يدرس العراق تداعيات الانسحاب الأميركي المفاجئ من سورية في ظل وضع امني قلق على الحدود البلدين، حيث بحث الرئيس العراقي برهم صالح مع رئيس الوزراء عادل عبد المهدي التطورات السياسية في المنطقة. وأعلن رئيس الجمهورية العراقية برهم صالح، السبت، أن العراق والمنطقة بحاجة إلى تسوية سياسية للأزمة السورية، مشددا على ضرورة أن يكون الانسحاب الأمريكي من الأراضي السورية عاملا مساعدا لتحقيق السلام لا لبدء مرحلة جديدة من العنف والتدخلات.وأوضح بيان عن رئاسة الجمهورية، أن «صالح بحث مع عبد المهدي اهم الأحداث والتطورات السياسية في المنطق، وتم التأكيد على أهمية ترسيخ الاستقرار والسلام في المنطقة بعيداً من التصعيد والتوتر، وضرورة الركون إلى التهدئة والحوار الجاد لتجنيب المنطقة المزيد من الصراعات»، ونقل عن صالح انه «شدد رئيس الجمهورية على أهمية دعم الحكومة وجهودها لتطبيق المنهاج الحكومي الذي تبنته القوى السياسية والوطنية، اضافة الى وحدة الصف الوطني وتعزيز التلاحم بين القوى الوطنية من اجل تحقيق ما يصبو إليه المواطنين من تحسين الخدمات وتوفير فرص العمل، داعياً إلى تلبية المطالب المشروعة لأهلنا في العديد من محافظاتنا ومدننا العزيزة».
وفي سياق متصل، قال مكتب رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي إن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أكد لعبد المهدي أن الولايات المتحدة ما زالت ملتزمة بقتال تنظيم الدولة الإسلامية في العراق ومناطق أخرى رغم انسحاب قواتها المزمع من سوريا.وقال مكتب عبد المهدي في بيان “تلقى رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي اتصالا هاتفيا من وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو شرح خلاله حيثيات الانسحاب المرتقب من سوريا، وأكد أن الولايات المتحدة مستمرة بالتزاماتها لمحاربة داعش والإرهاب في العراق وبقية المناطق”.وبحث عبد المهدي وبومبيو أيضا قرار واشنطن منح العراق تمديدا لمدة 90 يوما لإعفائه من العقوبات المفروضة على إيران مما سيسمح لبغداد بمواصلة استيراد الغاز الإيراني المهم لإنتاج الطاقة بالعراق.
قرار ترامب يعيد إلى الأذهان الخطوات التى اتخذها سلفه الرئيس الأمركيى السابق باراك أوباما، بالانسحاب من العراق فى عام 2011، وهو ما أثار انتقادات لاذعة للإدارة السابقة من قبل العديد من الساسة، وكان من بينهم الرئيس الحالى نفسه.منتقدوا قرار أوباما قالوا وقتها أن هذا القرار ساهم بصورة كبيرة فى زيادة النفوذ الإيرانى فى العراق، بالتالى تفشى حالة من الفوضى فى المدن العراقية أدت فى نهاية المطاف إلى انتشار الميليشيات المتطرفة التى أثمرت عن ميلاد تنظيم داعش الإرهابى، والذى تمكن فى عام 2014، من السيطرة على المدن ذات الأغلبية السنية، وهو الأمر الذى مثل تهديدا كبيرا للمصالح الأمريكية فى المنطقة.
