشكيلات الأكثر تنظيماً داخل الجيش العراقي.
وفي هذا السياق، أشار “بولاك” إلى أن جزءاً كبيراً من الصدمة جراء سقوط مدينة الرمادي، هو التصور الخاطىء الموجود لدى البعض من أن هذا السقوط سيدفع قوات التحالف الدولي لتحقيق انتصارات تنتهي في نهاية الأمر إلى التحرير الكامل للعراق، وأوضح أن ذلك غير وارد في ظل ضعف الموارد المالية الأمريكية المخصصة لحرب العراق، إضافة إلى ضعف إمكانات قوات التحالف الدولي.
دلالات سقوط “الرمادي”
اعتبر “بولاك” أن فهم أسباب هزيمة التحالف الدولي في الرمادي يمثل أهمية قصوى، نظراً لتأثيره النفسي على الجانبين، حيث ثبت خطأ التفسير الخاص بتحرير مدينة تكريت بأنه نتاج الدعم الجوي الأمريكي، والذي كان هو الأساس في تحرير تكريت وإخراج مقاتلي “داعش” منها في ذلك التوقيت، وهو الأمر الذي ثبت خطأه مع مدينة الرمادي؛ حيث إن القوات الأمريكية الداعمة للجيش العراقي لم تتمكن من الاحتفاظ بالرمادي؛ وهو ما يمكن أن يؤدي إلى توسيع النفوذ الإيراني من جديد في بغداد على حساب واشنطن.
وأشار “بولاك” في هذا الصدد إلى إمكانية أن يؤدي سقوط مدينة الرمادي إلى نجاح المخططات “الداعشية” الرامية لتجنيد الشباب العربي السُني صغير السن الذي انجذب لقوة ونجاحات تنظيم “داعش”، خاصةً في ظل استيلاء التنظيم على مساحات واسعة من الأراضي العراقية والسورية، وتهديده للأنظمة التقليدية في الشرق الأوسط.
ويضاف إلى ذلك، انتشار الغضب والإحباط بين صفوف الشباب العربي، ناهيك عن “الانتصارات” التي يحققها هذا التنظيم على القوات الجوية الأمريكية، وهو ما يؤدي إلى تلميع صورته أمام الشباب العربي ويسهل من عمليات تجنيده في نهاية الأمر.
الدروس المستفادة من سقوط “الرمادي”
أشار الكاتب إلى أن سقوط مدينة الرمادي دفع إدارة أوباما إلى التركيز على الأسباب التكتيكية “غير الضرورية” لهذا الإخفاق، مثل (سوء الطقس، وانخفاض الروح المعنوية للقوات، وعدم كفاية الأسلحة المضادة للدبابات)، وهي العوامل التي تؤدي إلى إحداث تعديل طفيف على استراتيجية عمل القوات على الأرض.
من جانبهم، استنكر بعض منتقدي الإدارة الأمريكية تفسيرها لسقوط مدينة الرمادي واقتصارها على العوامل المذكورة أعلاه، حيث اعتبروا أن سيطرة “داعش” على مركز محافظة الأنبار هو نتاج وجود خطأ في الاستراتيجية الأمريكية، وعدم تصويبها نحو الاتجاه الصحيح، وطالبوا إدارة “أوباما” بتبني نهج سياسي مغاير نحو العراق.
وفي هذا الإطار، اعتبر “كينيث بولاك” أن الاستراتيجية التي أعلنتها الإدارة الأمريكية في سبتمبر عام 2014 كانت جيدة وقابلة للاستمرار، إلا أنه لم يتم متابعتها أو توفير الموارد لها بشكل كاف، حيث التزمت إدارة “أوباما” نحو العراق وسوريا بعدة أمور من بينها، ما قام به الرئيس الأمريكي من التوقيع على حملة جوية ضخمة، والموافقة على برنامج واسع النطاق لإعادة بناء وتقديم الاستشارة للقوات المسلحة العراقية، فضلاً عن مشروع تسليح وتدريب رجال القبائل السنية، وجاء ذلك بالتزامن مع بذل جهود حثيثة للتوصل لاتفاق جديد لتقاسم السلطة وتحقيق المصالحة بين الفصائل السنية والشيعية.
بيد أن هذا الالتزام لم يستمر سوى بضعة شهور؛ إذ إنه بنهاية عام 2014 كانت السياسة الأمريكية قد بدأت تضعف، حيث اختفت سوريا من أجندة السياسة الأمريكية سياسياً وعسكرياً، وأصبح من الصعب أن يتم التوسع في الحملة الجوية الأمريكية في العراق، وذلك بعد أن اقتصر التدريب العسكري الأمريكي على (4 إلى 6) ألوية في الجيش العراقي. كما تم تقليص الجهد الاستشاري الأمريكي ليقتصر على المدربين والمستشارين لمستوى “فرقة” والمستويات الأعلى منها فقط، فضلاً عن عدم بذل جهد سياسي أمريكي لتحقيق المصالحة الوطنية.
وعلى الرغم من تسبب العراقيين أنفسهم في فشل العديد من الملفات السابق ذكرها، حيث وجهت إليهم الإدارة الأمريكية اللوم بسبب إخفاقهم في التفاوض والتوصل إلى اتفاق سياسي جديد، ورفض الحكومة العراقية تسليح وتدريب السنة، فإن “بولاك” يرى أن هذه الادعاءات لا تمثل أعذاراً كافية للتقاعس الأمريكي عن العمل، خاصةً في ظل التهرب من بذل الجهد اللازم عندما يرغب العراقيون القيام بذلك، مستدلاً على ذلك برفض واشنطن إرسال مستشاريين جويين لمساعدة التشكيلات الميدانية العراقية تحت ذريعة الحفاظ على المواطن الأمريكي من الموت.
من جانب آخر استنكر “بولاك” الادعاء الأمريكي الخاص بافتقار الولايات المتحدة لقوة التأثير على العراقيين، معتبراً أن قوة التأثير هي أمر يتم بنائه من خلال تخصيص الموارد وتوفر الإرادة السياسية، وهو ما نجحت فيه الإدارة الأمريكية عندما أصرت على استبعاد الميليشيات الشيعية من المشاركة في تكريت، وكذلك الرمادي.
كما نجحت واشنطن أيضاً في أغسطس 2014 عندما طالبت رئيس الوزراء العراقي السابق “نوري المالكي” أن يستقيل، وتم اختيار “حيدر العبادي” في أعقاب الهجوم “الداعشي” على أربيل، وهو ما تحقق في الحالتين من خلال دعم هذه المطالب بالموارد اللازمة، علاوة على الالتزام بتوفير التدريب والمستشارين والمعدات العسكرية، وتعيين مبعوث رئاسي رفيع المستوى “الجنرال جون ألين”، إضافة إلى ممارسة الضغط الدبلوماسي عن طريق الشركاء الأوروبيين والعرب.
المطلوب من الإدارة الأمريكية
شدد “كينيث بولاك” على ضرورة ألا يصبح سقوط مدينة الرمادي بداية الانهيار للعراق، معتبراً أن هذا السقوط هو بمثابة “إنذار بالخطر سياسياً” أو “انتكاسة عسكرية متواضعة”، فالعراق حالياً ليس على طريق السلام والاستقرار المنشود، مما يتطلب عملاً شاقاً وطويلاً ومساعدة أمريكية للعراقيين، وإلا فإن بلاد الرافدين ستستمر في حالة من الفوضى والحرب الأهلية.
ومن ثم، أكد الكاتب أنه لا يوجد بديل عن المساعدة الأمريكية السياسية والعسكرية للعراق، محذراً من أن المساعدة الإيرانية ستؤدي إلى غرق العراق في مزيد من الاضطرابات. وعليه، فإن الخيار الأمريكي إما بذل المزيد من الجهد لجذب العراقيين لتحقيق السلام والاستقرار، أو أن تمضي الدولة العراقية في طريقها للفوضى والحرب الأهلية، وهو الأمر الذي لا يتطلب بالضرورة إرسال عدد كبير من القوات تصل قوامها إلى نحو 160 ألف جندي أو أن ترسل مساعدات سنوية تُقدر بحوالي 25 مليار دولار، وإنما أن تنفذ الادارة الأمريكية ما وعدت به في سبتمبر 2014. وهو ما يعني القيام بما يلي:ـ
1- بذل جهد محدد ودائم لتحقيق مصالحة وطنية وترتيبات تقاسم السلطة بين كافة الفصائل العراقية، مثلما قامت به الولايات المتحدة في عامي 2007 و2008, فالتاريخ يثبت أن العراقيين لن يستطيعوا فعل ذلك دون مساعدة أمريكية.
2- توفير المزيد من أفراد الجيش الأمريكي لتوسيع عمليات تدريب الجيش العراقي وتقديم المشورة للتشكيلات العراقية وصولاً إلى مستوى الكتيبة في الميدان.
3- توسيع نطاق برنامج تسليح وتدريب رجال القبائل السنية كوحدات شبه عسكرية لدعم قوات الجيش العراقي. وقد تضطر الولايات المتحدة إلى الإصرار على ذلك، رغم اعتراض الكثير من الشيعة العراقيين.
4- توسيع المساعدات العسكرية وغير العسكرية للعراق ولحكومة “حيدر العبادي”، باعتبارها قوة مساعدة للدبلوماسيين الأمريكيين، ووسيلة لتعزيز مكانة رئيس الوزراء العراقي. فالعراقيون قد لا يكونون بحاجة لمزيد من الأسلحة العسكرية، لكن ليس ثمة شك في أن حكومة “العبادي” تحتاج هذه الأسلحة لأسباب سياسية؛ وذلك لمواجهة خصومها الذين يدَّعون أن العراق يمكنه الحصول على كل ما يحتاجه من إيران.
وبالمثل، فإن المساعدات غير العسكرية (خاصةً التعامل مع الأزمة المالية الحرجة للعراق) سوف تسلط الضوء على قدرة واشنطن على تزويد بغداد بمساعدات لا يمكن لطهران الوفاء بها ببساطة.
واختتم الكاتب بالتأكيد على أن تنفيذ كافة النقاط السابقة لا يضمن أن يصبح العراق على ما يُرام؛ فهذه النقاط ليست سوى اقتراحات للتوصل لنتائج أقل سوءاً، كما أن اتباع هذه التغييرات سيُعطي للولايات المتحدة والعراق فرصة أفضل لتحقيق السلام الدائم والاستقرار.
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة