يُثرَى كتاب ” القوى الإقليمية في الشرق الأوسط: إعادة التشكيل بعد الثورات العربية” القارئ بمعلومات حول شبكات القوى المؤثرة في المنطقة، ومدى تأثرها بالتغيرات الأخيرة المتمثلة في ثورات الربيع العربي، وذلك من خلال دراسة القضية من منظور الدول الخمس التي تحتفظ بلقب “قوة إقليمية”، وهي: إيران، ومصر، وتركيا، وإسرائيل، والمملكة العربية السعودية.
وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم القوة -ولاسيما القوة الإقليمية- قد تمت مناقشته مرارًا داخل الدوائر السياسية الدولية: كيف يمكن اكتساب هذه القوة؟ وماذا يعني اكتسابها؟ وكيف يمكن استخدام هذه المسؤولية أو الفرصة -إذا صَحَّ التعبير- الاستخدام الأمثل؟ هذا ما يحاول الكتاب توضيحه من خلال فصوله الخمسة التي تحتوي على أحد عشر مبحثًا، شارك في إعدادها مجموعة من الكُتَّاب والباحثين السياسيين.
ففي فصله الأول تطرق إلى قضية إيران ورسالتها الثورية من خلال النظر في أحوالها منذ عهد الشاه حتى عصرها الحالي، وما إذا كانت قد ربحت من ثورات “الربيع العربي” أو خسرت باندلاعها. ويستعرض الفصل الثاني انعكاسات فشل جماعة “الإخوان المسلمين” على مكانة مصر الإقليمية، والتدقيق في وضعها كمرجعية إقليمية للشرق الأوسط. واهتم الفصل الثالث بتحول وضع تركيا كقوة إقليمية في الشرق الأوسط قبل وبعد الثورات العربية، وإمكانية عودتها لعُمقها الثقافي والتاريخي في تلك المنطقة. وناقش الفصل الرابع وضع إسرائيل كقوة إقليمية جزئية في الشرق الأوسط وآفاقه وتحدياته. وتناول الفصل الخامس دور المملكة العربية السعودية واحتمالات تراجعه في المنطقة، وعلاقتها بالربيع العربي ومدى تأثرها به، وجهودها في الحفاظ على مكانتها كمنافس رئيسي على قيادة المنطقة.
يقول “مارتن بيك”، أستاذ دراسات الشرق الأوسط المعاصرة في جامعة هامبورج بألمانيا، في مقدمة الكتاب: إن منطقة الشرق الأوسط لم تفرز قوى إقليمية حرة، وإنما ظهرت تلك القوى نتيجة تأثيرات متداخلة ومعقدة لعوامل داخلية وخارجية، وإن أقوى اللاعبين السياسيين في الشرق الأوسط ليسوا أولئك الذين يعتبرونه بيتهم، ولكن أولئك الموجودون خلف المحيط الأطلنطي في الولايات المتحدة، وقبل ذلك القوى الاستعمارية كفرنسا وبريطانيا إبَّان الحرب العالمية الثانية.
وتعقيبًا على ذلك، يشار إلى أن مصطلح “الشرق الأوسط” قد صُكَّ حديثًا؛ حيث ظهر بعد الحرب العالمية الثانية وتكرَّس بوضوح بعد “حرب السويس” عام 1956. ويُقصَد به في الأدبيات السياسية والاستراتيجية تلك المنطقة الواقعة بين تخوم إيران في غرب آسيا وصولًا إلى الشمال الإفريقي، مع عمقها في الجزيرة العربية، وامتدادها شمالًا يكاد يحتوي الحدود التركية مع العالم العربي.
وكان ظهور النفط في الجزيرة العربية ومنطقة الخليج قد طرح معادلة جديدة زادت من الأطماع الأجنبية في تلك المنطقة ومحاولة احتوائها سياسيًّا واقتصاديًّا، فالولايات المتحدة الأميركية يسيطر عليها هدفان رئيسيان في الشرق الأوسط، هما: ضمان أمن إسرائيل، وحماية منابع النفط؛ لذا تركَّز الصراع الدولي والإقليمي بالمنطقة دائمًا على مسألتي الثروة العربية وقضية الصراع العربي-الإسرائيلي.
في المبحث الأول من الفصل الأول وعنوانه “إيران ورسالتها الثورية” رأى “هينر فورتيج”، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط بالمعهد الألماني للدراسات الدولية والإقليمية والأستاذ بقسم التاريخ بجامعة هامبورج بألمانيا، أن احتجاجات الربيع العربي أتاحت لإيران فرصة لتوسيع نفوذها في أنحاء المنطقة؛ حيث اعتبرتها امتدادًا لثورتها الإسلامية، وهي المزاعم التي وصفها “فورتيج” بأنها “بعيدة المنال”؛ نظرًا للبعد الزمني بين الحدثين، فضلًا عن الاختلاف الكبير بين التفكير الشيعي لإيران من جهة، وأيديولوجية الوحدة العربية السائدة بمصر والعراق من جهة أخرى، مضيفًا: “إن أكثر ما يأسف قادة إيران بشأنه هو فشلهم في كسب الإسلاميين في صفهم (في إشارة إلى جماعة “الإخوان المسلمين”)، فهذا الفشل -إلى جانب معارضة دول الخليج- أفقدها فرصة نسبة الفضل إلى نفسها في اندلاع الاحتجاجات العربية”.
وإلى جانب القوى الناعمة لفهم النفوذ الإيراني، حاول البروفيسور “آرشين أديب مجدم”، أستاذ الفكر والفلسفة بكلية لندن للاقتصاد، ورئيس معهد الشرق الأوسط للدراسات الإيرانية فيها؛ حاول في المبحث الثاني من الفصل نفسه إيجاد الصورة المثلى لإيران وسط “مجتمع الأمم”؛ إذ رصد مساعيها لترسيخ صورتها في النظام العالمي كشعب “أريان” الفارسي، ثم الاعتماد على أيديولوجيتها الإسلامية في محاولةٍ منها لتحديد مكانتها في العالم ونِسبة بعض الفضل إليها، وتساعد سياسات الهوية في فهم رؤية كل أمة لنفسها؛ ولكن تصور إيران عن المكانة الدولية الرفيعة طغى على واقع القوى الحقيقية للدولة ونفوذها. غير أن قدرات إيران العسكرية العالية، بالإضافة إلى قدرة من اكتسبتهم من حلفاء، على تشكيل مستقبل دول المنطقة والجوار الدولي، لم تدخل في اعتبار كل من “فورتيج” و”مجدم”.
ومن وجهة نظرنا، تبرز إيران من بين الدول التي تُعد قوى إقليمية كواحدة من أكثر الدول إثارة للقلق، فدائمًا ما يدور جدل حول إمكانياتها النووية (زاد ذلك الآن أكثر من أي وقت مضى مع اقتراب مفاوضاتها مع مجموعة دول 5+1 من اتفاق نهائي)، ويدور جدل كذلك حول مدى النفوذ الذي اكتسبته منذ الثورة الإسلامية نتيجة الانتفاضات التي اجتاحت المنطقة خلال العقد الأخير، فامتد نفوذها إلى كل من لبنان، وبغداد، ودمشق، وأخيرًا صنعاء، كما تدَّعي أن تعزيز قوتها جاء لموقفٍ معادٍ من النظام الدولي الحالي.
وقد أكَّد ذلك كثير من المراقبين؛ منهم المفكر والدبلوماسي المصري “د. مصطفى الفقي” في مقال له بصحيفة “الحياة” 11 سبتمبر/أيلول 2012؛ حيث أشار إلى أن الثورة الإيرانية طرحت بُعدًا جديدًا من منظور استراتيجي إقليمي كانت له أبعاد دولية مؤثرة في سياسات الدول الكبرى والصراع العربي-الإسرائيلي، ولعب الملف النووي الإيراني دورًا في المواجهات الإقليمية والدولية في آخر عقدين ترتبت عليه سياسات إقليمية قامت على أساس الاستقطاب وتقسيم الشرق الأوسط.
وفي الفصل الثاني الذي جاء تحت عنوان: “مصر: مجد الماضي والمستقبل”، وبالمبحث الأول منه، رأى كل من “إليزابيث منير”، الباحثة في مركز دراسات العولمة والجهوية بجامعة ورِك، المملكة المتحدة، و”آنيت رانكو” الباحثة في المعهد الألماني للدراسات الدولية والإقليمية، وأستاذة الدراسات الإسلامية بجامعة هامبورج الألمانية، أنه منذ سبعينات القرن الماضي انخفض دور مصر كقوة إقليمية، ليس بسبب تحالفها مع الولايات المتحدة فحسب، بل أيضًا بسبب تحالفها الجديد مع إسرائيل الذي وضع نهاية للصراع، وهو ما لاقى استحسانًا وشعبية في العالم العربي، كما ادَّعت الباحثتان على عكس الحقيقة. وتَعتبر الباحثتان أن الإسلاميين من بين المناهضين لسياسات “مبارك”، التي وُصفت في ظل تحالفه مع إسرائيل بأنها “تحمي مصر والوطن العربي”.
أمَّا “مصطفى اللباد”، رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية بالقاهرة، ورئيس تحرير مجلة “شرق نامه” المتخصصة في الشؤون الإيرانية والتركية وآسيا الوسطى، فاعتبر في المبحث الثاني من الفصل نفسه أن فوز “الإخوان المسلمين” في انتخابات البرلمان لفترة وجيزة بعد نجاح ثورة 25 يناير/كانون الثاني، ومع رئاسة “د. محمد مرسي” والتي يرى الباحث أنها كانت سلبية، أدَّى ذلك إلى الإطاحة بـ”الإخوان المسلمين” في 30 يونيو/حزيران 2013.
ويرى الكاتب أن عدم تقبل جماعة “الإخوان المسلمين” في الحكم لم يكن بسبب رؤيتها السياسية فحسب، ولكن بسبب عدم قدرتها على إدخال المناخ الجديد لما بعد “الربيع العربي” إلى تلك الرؤية، وعدم تحقيق تقدم حقيقي في الحفاظ على مصالح مصر.
وتتبع “اللباد” علاقات مصر مع الدول الأربع الأخرى (إيران وتركيا وإسرائيل والسعودية)، وقام بتحديد سياستها وأنها تسير بالطبيعة نفسها على مدى الـ 30 عامًا الماضية، وهو ما قد أدَّى بدوره إلى تعزيز تحالفها مع الولايات المتحدة الأميركية. وفي تعليقه على ذلك، أشار “د. يزيد الصايغ” (مدير معهد كارنيجي في بيروت) في مقال نُشر على موقع المعهد في مارس/آذار 2015، إلى أن مصر تستعد للعب دور بارز خارج حدودها، لكنه رأى أن آمال البعض في أن تستأنف ذلك النوع من الزعامة الإقليمية الذي مارسته سابقًا في عهد الرئيس “جمال عبد الناصر” أو حتى “أنور السادات” ظنٌّ في غير محله، فصحيح أن التحدي الذي يواجه الأمن القومي المصري حقيقي، لكن نشاط السياسة الخارجية الحالي ينحو إلى أن يكون مظهرًا بلا مضمون، وأنه مسخَّر، جزئيًّا على الأقل، لتشتيت انتباه المتابعين في الخارج والداخل عن تزايد المتاعب الاجتماعية والاقتصادية والأمنية في الداخل المصري.
وأوضح “آندريه بنك”، الباحث في المعهد الألماني للدراسات الدولية والإقليمية في مدينة هامبورج الألمانية، و”روي كاراداغ”، الباحث في معهد الدراسات الثقافية الدولية بجامعة “بريمن” بألمانيا، في المبحث الأول من الفصل الثالث والذي جاء تحت عنوان: “تركيا والماضي العثماني”، أن علاقات تركيا داخل المنطقة معقدة بسبب تاريخها وأنها كانت مقرًّا للحكم العثماني، ويسارع الكثيرون إلى اتهام حكومة “العثمانيين الجدد” في تركيا بممارسة تأثير كبير في المنطقة، ولكن يبقى لها في المقابل أنها قد وفَّرت نموذجًا للديمقراطية تمثَّل في نجاح حزب “العدالة والتنمية” الذي قدَّم نموذجًا للحكومات والجماعات الإسلامية في المنطقة، فضلًا عن الوجود الإيجابي لتركيا في المنطقة، كما أكَّد الباحثان أن أنقرة كانت المرشح المحتمل لتولي القيادة الإقليمية بمنطقة الشرق الأوسط مع بداية الثورات العربية.
واستطرد الباحثان قائلين: إن تركيا في اعتمادها على مبدأ “القوة الناعمة” قوبلت بمعارضة شديدة، وثبت أنه من الصعب أن يكون لها تأثير حقيقي على الأحداث، لافتين النظر إلى تعاملها مع أزمة سوريا كمثال واضح على ذلك، ورؤيتها وردود أفعالها على احتجاجات المتظاهرين بميدان “تقسيم” في “إسطنبول” والصراع على السلطة مع حركة “كولن”، ولكن لا يزال لها دور وثِقل يوضع في الحسبان.
وعن احتمالات عودة تركيا إلى الشرق الأوسط، رأت “مليحة بينليا التونيشيك”، بروفيسورة في قسم العلاقات الدولية بجامعة الشرق الأوسط التقنية “ميدل إيست تكنيكال” بتركيا، في المبحث الثاني، أن تحول تركيا الاقتصادي والسياسي وكذلك المفاهيم والسياسات الرامية إلى بناء قوة إقليمية واضحة المعالم، جعلها تتوقع معاملتها كقوة إقليمية في أعقاب الانتفاضات العربية. ومع ذلك، فشلت في الاستفادة الكاملة من الفرص التي أُتيحت أمامها، ورغم أن ازدياد الصراعات في المنطقة شكَّل عاملًا مقيِّدًا لحركتها، إلا أنها أبقت اعتمادها على “القوة الناعمة” في الوصول إلى هدفها ولم تلجأ إلى الاعتماد على القوة الصارمة. وفي تقييمه لتلك النقطة، رأى الباحث “سالم حميد” في مقال له نُشر بصحيفة “الاتحاد” (1 مارس/آذار 2015)، أن تركيا تحاول استعادة الامبراطورية العثمانية، وأن هذا الحلم الذي خرج من مكامنه مع نظام “أردوغان” بات يهدد العالم العربي الذي لا يزال الأتراك يعتبرونه إرثًا عثمانيًّا، وأن الفارق الوحيد بين العثمانيين القدامى والعثمانيين الجدد هو أن الأوائل غزوا البلاد العربية بجنود “الانكشارية”، أمَّا العثمانيون الجدد فيريدون غزوها بجنود الإرهاب العالمي، حسب قول الباحث.
ولكون إسرائيل قد أُنشئت لتكون دولة يهودية، فقد أشار “روبرت كابل” باحث بالمعهد الألماني للدراسات الدولية والإقليمية بهامبورج في ألمانيا، في المبحث الأول من الفصل الرابع الذي جاء تحت عنوان: “إسرائيل: الفرص المخبوءة”، إلى أن وضع إسرائيل بالمنطقة غير مشابه للدول الأخرى، بل مميز ومتفرد عنها، والصراع الدائر مع الفلسطينيين يستمر في إعاقتها عن إقامة علاقات جيدة مع جيرانها في المنطقة، وأن قدرتها العسكرية الضخمة بجانب علاقاتها القوية مع النظام الدولي، وإن لم تعطها القدرة على صياغة الواقع كما ترجو، فهي تعطيها “قوة المنع” من صياغته وفق ما لا تريد.
علاوة على ذلك، فإن قوتها في المنطقة منقوصة بشكل كبير؛ فمكانتها كدولة ديمقراطية تمكِّنها من أداةٍ للقوة الناعمة في المنطقة، ومع ذلك فقد فشلت في أداء هذا الدور؛ نظرًا لعجز الأنظمة الديمقراطية الأخرى في المنطقة عن أداء دور مماثل كما يرى الباحث. فضلًا عن أن معظم الدول العربية ترى في إسرائيل تهديدًا لها، وهو ما يُضعف قدرتها على التأثير في الأحداث الجارية، وستحتاج إسرائيل إلى التقليل من التمسك بيهودية الدولة وتفعيل عملية السلام مع الفلسطينيين، لكسر الحواجز وممارسة دور أكبر في المنطقة.
وفي المبحث الثاني الذي تناول إسرائيل كقوة إقليمية منقوصة التأثير، ذهب “مارك آي. هيلر”، باحث أول بمعهد الدراسات الأمنية القومية بإسرائيل، إلى أبعد من ذلك؛ حيث يقول: إن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني تسبَّب في الحد من قدرتها على إظهار القوة والسلطة، وسمح للآخرين بمعارضتها، وربما تكون قادرة على بناء علاقات ثنائية مع دول أخرى، ولكن القضية ليست بتلك الصورة، فلن تكون قائدة حقيقية في المنطقة؛ نظرًا للاختلافات التاريخية والثقافية الكبيرة.
وفضلًا عن رأي الباحث، فقد أرجع كثير من الساسة العرب سبب أزمة هذه المنطقة وتوترها إلى وجود إسرائيل وأنها تهديد لأمن المنطقة وسلمها، ورغم أن هذا الصراع يحدث في منطقة جغرافية صغيرة نسبيًّا، إلا أنه يحظى باهتمام سياسي وإعلامي دولي كبير؛ لأنه يرتبط بقضايا إشكالية تتركز حول أحقية الحركة الصهيونية في الاستيلاء على أرض فلسطين وإقامة دولة قومية يهودية على أرضها بعد طرد سكانها الأصليين منها، أي إن طبيعة النزاع تتركز حول “القضية الفلسطينية”.
ويوضح “توماس ريتشنر”، باحث بمعهد دراسات الشرق الأوسط بالمعهد الألماني للدراسات الدولية والإقليمية، في المبحث الأول من الفصل الخامس تحت عنوان: “المملكة العربية السعودية: ما هو أكثر من الدولارات النفطية” أن النشاط الجديد للقيادة السعودية بعد الربيع العربي كان لافتًا للنظر، مشيرًا إلى تصور صانعي السياسات السعودية للعديد من التهديدات الأمنية المختلفة، ورغم ذلك، فشلت المملكة في تقديم رؤية شاملة جديدة لمواجهة التهديدات بالشرق الأوسط.
وفي المبحث الثاني من الفصل نفسه، تحدَّث “سعود المساعد التمامي”، أستاذ مساعد بقسم العلوم السياسية بجامعة الملك” سعود” بالرياض، عن نهج السعودية تجاه انتفاضات الدول العربية، لافتًا إلى أن ردَّ فعلها تجاه الربيع العربي كان شديد التعقيد، وتَحدَّد بحاجتها إلى الحفاظ على الوضع الراهن في بعض القضايا، أو تغيير الوضع في قضايا أخرى.
أما “هينر فورتيج” محرر الكتاب، فقد أكَّد في المبحث الثالث أن السعودية كانت دائمًا منافسًا رئيسيًّا كزعيم وقائد بالمنطقة؛ نظرًا لسلطتها الدينية وتحكُّمها بالنفط، غير أنها فشلت في القيام بهذا الدور، ولم تتأثر بالانتفاضات التي وقعت في الدول العربية إلى حدٍّ كبير، بينما سعت ومعها دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى إلى ضم الأردن والمغرب إلى المنظومة الخليجية، في محاولة لتقوية ممالك المنطقة لمواجهة الانتفاضات.
وتعليقًا على ذلك، يقول “آندرو تيريل”، باحث في معهد الدراسات الاستراتيجية بكلية الحرب الأميركية، ديسمبر/كانون الأول 2011: نحن لا ننكر -ولا أحد يستطيع- أن الشرق الأوسط يمر الآن بحقبة تغيير ثورية تتحدى عمليًّا السياسات الخارجية للولايات المتحدة وكل الدول الإقليمية. وفي هذه البيئة الجديدة، نجد أن التحديات قد فرضت على عدد من الدول الإقليمية وغيرها حماية مصالحها الوطنية، ومحاولة تهميش محاولات منافسيها في الاتجاه ذاته.
إن أهم المنافسات التي تحدد المشهد الاستراتيجي للشرق الأوسط هي الحاصلة الآن بين إيران والسعودية؛ فصحيح أن التنافس بين هاتين الدولتين قديم، لكنه اكتسب أهمية كبيرة في الوقت الراهن، لاسيما مع المحاولات التي تقوم بها إيران لفرض نفسها كقوة إقليمية مؤثرة في المنطقة على حساب السعودية.
وعلى أية حال، ترجع سيناريوهات صعود أو هبوط قوة إقليمية في منطقتها إلى مجموعة من العناصر (مقومات ومعوقات) تحدد فرص كل دولة، تتمثل في قدرة الدولة على تحمل القيادة انطلاقًا من مقومات القوة التي تحوزها (قد تكون جغرافية، أو سياسية، أو عسكرية، أو اقتصادية)، ودرجة استقرارها السياسي والأمني، ورصيدها القيادي التاريخي ونفوذها الرمزي (الثقافي والديني)، وموقفها من القضايا المحورية في المنطقة (القضية الفلسطينية، حركات المقاومة الفاعلة إقليميًّا، الملف النووي الإيراني، الربيع العربي)، ومدى القبول الإقليمي بالدور القيادي لكل دولة، وأخيرًا علاقاتها مع بعض القوى الدولية الصاعدة كروسيا والصين.
إن القوى الإقليمية في الشرق الأوسط تخضع لمتغيرات وتحولات، فهي ليست ثابتة؛ فإيران -على سبيل المثال- كانت مجهدة بسبب المواجهة مع “عراق صدام”، وهي اليوم تعد نفسها قوة إقليمية غير قابلة للمقارنة بجيرانها، وكذلك كانت “مصر الناصرية” قوة إقليمية مؤثرة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، لكن توارى دورها وخفت صوتها، والدولة التركية التي انشغلت لعقود عِدَّة في البناء الداخلي قد أطلَّت على الشرق الأوسط بدرجة عالية من الانفتاح، خصوصًا في العقد الأخير، وتريد إعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، ولكن بعضوية “الأطلنطي” والتحالف مع “واشنطن” وتوازن العلاقة مع “إسرائيل”.
وفي حين تبرز السعودية في الفترة الأخيرة كقوة محورية وفاعلة في المنطقة العربية، خاصة بعد الثورات العربية، تحولت إسرائيل من دولة لا ينتقدها أحد إلى محطِّ نقدٍ كبير من الدول والمنظمات الدولية في الفترة الأخيرة. ويعتبر الكاتب الصحفي “جورج فريدمان” (في مقال له نشرته جريدة الشروق المصرية 8 مارس/آذار 2015) أن المنافسة المباشرة بين طهران والرياض شكَّلت تهديدًا كبيرًا لأمن واستقرار الإقليم، مما يستلزم دورًا تركيًّا أكبر في المنطقة.
إذًا لا توجد موازين ثابتة للقوى في منطقة الشرق الأوسط، بل هي متغيرة وفقًا لتداخلات مع القوى الكبرى ولارتباط المنطقة بكيانات خارجية ذات تأثير واضح على المنطقة. وإذا كنَّا نقوم حاليًا بعملية رصد لموازين القوى الإقليمية، فإن كلًّا من: إيران وتركيا ومصر والسعودية وإسرائيل تمثل ركائز لقوى مؤثرة من النواحي السياسية والاقتصادية والعسكرية. فالأقاليم الجغرافية والمناطق الاستراتيجية تقبل التغير من وقت لآخر؛ ويجب أن نضع في اعتبارنا أن الشرق الأوسط منطقة تتوسط العالم، وتتميز بحساسيات كثيرة وتراثٍ عريق، فهي موطن الديانات السماوية، ومهبط الرسالات الروحية، ومنشأ الحضارات، فضلًا عما لحقها من مؤثرات خارجية وافدة إليها، لعل أهمها ميلاد دولة إسرائيل الذي كان العلامة الأبرز في تكوين الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن.
خلاصة القول: يمكن استنتاج أن النمط القيادي الأكثر ترجيحًا في المنطقة هو صعوبة بروز دولة بمفردها تهيمن على الشرق الأوسط بسبب عدم توافر أغلب مقومات القوة في دولة بعينها.
فالدكتور “علي الدين هلال”، عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الأسبق بجامعة القاهرة، يرى في كتابه “دراسة في العلاقات السياسية العربية”، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، أنه إلى جانب عدم رغبة كل دولة في صعود دولة أخرى لقيادة المنطقة، إلا أن معوقات الواقع تحول دون استئثار دولة واحدة بدور القيادة، أضف إلى ذلك الدور الأميركي المانع لكل طموح مستقل، فليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تظهر في الشرق الأوسط قوة مستقلة استراتيجيًّا عن المنطق الأميركي.
إن موقف الشرق الأوسط معقد على نحو لا يُصدَّق، فكونه يحتوي على أكبر احتياطيات النفط والغاز في العالم، وفضلًا عن تداخلاته السياسية والتاريخية؛ جعله كل ذلك محطَّ اهتمام القوى الدولية.
هينر فورتيج
مراجعة: عمر الحسن
مركز الجزيرة للدراسات