ساهم انسحاب الولايات المتحدة من العراق بصورة كبيرة فى تقويض ثقة حلفاء واشنطن، خاصة فى منطقة الخليج العربي ، فى السياسات التى تتبناها إدارة أوباما، مما ساهم فى زيادة الفجوة فى العلاقات بين الجانبين، بسبب مخاطرته بأمن دول المنطقة لصالح طهران، فى ظل أنشطتها المزعزعة للاستقرار. ولكن يبقى التحرك الأمريكى فى عهد أوباما متوائما إلى حد كبير مع استراتيجيته، والتى قامت على التقارب مع طهران، وهو ما بدا واضحا فى قيادته للجهود الدولية التى أدت إلى إبرام الاتفاق النووى الذى جمع بين طهران والقوى الدولية الكبرى فى يوليو 2015، وهى الاتفاقية التى أعلن ترامب الانسحاب منها فى مايو الماضى، معلنا رغبته فى إبرام اتفاقية جديدة من شأنها احتواء النفوذ الإيرانى المتنامى فى المنطقة، والذى تراه واشنطن السبب الرئيسى فى الفوضى التى تعانيها المنطقة فى المرحلة الراهنة.
القرار الأمريكى يبدو هنا متعارضا إلى حد كبير مع استراتيجية ترامب، والذى يسعى إلى احتواء النفوذ الإيرانى فى المنطقة، حيث يمثل الانسحاب العسكرى الأمريكى من سوريا بمثابة فرصة نادرة لطهران لفرض رؤيتها فى المنطقة فى المرحلة الراهنة، كما يمنحها مساحة نفوذ أكبر فى ظل الدور الذى تلعبه فى دول أخرى، وعلى رأسها لبنان والعراق واليمن، بالإضافة إلى تحالفها مع روسيا، صاحبة الكلمة العليا فى سوريا، وهو ما يساعدها على إحكام قبضتها على الأمور فى الداخل السورى فى المرحلة المقبلة بالإضافة إلى تسهيل مهمتها المتعلقة بتهريب الأسلحة لحزب الله اللبنانى الموالى لطهران عبر الأراضى السورية، وهو الأمر الذى يشكل تهديدا صريحا لأمن إسرائيل.
ويرى مراقبون أن الانسحاب “مهّد الطريق أمام إيران لترسيخ نفوذها في المنطقة عبر ممر بري يربطها بالبحر المتوسط، وهو الهدف الذي لطالما طمحت إليه طهران وتصدّت له واشنطن”.ويرجح محللون بأن يمكّن هذا السيناريو إيران من إعادة رسم خريطة المنطقة، كون هذا الممر يربط أراضيها بالعراق فسوريا وصولاً إلى لبنان. وينطلق منتقدو قرار الرئيس الأمركي دونالد ترامب من أنه سيسمح لإيران بتحقيق هدف استراتيجي، شكل منعه أحد أبرز أولويات السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط. ومن الواضح أنه انتصار استراتيجي لطهران (…) سيسمح لها بكسر المنطقة العازلة التي أرساها الغرب بين سوريا والعراق ومن ثم التموضع فيها”.
وأكدت صحيفة “واشنطن بوست” أن “داعش” لا يزال قوة إرهابية قاتلة، وسردت هجماتٍ شنها مسلحو التنظيم فى سورية والعراق أخيرا، مستشهدة بأحد كبار المسؤولين الأمنيين في منطقة كردستان العراق، مسرور بارزاني، حيث أكد للصحيفة أن “الدواعش” يعيدون تنظيم أنفسهم، ويستعيدون نشاطهم، وأنه ” من سورية وحتى الأنبار والموصل، نشهد عودة مقاتلي داعش، فعقيدتهم موجودة، ولا يزال لديهم أعداد كبيرة من التابعين”. هناك إجماع أميركي وعالمي على سوء طريقة (وتوقيت) القرار الرئاسي الأميركي، ذاك أن واقع التنظيم الإرهابي “داعش”، في العراق، لم يتغير كثيرا، وأن الجميع يعلم تحول عناصره من حالة القتال والمواجهة إلى حالة الانغماس في المجتمعات المحلية، والعمل بصيغة الخلايا النائمة، وترى الاستخبارات العراقية أن التنظيم الارهابي لا يزال قويا، ويمثل قوة قاتلة في أجزاء كبيرة من أراضيهما، ولديه كوادر قيادية ومقاتلون بأعداد لا يستهان بها، ومدربون جيدا، ومعبأون عقائديا بشكل راسخ وكامل.
والسؤال الذي يُطرح في هذا السياق: هل القوات الأميركية ستتفرغ لوجودها في العراق بعد انسحابها من سوريا؟
بالرغم من إعلانها بدء سحب قواتها من سوريا وأفغانستان، إلا أن الولايات المتحدة، على حدّ تعبير متابعين للشأن العراقي ، “حريصة على بقاء وجودها العسكري والدبلوماسي والاقتصادي في العراق”. ويقولون إن بغداد تلقت تطمينات بأنها “خارج خطط إعادة الانتشار التي تجريها القوات الأميركية في كل من سوريا وأفغانستان”.ونقل هذه التأكيدات وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى القيادة السياسية في بغداد، ممثلة برئيس الجمهورية برهم صالح ورئيس الوزراء عادل عبدالمهدي.وشرح وزير الخارجية الأميركي للرئيس العراقي “مقتضيات وأسباب قرار الانسحاب الأميركي من سوريا”، مؤكدا أن “الولايات المتحدة مستمرة في التزاماتها بمحاربة داعش والإرهاب في العراق”.
وبحسب المتابعين للشأن العراقي ، فإن مغادرة العراق أمر مستحيل بالنسبة للولايات المتحدة، فيما يذهب آخرون إلى أن ما جرى في سوريا سيصب في صالح العراق. وبالنسبة لهم، فإن الولايات المتحدة سيسعها الآن التفرغ للملف العراقي في حال قلصت وجودها العسكري في سوريا، فيما ستتحول الأراضي العراقية إلى ساحة لمراقبة الوضع في سوريا من قبل الجيش الأميركي.ويعسكر الجيش الأميركي في “عين الأسد”، وهي أكبر قاعدة جوية غرب العراق، وأقرب نقطة تجمّع عسكري إلى الحدود العراقية السورية. وبحسب خبراء عسكريون، أجرى الأميركيون تعديلات جوهرية على البنية التحتية لهذه القاعدة بشكل يحقق متطلباتهم الحالية، ويضمن لهم البقاء على الأمد البعيد.ويقول مراقبون إن “أوجه الشبه بين أفغانستان وسوريا منعدمة، لذلك فإن الولايات المتحدة ربما تنسحب كليا من الأولى، لكنها حتما ستحافظ على موطئ قدم في الثانية”. ويضيف المراقبون “أن أي وجود أميركي في سوريا يعني بالضرورة حاجة ثابتة إلى إسناد دائم من داخل الأراضي العراقية”.
لكن الولايات المتحدة لن تعزز وجودها العسكري الفعلي في العراق”بقدر العمل على تثبيته وضمان فاعليته”، وفقا لمصادر عراقية مطلعة على مناقشات قادة عراقيين مع الولايات المتحدة. وتتفق بغداد وواشنطن على عدم الحاجة إلى زيادة عدد الجنود الأميركيين في العراق، بعد القضاء على الجزء الأهم من المخاطر التي مثلها صعود تنظيم داعش، والتحسن الكبير في جاهزية القوات العراقية.
واعتبر المتابعين للشأن العراقي أن وضع العراق يشكل حالة خاصة بالنسبة للولايات المتحدة، مقارنة بسوريا وأفغانستان. “لا أحد يمكنه أن يتساءل مثلا ما الذي تفعله القوات الأميركية في العراق؟ تلك القوات تحمي مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية الضخمة في العراق أولا، وثانيا هي موجودة لحماية وتثبيت نظام الحكم الذي اخترعته الولايات المتحدة ويبدو عاجزا عن الانتقال إلى مرحلة إثبات وطنيته، وهو ما يظهر جليا في تدني شعبيته”.وأضافوا “تخلت الولايات المتحدة عن وجودها في سوريا لأنه لا مكان لها هناك بسبب انعدام مصالحها أما في أفغانستان فإن الولايات المتحدة في طريقها إلى الاعتراف بفشلها عن وضع حدّ لوجود حركة طالبان التي هي أقوى من الحكومة هناك”.
واعتبروا أن العراق الجديد هو صناعة أميركية بامتياز فإن الأميركان يخشون أن ينزلق من بين أيديهم إلى الحاضنة الإيرانية بشكل كلي فيكون حينها بمثابة المنقذ لإيران في مواجهة العقوبات المفروضة عليها. وهنا تكون المعادلة واضحة فمقابل الاطمئنان الذي توفره القوات الأميركية للحكومة العراقية على حاضرها ومستقبلها فإن على الأخيرة يقع واجب تنفيذ ما عليها من التزامات دولية من أجل عدم الإخلال بالعقوبات المفروضة على إيران. وهو ما لا تعارضه حكومتا بغداد وأربيل وإن كانت هناك أصوات موالية لإيران فإن إسكاتها ليس بالأمر الصعب. وهو ما يُفهم من خلال التلويح بمسألة عودة داعش إلى نشاطه المعادي.
وعلى ضوء كل ما تقدم: هل هناك ترتيبات أميركية عراقية ما بعد الانسحاب من سوريا؟ وفقا لخبراء عسكريون، فإن الترتيبات الجديدة بين بغداد وواشنطن، تشمل “تبادل أدوار” بين الجيش العراقي ونظيره الأميركي في عدد من مناطق الشرق السوري المتصلة بالحدود العراقية، ما يسمح لقوات الولايات المتحدة بالخروج من سوريا، وإعادة التمركز في مناطق من غرب الأنبار. وتقول التحليلات العسكرية، التي أعقبت مفاوضات بين بغداد وواشنطن، تسمح للقوات العراقية بالتوغل لنحو 70 كيلومترا داخل العمق السوري، في حال شكلت تحركات تنظيم داعش في المنطقة أي تهديد للحدود، موضحة أن “الجانب السوري على علم بهذه الترتيبات”.وتقول أيضًا إن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، اقترح على المسؤولين العراقيين، أن تتولى القوات العراقية تغطية جانب من العمق السوري، خلال مرحلة الانسحاب الأميركي من المناطق الشرقية، على أن يترك لها تقدير الموقف على الأرض.
ويقول خبراء إن استبدال القوات الأميركية بالعراقية في بعض مناطق الشرق السوري، يستهدف تهدئة الجانب التركي، الذي يتحسس من أي دعم تقدمه الولايات المتحدة لقوات سوريا الديمقراطية التي يهيمن عليها الأكراد. ومن منطلق حماية الحدود، سيكون بمقدور القوات العراقية التحرك في شريط واسع، يعد الجانب الخلفي لقوات سوريا الديمقراطية داخل الأراضي السورية.ولن تكون القوات العراقية بمفردها عند الحدود، إذ تقدم قوة فرنسية دعما مدفعيا مؤثرا في هذه الجبهة.ويخشى الحشد الشعبي، الذي يرتبط بعض قادته بعلاقات وثيقة مع إيران، من أن تعمل القوات الأميركية على عزل وحداته القريبة من الحدود السورية عن خطوط الإمداد الرئيسية التي تتصل بغرب الأنبار، وشمال غرب نينوى. ويقول الخبراء العسكريون إن توفر الجيش الأميركي على قاعدة عسكرية كبيرة “عين الأسد” في منطقة البغدادي، غرب الأنبار، سيتيح لها كشف قطاع واسع من الطرق البرية التي يستخدمها الحشد الشعبي لتعزيز حضوره على الحدود العراقية السورية. وبذل الحشد الشعبي جهودا كبيرة، لإيصال قواته إلى نقاط حدودية، تضمن تأثيره في المجال الحيوي السوري، لكن الخطط الأميركية، ربما تضر بهذه الاستراتيجية.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية